أرشيف - غير مصنف
عرفات :الحقيقة التي تبحث عن الحقيقة
دكتور ناجى صادق شراب
لست بصدد إستحضار السيرة ألذاتية للرئيس عرفات ، لكن إستذكار هذه السيرة وما تركته من حقائق فى هذه الظروف الصعبة التى تمر بهاالقضية والشعب الفلسطينى من إنقسام سياسى ومجتمعى غير مسبوق قد يكون مهما ، وخصوصا بعدألإتهامات ألأخيرة بإغتياله . وليس هدفى الرد على هذه ألإتهامات ، بقدر ألتأكيد على الحقائق التى تركها والتى تجب كل إدعاء ظالم وغير صادق . وأكتفى هنا بالتأكيد على حقيقة إغتياله . وهذا هو مصير القيادات التاريخية والوطنية ، والقادرة على قيادة مسيرة شعبها نحو الكرامة والتحرر الوطنى ، وتحويل مسارات التاريخ فى مسارات معارضه ومتصادمه مع مسارات خارجية ، ولذلك توجيه إتهامات ألإغتيال فى غير نطاقها وسياقها يكون فيه مساس بسيرة هذه الشخصية . ومس بشخصيتها وهويتها الوطنية .
فالرئيس عرفات من الشخصيات القيادية التى سجلت وحفرت إسمها فى سجل التاريخ العربى الحديث والمعاصر ، وترقى إلى مستوى القيادات التاريخية والوطنية التى شهدتها المنطقة وهى كثيرة على التعداد ، قيادة جمعت ما بين الوطنية وألإقليمية والدولية . وقد إكتسب وأكسب هذه المكانة من قضيته التى قد شكلت وما زالت أحد أهم عناصر قوة هذه الشخصية . وهنا العلاقة العضوية التى تجمع بين القائد وقضيته ، وهذا من عوامل نجاح وديمومة هذه القيادة حتى بعد مماتها . إلى جانب شخصيته الكارزمية ، والتى لم تتأثر بمظاهر ترف السلطة ومغانمها ، وقد يكون غيره ، لكنه بقى بلباسه العسكرى التقليدى كرمز على خيار المقاومة الذى ظل متمسكا بها مع خيار السلام وغصن الزيتون.
ولعل من الإنجازات التى لا يمكن لأحد أن ينكرها على الرئيس عرفات أنه جسد الشخصية والهوية الفلسطينية بكل مكوناتها وعناصرها وثوابتها الوطنية . والسؤال الذى يقطح هذا الحديث : هل كان يملك المقومات والمؤهلات وعناصر التأثير التى تسمح له بالتوقيع على أى إتفاق للتسوية وخصوصا فى مباحثات كامب ديفيد الثانية المكوكية ، والتى جمعته بالرئيس ألأمريكى كلينتون ورئيس وزراء إسرائيل وقتها باراك ،؟ وألإجابة بالقطع نعم ، ولكنها القضية الفلسطينية التى شكلت المكون ألأساسى لهذه الشخصية ، فالرجل إعتقد جازما أنه وعلى الرغم من إمتلاكه قلم التوقيع ، ومن تأكده أن أغلبية شعبه ستقف ورائه ولن تشكك فى دوافعه ونواياه الوطنية ،إلا أنه رفض ذلك ، وبالتالى ليس مهما الثمن السياسى والجسدى الذى سينتظره وهو يعرف ذلك . لذلك دفع شعبه إلى المقاومة ، وقد نختلف أو نتفق معه فى ذلك . القضية الفلسطينية أعطته ومنحته هويته الوطنية ، وهويته العالمية ، ووسعت من إدراكه ورؤيته السياسية لإدارة قضيته بروح سياسية عقلانية وواقعية .