أرشيف - غير مصنف

وترجل العملاق سمير غوشة ..

أكرم أبو سمرا
 
” هذه الاشجار لا تطيق سماء اضيق .
 
 هؤلاء الرجال لايرتوون إلا من الشمس .
 
 وبأقل من العدل لا ترتضي هذه القلوب “
 
الشاعر اليوناني : “يانيس ريتسوس”
 
هو العملاق بما أعطى من بسطه في الجسم..وهو العملاق بما انتزعه وأبدعه من بسطة في الفكر والعلم..وهو العملاق بما فيه من بسطة الهدوء والاسم..وهو من هو في الحرب والسلم ( راجع أعداد مجلة نضال الشعب القديمة لتدرك أي نضال نوعي أعطت هذه الجبهة..وكم من الشهداء قدمت ..وأي حراك استثنائي خلقت..).
 
هو من هو في الصبر..والانتماء والغيرة على القضية والشعب والأرض و ..م.ت.ف.
 
هو من هو في الاستمرارية الناضجة ” لين في غير ضعف” مؤمناً دوماً بالتطور والتغير الحتميين الناتجين عن تراكم مراحل..تختلف كل واحدة عن الأخرى في الشروط والأدوات..إلا أنها تسير تحت هوية واحدة وهدف واحد.. وتحمل في امتداداتها بذور بقائها ونمائها وانعتاقها..بعيداً عن دوغما الايديولوجيا .. بنفس مقدار تعلقها بالإنسان وشروطه وتطلعاته وأحلامه.. بالزمكان وضروراته الوطنية.. وثوابته الأصيلة والأصلية.رجل من معدن نادر.ترتاح لحضوره ..ولنظافة يده..وحسن طويته يتجول بلا أقنعة..داخلة ينم عن خارجه.. وخارجه ينم عن داخله.. وكلاهما ينعيان من القدس مسقط الرأس..ويصبان في القدس مثوى الروح.كان من القلائل الذين يمكن للمرء أن يتعلم من هدوئهم .. وظل مخلصاً لجدلية النظرية والتطبيق ..في الممارسة الإبداعية والسلوك.. وبقى دوما ضد تصحر الفكر في الماضوي..وضد رهانات الأوهام المجانية في الآني .. وضد الامتلاء الكاذب بسنغافورات المستقبلي.كان ضد اللامعني الذي تزدحم به قيادات الأحزاب الكبيرة المترهلة الفضفاضة الزئبقية.. وضد اللاشيىء الذي تلهث وراءه تلك الميني- قيادات والنيو قيادات الطاووسية.. غير المهتمة واللاّمبالية بالجنون والخوازيق التي تعقب الوقوع في الهوة الهائلة بين الوسائل والطموحات .. كما قال شاتوبريان.
 
كثيرة هي القيادات التي تم وصفها بالملائكية فقط..أو بالشيطانية فقط أو أنها تجمع الشيطان والملاك معا تعبيراً مضللا عن الحنكة السياسية والمكر والدهاء!!.أما سمير غوشة فكان خارج هذه التصانيف والمقاييس والمعايير.كان إنساناً ..همه أن يراكم ويعزز الإنسان في الإنسان ..ديدنه حماية الإنسانية من كل أشكال التسليع والتشيؤ وعقد النقص ..والذاتوية المريضة .
 
شخصياً ..وفر لي العمل في وزارة العمل كنائب للدكتور أحمد مجدلاني في غزة ..فرصة للتعرف على الدكتور سمير وزير العمل حينها ..عن قرب.واستميح القارىء عذراً لسرد هذه الحادثة التي وقعت معي لما فيها من اشارات ودلائل ومفاتيح على ما سبق .ذات ..وكنت متجهاً إلى العمل جالساً في المقعد الخلفي ..دار حوار بيني وبين السائق ..أفضي إلى خلاله أنه كان من بين الفدائيين في الأردن..وانه عمل مرافقاً للدكتور سمير غوشة وانقطع عنه بعد أحداث أيلول 1970م ولما كان الدكتور موجوداً في غزة وقتها..طلبت منه . ان يشرب فنجان قهوة في مكتبي لنكمل الحوار .. وكنت أضمر شيئاً مختلفاً ..لبى الرجل الطلب أجلسته في غرفة سكرتيرة الوزير..واقتحمت ..اجتماعاً للوزير ..ثم همست في أذنه ..عندي لك مفاجأة ..فرد بعد الاجتماع..قلت الأمر لا يحتمل التأجيل أطلب من سكرتيرتك أن تدخل الضيف وما أن خطى الضيف بتثاقل المتهيب الصالة..حتى قلت : هذا الرجل يدعى أنه…لم أكمل ..نهض الدكتور عن مقعده ونادى الرجل بحميمية وهو غير الاسم الذي أعطانيه هنا انفض المجتمعون على وقع أينك ؟كيف أولادك؟. ماذا تعمل؟ وخرجت أنا أيضاً ..كي لا أشوش هذه اللحظات المقدسة لذاكرة طاهرة وخصبة ..ونظيفة. ثم علمت انه وجد له دورا داخل السياق .. يليق بعمره وبنضاله .
 
هذا هو الدكتور سمير غوشة رجل الصبر على المعاناة ..على الشدائد وعلى الانشقاق ..رجل التأمل العميق ..رجل الحداثة الفكرية.. ونصير الفقراء والمظلومين..رجل التقاط اللحظة التاريخية والانحياز إلى شرطة الوطني..رجل التواصل لا القطيعة ..رجل التقدم لا التراجع..رجل المنفتح لا المنغلق رجل الضمير النقي.
 
رحمك اله يا آخر العمالقة ونعتذر من روحك ومن أهلك وتنظيمك على استخدام الفعل”كان” في هذه المرثية .
 
[email protected]               
 

زر الذهاب إلى الأعلى