علاء الدين حمدى
ـ بعد استقلال لبنان ، 22 نوفمبر 1943 ، وفى ظل قوى وصراعات ومصالح ودوافع سياسية متباينة ، وضعت الدولةالوليدة لنفسها أعرافا دستورية لها طبيعة خاصة ، صيغت على خلفية أن ” تمتلك ” كلطائفة من طوائف المجتمع اللبنانى تمثيلا معينا ، كوتة ، داخل المنظومة الحاكمة ، وفقالقوة كل منها وحجم نفوذها وعدد المنتمين اليها ، بمعنى أن الدستور ، الذى نص فىمقدمته فقرة ” ح ” على أن ( إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العملعلى تحقيقه وفق خطة مرحلية ) ، جاءت أعرافه بتجميع هيكلى لطوائف المجتمع اللبنانىلتركيب آلية محددة للحكم وادارة الدولة ، وليس لصهر هذه الطوائف بكاملها فى بوتقةالوطن لتشكيل كيان واحد تنتقى منه الإرادة الشعبية أدواتها الحاكمة دون قيد أو شرطأو ترجيح للنفوذ الطائفى وعناصر قوته القابلة للتغير وفقا لمقتضيات الأمور وسننالحياة ، وبالتالى سعت هذه القوى الى تقسيم الإطار السياسى ومناطق النفوذ الجغرافيةداخل الدولة فيما بينها بدلا من توحيدها على أساس ” حق المواطنة ” أو الوحدةالوطنية ، فأضحى الانقسام هو الأصل والولاء للطائفة يسبق الولاء للوطن الكبير ،وباتت الدولة ، بأعرافها الدستورية ، هى الراعى الرسمى لهذا الوضع الذى لا يوجدمثيل له ، على الأقل فى عالمنا العربى ، والذى ربما كان أحد أسباب خروج الكثير منصفوة اللبنانيين الى دول المهجر ، فأصبح لبنان ” جمهورية ديمقراطية برلمانية ” ولكنطوائفية ، نظامها وعرفها الدستورى يستوجبان توزيع السلطات على الطوائف ال 18المؤلفة للمجتمع اللبناني ، فمثلا رئيس الجمهورية يجب أن يكون مسيحى مارونى ، ورئيسالوزراء مسلم سنى ، ثم بعدها أصبح رئيس مجلس النواب مسلم شيعى ، الخ ! وذلك وفقاللقوى الطائفية والتركيبة السكانية كما قلنا دون اعتبار للمتغيرات التى من الممكنأن تطرأ مستقبلا لتقلب موازين القوة بين الطوائف سلبا أو ايجابا ، وبالتالى يمكنلأحداها المطالبة بمنصب الرئاسة مثلا ! أو ظهور قوة طائفية مسلحة يمكنها تغييرالمنظومة ” المتعارف ” عليها بالقوة وفقا لارادتها أو لارادة الدولة الراعيةالداعمة لها ، كما حدث بعد رفض الدولة اللبنانية الرسمية لوجود ” شبكة اتصالات حزبالله ” فى مطار بيروت مؤخرا ، وما تلاه من نزول ميليشياته الى الشارع واحتلالهالبيروت ، ومحاصرتها لسراي الحكومة بغية اسقاطها ، وتوجيه سلاحها الايرانى الى صدورشركاء الوطن والمصير ! الأمر الذى عجزت فيه الدولة الرسمية بكل أدواتها عن اتخاذقرار حاسم حياله ، فاضطرت للتراجع والخضوع للأمر الواقع ، لتعود ميليشيات الحزب الىقواعدها بعد أن أصابت البنيان اللبنانى بشرخ جديد عميق تصعب مداواته على المدى القريب .
