بقلم/ د. رفعت سيد أحمد
استمر التطبيع عبر الثلاثين عاماً الماضية بين الحكومة المصرية والكيان الصهيوني، وتطويع نفر من المثقفين (لا أفهم كيف يكون مثقفاً ومطبعاً في آن؟!) بالتورط في هذا الملف، وشاركوا بفاعلية في التطبيع الصحفي والسياسي ولكن بالمقابل كانت هناك مقاومة لهذا التطبيع متعددة ومتنوعة قبل أن نذكرها نود التفصيل قليلاً في ماذا نعنى بثقافة المقاومة لهذا التطبيع ولغيره؟
* نعنى بـ (ثقافة المقاومة)، تلك الثقافة التى تعلى من قيم الاستنهاض والعزة والمواجهة لدى الأمة حين يحيق بها الخطر الذى يهدد وجودها ، هى ثقافة تعنى استنفار روح التحدى لدى الشعب ، لدى النخبة ، لدى مؤسسات المجتمع الأهلى ، في مواجهة ثقافة آخرى للوهن، والاستسلام ، يطلق عليها تارة اسم الواقعية ، وآخرى اسم (السلام) وايقاف العنف أو اتفاقيات التعاون الاقتصادى كما لاحظنا فى اتفاقية الكويز المصرية الإسرائيلية واتفاقية الغاز كأحدث حلقات الاختراق والتطبيع.
في هذا الاطار كانت (ثقافة المقاومة) هى الأصل لدى شعوبنا العربية والاسلامية في مواجهة دائمة عبر القرون الماضية (تحديداً منذ صدر الاسلام) وهى كانت دائماً في حالة دفاع شرعى عن النفس في مواجهة الغزوات الخارجية التى تريد احتلال العقل والعقيدة بعد احتلال الوطن ؛ والمتأمل للمحطات الرئيسية في مسيرة الـ 1400 عام الماضية سيكتشف أن الأمة كانت في موقع الدفاع عن النفس ضد الهجمات القادمة من الغرب تريد افتراسها وتحطيم وجودها ؛ وهى محطات بدأت بالتتار والمغول مروراً بالحروب الصليبية والاستعمار الغربى الحديث انتهاء بالغزوة الصهيونية والتى بدأت أوائل القرن الماضى (القرن العشرين) ولازالت قائمة لأكثر من مائة عام في تحالف مصلحى عدوانى مع الغرب وبخاصة الولايات المتحدة ، عبر هذه (المواجهات) التى وصلت الى قرابة العشرة قرون ، تشكلت لدى الأمة تلك الثقافة الممانعة ، ثقافة المقاومة ، والتى كان عمودها الفقرى “الاسلام” : ديناً وقيماً وحضارة ؛ لقد أضحى الاسلام هو الجامع لهذه الثقافة ، ولهذا الوجود العربى – الاسلامى ، وهو الذى أعطى الروح لهذه الأمة ، فنهضت وانتشرت وقاومت وانتصرت0
في مواجهة هذه الثقافة : ثقافة المقاومة ، كان هناك دائماً ، ثقافة أخرى تدعو الى (الوهن) والى (القعود) بديلاً عن الجهاد والمواجهة وهى ثقافة كان يتولى دفتها بعض الحكام التابعين للآخر المهاجم ، وبعض المثقفين والسياسيين والدعاة الذين ربطوا مصالحهم ومصيرهم وحياتهم بعجلة العدو الخارجى ، وهم لذلك أنشأوا له في قلوبهم وضمائرهم ، قبل ان ينشئوا في بلادهم ؛ مكاناً رحباً ليقيم فيه ، ويتوغل ، باسم (الواقعية) تارة أو السلام والحوار تارة آخرى ، وكان هؤلاء لا يظهرون عادة الا في أوقات المحن وضعف الأمة وغياب القيادات القادرة على المواجهة والجهاد 0
* ثقافتان إذن في مواجهة بعضهما البعض ، كانا هما ملخص المشهد التاريخى لأمتنا عبر الـ 1400 عاماً الماضية : ثقافة المقاومة وثقافة (الوهن) ؛ دارت حولهما ومن خلالهما المعارك ، وتعددت الاسماء واللافتات ، وفقاً لكل عصر ، ولكنهما ظلتا ثابتتين : فدائماً كان هناك، وسيظل خندقان: الأول يرفع لواء المقاومة والجهاد ، والثانى يرفع لواء الوهن والقعود والاستسلام 0
ذلك كان هو المشهد ، والمعادلة 00 عبر التاريخ ، وهى ذاتها اليوم فى قلب المشهد المصرى في الثلاثين عاماً الماضية (كنموذج للمشهد العربى) ، ربما مع اختلاف الاسماء واللافتات ، ولكن المضمون واحد 0
* * * *
في اطار هذا المشهد الدرامى ؛ نتساءل أين (مصر) منه ؟ ومصر التى نعنيها، هى مصر –الدولة، والدور ، وليس مصر النظام السياسى الحاكم الذى ربط حاله ومصيره ومستقبله – للاسف الشديد – بشرايين الدورة الدموية الامريكية في العالم ، وكبل أقدامه وأرجله بقيود المعونة الامريكية [حوالى 2 مليار دولار ] والتى تعود في أغلبها على من منحها في دورة شيطانية خطيرة ؛ تعود مادياً تارة أو على هيئة منافع سياسية وعسكرية تارة اخرى 0
