أرشيف - غير مصنف

“مملكة المجانين” !!

بقلم حسين حرفوش
حل القحط ..أجدب المكان ..بسبب جفاف الآبار ..التي حفرها السلطان ولم يعمق حفرها خشية على مستوى الماء في بئر قلعته .. وبدأت مظاهر الموت تعتري كل شيء .. والجميع لا هم له الا التضرع والتمسح بالأولياء ..واستجلاب عطف السلطان ورعيته حتى يجودوا ببعض النقاط التي تحفظ الحياة ولا تصلحها ..حتى وصل الأمر إلى الهلاوس ..فكل من في المملكة أصيب بهلوسة بسبب نقص ماء الحياة .. ولكن سلطان المملكة مازال محتفظا بقوته وقوة أتباعه ..فهم يشربون من بئر توارثه السلطان داخل القلعة ..ولكنه بدا مضطربا من قول حكيم المملكة إن الرعاع إذا تمكنت منهم الهلوسة سيكونون خطرا على الجميع ..فراح يقلب الأمر مع أتباعه ..وبينما هم على حالهم إذ يسمعون صيحات الأهالي بالفرح فقد نجحت جهودهم عندما حفر الجميع بئرا عظيمة عميقة تفجر ماؤها … وقطع متابعتهم لما يجري خبر كبير السقاة في القصر بأن بئر القلعة بدأ يجف نظرا لعمق البئر الذي حفره العامة خارج القلعة ..
 
وهنا ارتسمت على وجه الخبثاء من أتباعه ابتسامة غريبة .. .. فهم السلطان مغزاها و إيحاءها ..فهمهم قائلا: يا لسخرية الأقدار ..!! ثم قرر معالجة الأمر حتى لا يشتد عود هؤلاء… فالرعية التي تجمعت وتوحدت لأول مرة ففعلت شيئا ذا بال .. ربما تجمعت على أمور أخرى لا يرضاها هو .. فنصحه حكيمه بالاستعانة بالساحرة .. وعدم التفكير في ردم البئر ..
 
” وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ” الساحرة ” إلى المملكة خلسة .. وألقت في البئر عدة نقط من سائل غريب ..عجيب .. وقالت :” كل من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنونا .”
 
وفي الصباح دعا سكان المملكة سلطانهم وأتباعه لكي يشاركهم فرحتهم
 
بنجاتهم من الهلاك .. فوقع في ” حَيْص بَيْص ” فهو وأتباعه يعلمون ما حل بالبئر .. ولابد من إجابة الدعوة .. فكان لابد من اصطحاب الجميع   وحضور الاحتفال ..بعد أن شدد في توصية الحكيم بإحضار الساحرة ..لتجهيز ترياق يعالج ما سيحل به وبأتباعه عقب شربهم مع العامة من البئر.. ونزولا عند رغبة الأهالي شرب أول كأس من البئر ..ثم أتباعه..ثم أهل المدينة جميعهم ..
 
 ..وجُنُّوا على نحو ما قالت الساحرة . ولكنَّ حكيم المملكة لم يشرب من ذلك الماء ..لأنه كان قد تخلف يبحث عن الساحرة .. التي لم يفلح في إحضارها .. وعندما رآه الناس .. مختلفا عنهم في القول والتفكير والهيئة ” طافوا من حي إلى حي ومن زقاق إلى زقاق ..وهم يتسارُّون ..ويتهامسون.. قائلين : ” لقد جُنَّ حكيمنا..قد أضاع رشده .. وأصدر السلطان بيانا يقول فيه : إننا (معشر العقلاء)نأبى أن يكون حكيم مملكتنا مجنونا ..إمَّا أن يشرب من البئر الذي شربنا منه ..وإمّا أن نقتله ..حتى لا يكون سبة فَنُعَيَّر به بين الممالك .. !!
 
.. أغمضت عيني .. وهمهمت قائلا ..هل هذا معقول !! صحيح مملكة مجانين !! .. ووجدتني مقارنا بين ساحرة البئر ..وساحرة البر .. ورحت أتخيل ساحرة البر آخذةٌ بيدي ..منيرة طريقي..إنها حرِّية الفطرة الانسانية التي سحرت الإنسان قديما وحديثا فأصبح بها مجنونا لما يرى من أزهارها ..وثمارها .. وعطرها وشذاها   .. ما يجعلها حلما جميلا كفيلا إذا تحقق أن يغير حاله وأحواله .. حلم بمجتمع عادل بقدر ما يأخذ منه يعطيه.. يرفرف عليه السلام فلا تبجح بمعصية .. ولا اتهام بغير دليل ..ولا محاربة للشرفاء ..ولا غض من أقدار العلماء النبلاء ..ولا مكان ولا سلطان ولا تمجيد للأقزام والأدعياء..من سارقي أموال الأمة و أصحاب الرشوة والمحسوبية .. ولا تقدير لمن لا يستحق ..يحلم فيه الانسان بمسكن يأويه ..وعمل حر يكفيه .. و ببيت..فيه طهر وسـتر .. ويمتد الحلم ويكبر حتى يدفع الإنسان حياته ثمنا لحريته ..وثمنا لحرية وطنه ..وثمنا لذلك الحلم الذي يستحق .. و تخيلت ماذا لو أصيب الناس   في الشرق والغرب بسحر تلك الحرية..فيا لجمال العالم ..!! ورحت أتخيل ماذا سيحدث لمن يتحسسون منها ويمرضون من مجرد ذكرها ..؟! ورحت أتخيل أحداثا وحوارات بين هؤلاء وأولئك..وكأني بهم يهتفون ” الكل يريدك يا ” ساحرة ” فكلا الفريقين له ساحرة يحلم بها ..فهناك ساحرة البئر ..وهناك ساحرة البر.. ولكنني استهجنت بعض تلك الحوارات حينا ..وسخرت من بعضها أحيانا ..وتعجبت واندهشت من غرابة القليل منها في أحيان أخرى .. ولكنني في جميع الحالات تأكدت أن ما تخيلته من سيناريو بين المسحورين بالحرية وبين هؤلاء المتحسسين منها الرافضين لها ..لن يتم أبدا .. وإن تم فلن يؤتي بثماره .. ساعتها .. تذكرت رمزية المملكة المجنونة.. التي ساعدني في صياغتها خيال جبران خليل جبران الذي أعشقه .. فقلت ما دامت الحال هكذا فربما يحدث ما كان في قصة مملكة المجانين ..شاء من شاء ..وأبَىَ مَنْ أبَىَ ….
 
حسين حرفوش
 
شاعر وكاتب مصري

زر الذهاب إلى الأعلى