– أهلاً يا أبو العبد .. معقول يا رجل أصبحت جارنا بهذه السرعة؟ِ
– أبو محمود! أصبحت عظامك مكاحل يا رجل! منذ متى استشهدت يا جارنا؟
– لا يا أبو العبد .. أنا متت من مضاعفات السكّري وضغط الدم ومتطلبات زوجتي التي لا تنتهي، يعني ضروري كلّ ما واحد منّا طقّ وفرطت روحه تعتبروه شهيدا؟
– معك حقّ يا أبا محمود .. على أية حال يوجد ورائي شلّة شهداء عن حقّ وحقيق .. حماس على فتح على ديمقراطية وشعبية والجهاد أيضاً قدّموا ما توفّر من الشهداء. صدّقني يا رجل نساءنا مناضلات من الدرجة الأولى! كلّ ما استشهد واحد فقّسوا عشرة! طلعت روح اليهود، كلّ يوم أوراق ثبوتية جديدة بالآلاف .. محمد، علي، موسى، عاشور .. حتى الكيماوي والقنابل الفسفورية ما قطعت الحَبَلْ. أين المضافة يا أبا محمود؟ أنا أشعر بالملل الشديد!
– على مهلك، بعد قليل سيبدأ الامتحان الصعب لتحديد وجهتك .. كنت تصلّي يا جارنا؟
– يعني مثل جميع الناس، الركعات المتعارف عليها.
– والزكاة؟
– لم أرفض أعطيات بيت الزكاة، أنت تعرف البئر وغطاءه .. وإذا كنت تنوي تسألني عن الحجّ فأخبرك منذ الآن بأنّ سلطة الاحتلال منعتني من الذهاب إلى مكّة أكثر من مرّة.
– أمامك فرصة جيّدة لتجاوز الامتحان.
– يا أبا محمود .. أم العبد كانت مريضة في أيامها الأخيرة وكنت محروم من النساء فترة طويلة، كيف الوضع هنا، هل هناك إمكانية لتعويض ما فاتنا؟
– يا مجنون كان بإمكانك تتزوج مثنى وثلاث ..
– أمّ العبد لا تقبل بضرّة أبداً يا جارنا .. أنت تعرفها جيّداً .. والله تضربني أنا وضرّتها صبحاً ومساء!
– ما يزال الوقت مبكّراً على الجواري والحوريات! هنا في المقبرة الرجال متعصبين خذ بالك فهم شديدو الغيرة، ويضربون دون سابق إنذار!
– لم يبقَ الكثير لضربه يا جارنا! زمان عن لعبة شطرنج يا أيا محمود؟
– أمامك الدهر كلّه يا رجل .. أنت دائماً بصلتك محروقة!
يسمع صراخ من القبر المجاور
– وبعدين معكم يا جماعة .. قرّفتونا عيشتنا فوق، والآن لا نستطيع أن نرتاح قليلاً تحت التراب! اسكتوا .. خلصونا بدون ثرثرة زائدة!
– ربيع .. أبو العبد فقع قلبه ومات وصار جارنا، أتتذكر جارنا أبا العبد؟
– وراءنا دائما .. الله يأخذه!
– المولى أخذ روحه وخلّص!
– شهيد ولا فطس في فراشه؟
– أم العبد قصّرت عمره ..
– يعني شهيد! أخبرني يا أبا العبد، ما هي أخبار ليلى بنت أبو سلطان؟
– ليلى؟ لحظة .. اثنان ثلاثة أربعة. لديها الآن ستّة أولاد وثلاث بنات، استشهدوا ولدين وبنت في أحداث غزّة الأخيرة .. احسبها بمعرفتك يا ربيع؟
– الله يسمّم بدنك يا رجل .. كانت فتاة في عمر الورود، والآن لا بدّ أنّها قد أصبحت امرأة عادية بعد كلّ هذا الخَلَفْ!
– بل ما تزال جميلة يا ربيع .. صدّقني، ما تزال تزيّن حيّ شجاعيّة غزّة وبرجوازية رام الله.
