أيام مجاور

د/ نصار عبدالله
الكتب الجذابة الممتعة ،… أو بالأحرى …الكتب التى أتوقع أنها سوف تكون جذابة وممتعة، أدخرها عادة  لوقت السفر، لأنها بالنسبة لى خير معين على تحمل عناء الرحلة ، ….بالمناسبة  رحلتى من سوهاج إلى القاهرة تستغرق عادة من سبع إلى عشر ساعات بالقطار ذهابا ومثلها إيابا ، … هذه الساعات لا أشعر بمرورها إذاكان بين يدى كتاب جميل مثل : ” أيام مجاور ” الذى سأحدثكم عنه بعد قليل ، لكن تلك الساعات نفسها تتحول إلى عبء قاتل إذا لم يكن بين يدى كتاب على الإطلاق ، أو إذا شاء لى الحظ العاثر أن أقع على كتاب ثقيل الظل لواحد من الأدعياء شديدى الوطأة على النفوس ، وما أكثر الأدعياء!!. … عندما لفت نظرى عنوان الكتاب ، وإسم المؤلف … وأنا أستعرض ببصرى الكتب المعروضة عند عم على زكى ، البائع الأشهر للصحف والكتب فى سوهاج ، وعندما تصفحت الكتاب بشكل سريع وقرأت سطوره الأولى التى يحكى فيها الأستاذ “سليمان فياض” قصة سفره من السنبلاوين إلى الزقازيق لكى يلتحق بمعهدها الأزهرى ، حيث لبس الكاكولة والعمة لأول مرة فى حياته ، بينما كان عيال الحى  البلد يشيعونه إلى سفره وهم  يرددون : ” شيل العمة شيل ” ، تحت العمة فيل “!!! “حط العمة حط ، تحت العمة قط” !! …عندما قرأت الأسطر الأولى شعرت بأننى قد عثرت على كنز ، فأنا أعشق كتب السيرة الذاتية بوجه عام ، وأعشقها أكثر عندما يكون الكاتب روائيا مقتدرا مثل سليمان فياض ، ويزداد عشقى لها عندما تتشابك أحداثها مع أحداث وطن بأسره وهو ما نجده فى : “أيام مجاور” ، ويتضاعف العشق عندما تتعرض السيرة لمجتمع مثل مجتمع المشايخ  من طلاب العلم الدينى وهم بعد فى سن المراهقة، وهو مجتمعع لا يعرف  الكثيرون عنه غير ظاهره بينما هو مفعم بالشخصيات والأحداث والمفارقات التى تكشف عن أعمق ما تنطوى عليه النفس الإنسانية من أوجه القوة والضعف …. هكذا رحت ألتهم سطور الكتاب التهاما وأنا متوجه إلى القاهرة بدعوة من كلية الآداب جامعة عين شمس لكى أشارك فى مناقشة رسالة جامعية ، وقد أتيت على معظم صفحات الكتاب فى رحلة الذهاب ثم أكملت ما تبقى منه فى رحلة العودة فكان لى خير معين على الرحلتين معا ، ورغم إمتاع الكتاب وجاذبيته ،  ورغم اعتماده  ـ شأنه فى هذا شأن سائر كتب السيرة ـ  على مجرد السرد ، إلا أنه لا ينتمى إلى فئة الكتب التى يقرؤها المرء لمجرد التسلية أو إزجاء الوقت ، فهو فى الوقت ذاته يتعمد التركيز على الشخصيات والأحداث ذات الدلالة الغنية التى لا تخطئها العين المتأملة وهو ما يضفى عليه قيمة جمالية قادرة على النفاذ إلى أعماق الوجدان،  مما يجعل منه  فى النهاية عملا قريبا جدا من العمل الروائى ذى الإيقاع الدرامى الخلاب…لعل من أكثر المواقف الدرامية إثارة هو ذلك الموقف الذى أو شك فيه ( فياض) على (الغرق) !!، عام اجتياح الكوليرا لمصر ( 1947) ، حين انقطعت وسائل المواصلات جميعها وضرب الحصار على المديريات والمحافظات منعا للخروج منها أو الدخول إليها ،… أقفلت المدارس والمعاهد بما فى ذلك المعهد الدينى بطبيعة الحال ، وبدأ الطلاب يدبرون أمر عودتهم إلى بلادهم بطريقة أو بأخرى ، هنا لم يجد سليمان فياض وسيلة للعودة سوى المشى على الأقدام من الزقازيق إلى السنبلاوين ، مشى أياما حاملا متاعه على كتفيه إلى أن وصل لشاطىء  ترعة ، …حدثته نفسه بالإغتسال ، فنزل إلى الترعة قريبا من الشاطىء لأنه لا يحسن السباحة  وراح يغتسل ، ومع الإنتعاش بالماء سولت له نفسه أن يوغل فيه قليلا ونترك الحديث له :ـ  ” لم أكذب خبرا تحدثنى به نفسى ، ابتعدت قليلا قليلا فوق الطين عن شاطىء الترعة ، غطست فى المياه وشهقت صاعدا برأسى بسرعة ،… كررت ذلك مرارا .. وقعت عيناى على الشاطىء ، كنت قد ابتعدت عنه أكثر مما قدرت ، بحثت عن الطين تحت قدمى . اختفى الطين فجأة كأنما انزلقت فوقه ، أدركت أن الماء الجارى يجرفنى إلى وسط الترعة ، ….فجأة اتخذت القرار المرعب الذى لا مفر منه للنجاة بروحى وجسدى وسط كل هذا الفضاء الرجراج . (أيام مجاور، سلسلة روايات الهلال ، عدد يوليو ،2009ص 163)
nassarabdalla@gmail.com
Exit mobile version