والاهتمام بالسؤال : أين مصر من كل هذا ؟ نابع بالأساس من (محورية مصر) في عالمها العربى والاسلامى وليس لتعصب لها ؛ فهى عاصمة هذا العالم ، وهى جهازه العصبى (كما قال من قبل العالم الراحل جمال حمدان)، وهى ان نهضت نهض ، وإن قاومت قاوم ، وان هزمت هزم – للأسف – مهما حاولت الأطراف أن تستفيق وتقاوم 0
أين مصر من هذا الصراع الدامى بين الثقافتين ؟ ثقافة المقاومة ، وثقافة الوهن والاستسلام؟
* * *
في مواجهة الاختراق الأمريكى / الإسرائيلى لمصر ، اصطف وعبر الثلاثين عاماً الماضيةمصير الدراسة ك وكان له دور مشبوه في توقيع اتفاقية توصيل الغاز المصري إلي إسرائيل عامي 2008/2009 من الضعف والتشتت وا، فريق آخر مقاوم ، حمل عن وعى وبإدراك مبكر راية المقاومة وثقافتها ، وامتد نشاطه من الكلمة حتى حمل السلاح واستخدامه ضد رموز الخيانة ، هذا الفريق اندرج فيه حوالى 30 هيئة وحزب ومؤسسة اجتماعية مصرية وقطاعاً محترماً من أهل الحكم ممن رفض أو تحفظ على أسلوب الهرولة تجاه (التطبيع) مع العدو الصهيونى أو الترويج لثقافة السلام الوهمية التى أرادت أمريكا أن تخترق بها مصر الدولة والدور ، ومنذ خطت أقدام السادات أرض القدس عام 1977 التقى المناضلون المصريون عبر هيئات اجتماعية وأحزاب وطنية بهدف مقاومة هذه الهجمة الشرسة التى يقودها رأس الدولة ذاته ، فما كان منه إلا أن سجن 1536 سياسياً وإعلامياً معارضاً يوم 5/9/1981 ، بسبب أنشطتهم المضادة لخطه السياسي، وبعد شهر واحد من هذه الاعتقالات الشهيرة تم اغتيال السادات على يد خالد الاسلامبولى ظهر يوم الثلاثاء الموافق 6/10/1981 وسط جنوده وسلطانه ومجده، وكان لأحزاب (التجمع) و(العمل) والناصريين ونقابات المهندسين والأطباء والمحامين والصحفيين والجماعات الإسلامية وبخاصة الإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية ، آنذاك أدواراً مجيدة في الدفاع عن ثقافة الوطن وهويته ورفعت جميعها راية المقاومة في مواجهة راية الصهينة، ومع تصاعد الحملة الأمريكية الإسرائيلية خلال الثلاثين عاماً الماضية على الجسد المصرى ، تشكلت عشرات اللجان الشعبية المقاومة والتى مثلت جداراً منيعاً ضد الاختراق والغزو من ناحية وأداة لدعم ومساندة المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق من ناحية أخرى ، ومن أبرزها [ اللجنة العربية لمساندة المقاومة فى لبنان وفلسطين – اللجنة الحزبية لمقاومة التطبيع – الحركة الشعبية لمقاومة الصهيونية – لجان دعم الانتفاضة الأولى والثانية – لجان مقاومة التطبيع الزراعى – الجبهة الوطنية لمقاومة المشروع الأمريكى الصهيونى – لجنة مناهضة الصهيونية – لجنة الدفاع عن الثقافة القومية – لجان دعم المقاومة العراقية – حركة كفاية و 6 إبريل، اللجنة العامة لمقاطعة السلع والشركات الأمريكية والإسرائيلية وغيرها ] واستعملت هذه اللجان جميع وسائل المقاومة السلمية بدءاً بالمظاهرة والدعم المادى للمقاومة ومروراً بالصحف والمؤتمرات والندوات وانتهاء بالمقاطعة الاقتصادية والثقافية والإعلامية لكل ما هو إسرائيلي أو أمريكي وغيرها من وسائل المقاومة السلمية.
وتوازى مع أنشطة هذه اللجان التى لا يزال أغلبها يعمل بفاعلية حتى اليوم، الفعل العسكرى المسلح حين أنجبت مصر [ سليمان خاطر وأيمن حسن ومحمود نور الدين قائد تنظيم ثورة مصر ] الذين قتلوا في الثمانينيات عبر العمل المسلح ما يقرب من العشرين إسرائيلياً كانوا يعيثون في مصر فساداً باسم التطبيع والعلاقات الطبيعية وتواصل هذا الفعل المسلح ضد الإسرائيليين وقوع أحداث أخرى دامية مثل؛ حادث طابا فى نهاية 2004، وما تلاه في مناطق أخرى متفرقة، وكان للصحف المعارضة والمستقلة وللكتب الوثائقية والأفلام والمناظرات وللفضائيات دورها الإيجابى في تصعيد وإشاعة ثقافة المقاومة في مصر (وقطعاً في بلادنا العربية) في مواجهة ثقافة الصهينة والاستسلام، والتي لم تعد فحسب خياراً للأمة بل قدراً لها، عليها أن تأخذ به ففي ذلك حياتها وسر بقائها0
والله أعلم
E – mail : yafafr @ hotmail . com