، فعرف حدود دوره ودور قضيته ، ودور النغير الفلسطينى فى معادلة الصراع ، وتفهم دور المقاومة وحدودها ، ودور المفاوضات وخيار سلام الشجعان الذى أدرك أهميتها فى هذه المرحلة من الصراع ، حتى يكشف الوجه ألأخر لإسرائيل ، ويكسب التاييد الدولى لقضيته وشعبه . وإدراكا منه بأهمية أن يكون لهذا الشعب دولة وكينونة سياسية . تحتضنه وتحتضن قيادته . ولذلك ذهب للمفاوضات وخيار السلام وهو فى قوته . لكنه لم يسقط معرفته وإستيعابه للصهيونية وأيدولوجيتها ، وكيف يفكر قادة إسرائيل ، فتعامل مع كل قادتهم وأحزابهم من اليسار إلى الوسط إلى اليمين.وخلص إلى خلاصة انه لابد من محاصرة إسرائيل فى الدائرة الواسعة التى إحتكرتها إسرائيل على مدار سنوات طويلة . لكنه لم يسقط خيار المقاومة المشروعة ، وإن لم تتفهمه المقاومة ذانها ، لإنهاء الإحتلال ،
وفى الجانب ألأخر فقد حافظ على حيوية وفعالية قضيته ، وجعلها قضية شعب ، وجعل منها قضية قائمه على ألأجندات السياسية ألإقليمية والدولية . وفى الوقت ذاته القضية الفلسطينية صبغت شخصيته بالثورية والوطنية وحولته أيضا إلى رجل دولة من طراز فريد على الرغم من عدم قيام الدولة ـ لكنه أوجدها كحقيقة مادية وقانونية ، وحارب من أجل أن تستكمل سياسيا. ولكل هذه الإعتبارات ألإغتيال لم يكن بعيدا عنه حتى وهو محاصر ، لذلك لا بد من البحث عن طريقة هادئة محيرة وهى ألإغتيال بالسم البطئ. .لقد أظهر الرئيس عرفات براعة نادرة أكسبته إياها القضية الفلسطينية ، وهى قدرته على توظيف كل أدوات اللعبية ألسياسية , واللعب على سياسة المحاور ألإقليمية ، وإن كان قد وقع أحيانا فى مصيدتها ، ولا أقول ان حسابات الرئيس عرفات كانت دائما صائبه ، فهناك فشل ن وهناك نجاح ، وهناك تقدم وهناك تراجع ، لكن نواياه واهدافه وحبه لقضيته ظل ثابتا .
لقد كان حصاره فى رام الله مرحلة سياسية هامه فى حياته ، وكانت بداية النهاية . حصاره كان حصارا للقضية الفلسطينية ورفضا لتنازله عن الثوابت الوطنية ن وتحديا فى وجه التيارات السياسية الإسرائيلية المدعومة أمريكيا لينتهى هذا الحصار بموت سريرى إغتيالى .
والرئيس عرفات ليس مجرد رمز وليس مجرد أسطورة ، بل هو حقيقة مثل حقيقة شعبه ، وحقيقة القضية الفلسطينية كما هو أغتياله حقيقة واضحه لا تحتاج إلى توجيه إتهامات فيها إلى هذه اليد أوغيرها . واخيرا تقاس القيادة بالإرث وبالحقائق التى تتركها ، فلقد ترك مجموعة من الحقائق :أولها أن القيادة تضحية ، وليست منصب أوترف سلطة . وثانيا أن القيادة مبادئ وعقيده ثابته راسخه ، وثالثا الإنفتاح على العالم فقضيته قضية دولية ولا يمكن التحكم فى كل متغيراتها ، ومن ثم لا بد من التعامل والتعاطى الإيجابى معها . ورابعا القيادة أشكال متعددة ، لكن يبقى لها جوهر واحد لا يتغير ، وبقى الطابع الثورى لقيادته واضحا وظاهرا فى كل خطبه وتصريحاته . وخامسا أدرك أهمية ألإبداع فى إدارة القضية دون التخلى عن الهدف الرئيسن فأدرك قيمة الدولة التى عمل من أجلها ، والتى فيها تلتقى القيادة مع الشعب مع ألأرض لتشكل مرحلة جديد فى النضال السياسى. هذه بعضا من الحقائق التى علينا أن نستلهمها وندركها بدلا من توجيه إتهام هنا أو هناك من شأنه أن يضيع إنجازات هذا القائد .
دكتور ناجى صادق شراب /استاذ العلوم السياسية /غزه