– راحت علينا يا جار .. رصاصة في الجبين وأخرى في الكبد ورصاصتين في القلب وكسروا ذراعي وقدمي وجرّوني خلف المجنزرة ورموا فوقي حجارة، كانوا يرغبون بإحيائي مائة مرّة لإماتتي مائتين! كنت أرتقي فوقهم وأضحك بملء فمي .. كانوا عجزة وغير مصدّقين بأنّ رجلاً واحداً قادر على مواجهة كلّ هذا الحشد من الجنود. الاحتلال جبان يا جماعة. وما راح حقّ وراءه مطالب!
– كأنّي ما أزال في ديوان الحيّ .. نفس الحكايا!
– ولكنّ الأبديّة كالوطن يا جاري. حتى وإن كان القبر ضيّقاً، لا يهمّ ما دمنا نرقد في أبديتنا وسط البلد.
– شجوننا لا تنتهي .. هل لديكم سيجارة؟ أنا خرمان على كاسة شاي بالنعناع يا جماعة.
يضحك الجميع من حوله
– لم تعد لنا أفواه يا مراهق.
– وهل لحالات الموت مراهقة؟
– بل هي أضغاث أحلام وهوس كاتب حشرنا في هذه المقبرة لنصبح عبرة لمن يعتبر.
– ومن أين له بعلم الغيب .. يا له من مراهق!
– يُحاول أن يتوحّد مع الوطن حتى بعد الموت، لهذا يتدخّل الآن في أمورنا، وأقترح أن نلزمه بالصمت، وإذا كان مصرّاً على التدّخل الدائم بأمورنا فليحضر لطرفنا، ليس كزائر ولكن كرفيق درب!
– الموت لا يستعجل أحداً! يأتي في الوقت المحدّد دون تأخير. دعونا من الكاتب الآن وأخبروني عن مستقبل المقبرة. هذا بيتنا يا جماعة ولن نتخلّى عنه مهما حدث.
– سمعت بأنّ الاحتلال ينوي طمر المقبرة وبناء مستعمرة فوقها .. يعني فوقنا!
– هل وصلت بهم الوقاحة إلى هذا الحدّ؟
– سينقلون عظامنا إلى المزابل وسيحرقون بقايانا يا رفاق!
– هذه نهايتنا .. المزابل والمحارق! وماذا يمكننا أن نفعل؟
– ليس الكثير .. يمكننا أن نتحوّل إلى كوابيس نقلق ليلهم ونهارهم ..
– والله شفت فيك يوم يا فارس .. عظامك ستحرق في المزابل؟
– جمعاً يا وليد!
– انسوا الخلافات يا جيران الزفت، يعني ضروري تنقلوا خلافاتكم إلى الأبدية؟
– الصبر طيّب يا جماعة، لا بدّ من المصالحة حتى تستقيم أمورنا.
– سرق منّي فارس حبيبة القلب قبل النكبة بيوم. لا أدري ماذا حدث بعد ذلك؟
– قتل فارس في اليوم التالي .. هذا ما حدث يا وليد؟ يعني المصائب تأتي بالجملة.
– لكنّه دخل عليها تلك الليلة ..
– ومات عريساً .. ألا يكفي هذا العقاب؟
– لا أدري .. أنا لا أفهم شيئاً من كلّ ما يجري هنا أو هناك. هل كان من الضروريّ أن أولد فلسطينيّاً. هناك الكثير من الجنسيات الأخرى التي تمارس الحياة بطريقة طبيعية ودون تعقيد. الله يرحمنا. إذا كان لا بدّ من حرقنا، فليحرقوا عظام فارس فقط.
– صبرٌ جميل وبالله المستعان. أنا سأهرب لمقبرة أخرى، جحيم أم العبد أرحم من ثرثرتكم!
– ما زال الطريق نحو الأبديّة طويل يا أبا العبد .. وما زلنا في بدايته. سَمَعْ يا شباب .. أحضروا شهداء غزّة! لم أكن أتوقّع أن يكون عددهم كبيراً لهذا الحدّ؟
– تُرى .. هل سيعبرون من هنا أم ..
– دعك من الأسئلة الآن .. لدينا ما يكفي من الوقت لنصلّي .. لنصلّي .. لنصلّي.