ـ الشاهد أن النتيجة الحتمية لهذا الوضع الغريب كانت تحول تلك ” الطوائف ” الى دولشبه مستقلة داخل الدولة الأم ، دول لها ثقافات وقوانين وأعراف متباينة ، ومذاهبدينية خاصة ، يتم توظيفها جميعا للحصول على مكاسب سياسية وفقا لقوة كل طائفةوعلاقاتها الخارجية إقليميا ودوليا ، دول لها مدن وعواصم ومناطق نفوذ جغرافيةارتضاها الجميع ، مرغما أو الى حين ! واتفق على أن تجاوز ذلك يعتبر بمثابة اعلانللحرب ، للدرجة التى جعلت التجول داخل بعض مناطق الوطن الواحد يستلزم تصريحا خاصامن أصحاب مناطق النفوذ ! فسمعنا عن بيروت الشرقية وبيروت الغربية ، وعن الشمالوالجنوب ، الخ ! فكانت الخطوة الطبيعية المكملة لهذا الوضع هى البحث عن سبل الحماية، والتنافس المحموم على إنشاء قوات مسلحة خاصة بكل طائفة ، ميليشيات ، بلغت حدتشكيل جيوش شبه نظامية لها هيكل عسكرى متكامل من ضباط وصف وجنود ، واقامة حفلاتوعروض عسكرية لتخريج دفعات جديدة من هذه الميليشيات بعلم الدولة ورعايتها وبتغطيةمن وسائل إعلامها المختلفة وبحضور رسمى لممثلين عن الدول الداعمة لهذه الطوائف ! فكان نتاج ذلك تنامى مشاعر الغرور بالقوة وترسيخ عقيدة ” أن الطائفة هى الأساس ” ،وليس الوطن بمفهومه التقليدى !
ـ ودفع استفحال هذا المناخ سياسيا وعسكريا بلبنانالى ان يصبح بيئة خصبة للتوترات والحروب الأهلية التى ليس فى وسع مؤسسات الدولةمنع نشوبها فى ظل وجود الميليشيات التى أعدت أصلا انتظارا لهذا اليوم ، وفى ظلالحكومات التى يتم ” تجميعها ” ، رغم دستوريتها ! لتكون ممثلة عن الطوائف المختلفةولخدمة وتنمية مصالحها المقتطعة من الجسد اللبنانى ومقوماته وجغرافيته التى لاتتغير ! بمعنى أن أى مكاسب إضافية لطائفة ما ، هى بداهة انتقاص من مصالح طائفةأخرى ، لذلك لا يمكن الحصول عليها إلا عنوة أو نتيجة خوف الآخرين ! وكذلك فى ظل عدموجود جيش نظامى بمعناه المعروف يخضع لسيطرة الدولة بصورة كاملة باستطاعته تحجيم هذهالميليشيات أو حلها ، ناهيكم عن وجود الطائفية داخل قوى الجيش نفسه ، بل ان الدولةسمحت ، وقتا ما ، للاجئين الفلسطينيين المحتمين داخل أراضيها بالدفاع عن أنفسهم ضدالغارات الإسرائيلية دون انتظار حماية منها ! فكان من الطبيعى أن يرفع أولئك السلاحفى وجه أى قوى تهدد وجودهم على الأرض وبقائهم على الحياة بما فيها اللبنانيين أنفسهم ، خاصة بعد أنأصبحوا ، وأغلبهم من المسلمين السنة ، جزء لا يستهان به من التركيبة السكانيةللبنان ومصدر قلق طائفى لجنوبه الشيعى تحديدا ، الأمر الذى تسبب فى كثير من الصراعاتالدموية كمذبحة مخيم ” تل الزعتر ” 1976 التى ( قام بها الجيش السوري ، بحقاللاجئين الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر في لبنان ، شرق بيروت ، وراح ضحيتها أكثرمن ثلاثة ألاف فلسطيني حيث تم القيام بعمل ابادة جماعية لسكان المخيم بعد قطع الماءوالكهرباء والطعام لعدة أيام عن المخيم قبل المذبحة مما سهل الأمر على الجيش السوريوبعض المليشيات اليمينية اللبنانية المتعاونة معهم من تحقيق هدفها والقضاء علىالمقاتلين المتحصنين بالمخيم وأهاليهم بالكامل حيث قام الأهالي الناجون من المذبحةبأكل لحوم الأموات من المقاتلين ولحوم الكلاب والقطط خوفاً من الموت جوعا ) ” محمدعبد الغني النواوي ـ الصراع العربي الإسرائيلي ” .
وأيضا مذبحة ” صابرا وشاتيلا الأولى 1982(أكثر من 3500قتيل أغلبهم من الفلسطينيين ، شنتها ميليشيات حزب الكتائبالمارونى وقوات ” سعد حداد ” التى سبق وضمت الى صفوفها 2000 مقاتل من عناصر ” منظمةأمل الشيعية ” لتشكيل ما سمى ” بالحرس الوطني ” في الجنوب اللبنانىتحت رعاية إسرائيل ( مجلة ” الأيكونومست يوليو1982 ” ، وجرت المجزرة بتعاون اسرائيلى قاده” آريل شارون ” الذى حاصر المخيم بقواته العسكرية وأطلق قنابله المضيئة ليلا فى سمائه لينيرالطريق أمام ” جزارى ” الكتائب وحلفائهم !
ثم تلاها فى 1985 ما اصطلح على تسميته ” مجازر حرب المخيمات ” ( شنتها ” منظمة أمل الشيعية ” ، الأب الروحى لحزب الله،بقيادة ” نبيه برى” واثنين من أعوانه هما ” داود داود وعقل حمية ” مدعمة بقواتلوائين من الجيش اللبنانى يسيطر عليهما ضباط شيعة ، على مخيمات الرشيدية والبرجالشمالى والجنوب وبرج البراجنة وصبرا وشاتيلا للمرة الثانية ، وهى مجازر أسفرت عنما يفوق ال 3100 قتيل أغلبهم من الفلسطينيين ) ” أمل والمخيمات الفلسطينية ـ د. عبدالله الغريب ” ، ” نصر الله رئيسا لوزراء لبنان ـ شاكر النابلسى “.
ـ والطوائف فىأى مجتمع ، ليس بامكانها أن تصبح ذات سطوة ونفوذ داخلى الا اذا تلقت الدعم الخارجىالسياسى والمالى من الدول التى لها نفس الأيدلوجية السياسية أو الثقافية أو الدينيةللطائفة ، وبالتالى لها مصالح داخل دولتها الأم أو فى نطاقها الاقليمى ، أو ببساطةدعم الطائفة لتكون مخلب القط لصالح الدولة الداعمة ، دون الوقوف طويلا أو قصيرا عندمسألة الولاء للوطن والُلحمة الوطنية وما شابه مما يأتى فى مراحل متأخرة جدا من أيدلوجيات الطائفة ، وهذا هو مدخلنا للحديث عن ” حزب الله اللبنانى ” ، مع تحفظىالشخصى على الاسم .
ـ فلبنان ، بشعبه العبقرى المحب للحياة المتميز بمراحل عن غالبية الشعوبالعربية ، وبالخلفية السياسية المختصرة التى سردتها آنفا ، وبموقعه الجغرافى كأحدأهم مناطق ” الهلال الخصيب ” عربيا ، أو” الهلال الشيعى ” فى المشروع الايرانىالمنشود , إضافة الى كونه يضم طائفة شيعية قوية ذات تاريخ مرجعى يجعلهاالأب الروحى ، والأم أيضا ، لكل الشيعة ” الاثنى عشرية ” على مستوى العالم حتى فى إيران ! لكل ذلكأصبح لبنان بمثابة المعبر الأمثل الذى يسمح للساسة الإيرانيين عموما باختراقالمنطقة ، خاصة مع تاريخية العلاقة المذهبية المشتركة بينهما التى كتب عنها الكثيرون ، مثل ” وضاح شرارة ـ دولة حزب الله ” ، ” أحمد الكاتب ـ تطور الفكر السياسي الشيعي ” ، ” أوليفيه روا ـ تجربة الإسلام السياسي ” ، ” عبد المنعم شفيق ـ حزب الله رؤية مغايرة ” ، ” حسن غريب ـ مجموعة ابحاث ” ، ” مهدى فرهانى الايرانى ـ هجرة علماء الشيعة ” ، وغيرهمالذين شرحوا كيف بدأت هذه العلاقة منذ تأسيس الدولة ” الصفوية ” 1501 : 1722 م ،وقرار ، أو دهاء ، مؤسسها ” أبى المظفر شاه اسماعيل الهادى الوالى الصفوى ” بالتحولمن ” مذهب السنة والجماعة ” ، الذى استمر فى ايران وأغلب المناطق حولها طيلة مايقرب من الألف عام السابقة على تأسيس دولته ، الى المذهب الشيعى الاثنى عشرى ليصبحالمذهب الرسمى الجديد للدولة ، ربما ليس عن اقتناع دينى ، فلم يكن هناك ما يحتم ذلك، ولكن ، فى تحليلى ورأيى الذى قد يحتمل الخطأ ، كان رغبة منه فى توطيد أركانالدولة الصفوية الوليدة سياسيا , وتحصينها شعبيا ، باختلاق مبرر دينى يظهرها بمظهر جندالله المدافعين عن ” مذهبه الحق ” وذلك لاكتساب نوع من الشرعية تمكنه من حشد الشعوبالخاضعة لسيطرته ومن ثم تمنحه القوة لمواجهة دولة الخلافة العثمانية القوية ذات المذهب السنى ، وهىنفس الايدولوجية الديماجوجية فى ادعاء احتكار الحق والحقيقة للوصول الى أهدافسياسية بحتة عن طريق استغلال الدين التى تمارس منذ بدء الخليقة حتى عند الوثنيين ! والتى دائما ما تأتى بنتائج مضمونة على المستوى الجماهيرى ، هذا اضافة الى رغبةالمؤسس ، بنزعته العنصرية ، فى استخدام المذهب ” الاثنى عشرى ” كسلاح شعبى قومى يحافظعلى تفرد وبقاء واستقلالية الهوية ” الفارسية ” التى كادت تذوب وتتلاشى فى محيطهاالاقليمى بعد تلاشى هيمنتها على دولة الخلافة العباسية عقب سقوطها فى الشرق 1258م ،قبل سقوطها الأخير فى مصر 1517 م ، وبالمناسبة ، وبين قوسين ( بقيت من دولة الخلافةالعباسية امارة وحيدة اسمها ” بستك ” على الضفة الإيرانية للخليج العربي ، ظلت تحتحكم العباسيين من نسل حبر الأمة عبد الله بن عباس رضى الله عنه ، وعلى مذهب الإمامالشافعي ، الى أن سقطت نهائيا تحت سيطرة إيران الشاه عام 1967 م ) .
ـ كان المذهبالشيعى الاثنى عشرى فى ذلك الحين ، أى مع بدايات ظهور الدولة الصفوية ، مهمشا خاضعا لنظرية “الانتظار والتَّقِيَّة” ، منزويا ومحصورا فى منطقة ” جبل عامل ” بجنوب لبنان وسطبحيرة اقليمية واسعة تموج بالمسلمين السنة ، لذلك كان فقهاء ” جبل عامل ” يمثلونأهم المرجعيات الاثنى عشرية على الاطلاق بين القرنين الرابع عشر والسادس عشرالميلادى ، وهو ما دفع بالصفويين الى الاستعانة بهم واستجلابهم ، مع قلة آخرى منعلماء العراق والبحرين ، للمساهمة فى توطيد أركان الدولة الصفوية كما ذكرت آنفا ، عنطريق ترسيخ التشيع بهيكل فقهى وبنيان دعوى الى جانب ما تقوم به الدولة بحد السيف ! ومن هنا بدأ الارتباط المصيرى” الايرانى ـ اللبنانى ” وتحولت ايران الى المذهبالشيعى الاثنى عشرى ، وتبدلت المواقف والمواقع لتصبح ” قُم ” الايرانية قبلة الشيعةالاثنى عشرية على مستوى العالم ، حتى لأولئك الباقين فى ” جبل عامل ” حاليا ،وليصبح لبنان بؤرة لاهتمام الساسة الايرانيين عموما من وقتها والى الآن ، ونستكملفى حديث قادم ان أراد الله تعالى ، ثم أذن مضيفونا ، وكان فى العمر بقية .
ضمير مستتر، يقول تعالى
{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } المجادلة6
علاء الدين حمدى
a4hamdy@yahoo.com