أرشيف - غير مصنف

إسماعيل العربي

زكريا النوايسة
( إهداء إلى الدكتور إسماعيل النوايسة
 الذي بالرغم من غربة خمسيـن سنـة
 متواصلة لم يفقد ذاكرته العربية)
 
                                                 =========
 
 الطريق طويلة يا إسماعيل ، والليل ما زال ينذر بالمزيد ، والأرض اليباب تغتال السنابل وتنكر ذكريات العشق القديم على جذع شجرة السرو التي ما زالت تحرس شارعنا العتيق.
تعود يا إسماعيل وفي ذاكرتك رجال ونساء وربيع وحكايات عن جعفر وزيد وعبدالله أبناء القرية البسيطة التي كانت تستفيق على جديلة من نور وتغفو على رائحة القهوة في دواوين السُمَّار .
 
   الشمس تلملم آخر خيوطها ، والليل يزحف بعباءته السوداء ليحيـل كل الأشيـاء إلـى لون كالح ، وفي الأفق رجل يغذّ السير وتسمع من بعيد حسيس أقدامه التي تطحن التراب متعجلة الوصول ، تعلن الشمس هزيمتها أمام جيوش الليل ، القمر شاهد محايد على معركة الانقلاب اليومية ،وفي كسل يرسل بعض نوره ليكشف عن ملامح الزائر الجديد , تنزاح بعض الظلمة لينكشف الوجه المتعب ، العينان تبحثان في الليل البهيم عن بعض ما كان،واللسان المتيبس يردد:
 
                     تعب كلها الحياة فما أعجب         إلا من راغب في ازدياد
 
 ما الذي أتى بك – يا إسماعيل- في هذه السنين العجاف ؟ هل اشتقت لرائحة الطابون وطيوب
الشيح والقيصوم و(عرمة ) أهلك على بيدرهم القديم؟ يد الزائر المتغضنة تهمُّ بطرق الباب،العيون الفاحصة تراقب الظهر الذي بات ينوء تحت خمسين حولا من الغربة ويأخذها الفضول المعتاد كل مأخذ ، امرأة ،اثنتان، ثلاث …. ، صبية صغار تتوارى أجسادهم خلف حائط قريب لا يبان منهم إلا عيونهم المتلصصة، والقادم في حلقة المراقبة، لسان يندلق على صدر صاحبه وهو يردد : أجنبي ، ما هو عربي ، الله أعلم من أي ملة.
 
 إسماعيل وهو يتأبط كتابه يرسل عينه في زوايا المكان ، لعل بعضهم مازال هناك ، الشفتان المطبقتان منذ الرحيل تنفرجان عن صوت خفيت : يمه حجة شما،يابا حسين،محمد،فلاح ، علي الجدران تبتلع صوته وتغتال دقات قلبه المتوجسة , فيرتد الصدى كسيفا يا .. با ..شمه ، فلا..
 الباب يصدر صريرا منبها القادم أن الزمان خطى خطوات كبيرة ، وما عاد للذكريات في زوايا النسيان من أثر، صبي تحمله جرأته الطفولية ليتقدم ويطلق في وجه القادم أسئلة كثيرة : من أنت ؟ من أي بلد ؟ ماذا تريد ؟وجهك عُمرنا ما شفناه في البلد، عين الطفولة الحادة تتفرس جسد الكهل لعلها تجد بعض ما يتمم حكاية زائر المساء ، وشيئا فشيئا بدأت حدقات العيون تضيق ، لتتلاشى التفاصيل ويتحول القادم إلى ظلال باهتة ، النساء يصدرن همهمة غير مفهومة وعيونهن تتقاطع في الرؤية الموزعة بين القادم والباب الذي عاد من جديد يصدر صريرا مزعجا وهو يغلق بعصبية.
 
يومان يا إسماعيل كانا كفيلان لتحمل عني سني عمري التي شارفت على الخمسين غربة مضافة إلى غربتك الطويلة،أو أتبادل معك الدور لأضيف إلى خمسين عمري خمسينيتك التي زرعتها في حقول الغربة.
 
 كنت تحدثني عن المعري ودانتي والمتنبي وعن اعتصامك وزندك ، ويمتد الحديث عن فالدهايم وعلاقة الصداقة به وفينا والحضور العربي فيها وتقاطع المصالح والحضارات على صفحة الحراك الغربي ، وكنت أنا أنظر في الوجه الذي ما زال يحمل مخزونا من ذكريات محوناها من دفاترنا ، وأقول في نفسي : إسماعيل يقف في منتصف الطريق ، ومن يقف هكذا وِقفة حتما ستداهمه حيرة كبيرة بحجم غربته الطويلة ، وسيسأل نفسه ملياً: أمن المجدي أن أطرق الباب مجددا لتعود العيون المتلصصة تنقب في جسدي المنهوك ؟ أم ألملم عباءة غربتي وأعلن أنني سأبذر حقل الغربة بسني عمري المتبقية؟!
 
 إسماعيل لا أملك إلا أن أشفق على نفسي القلقـة التـي احتضنتْ الغربــة منـذ الصيحــة الأولــى ، ولن أنسى أن اذرف دمعة على دربك الطويلة،التي قطعتها وأنت يحدوك الأمل بأن خمسين من الغربة لن تحيل الأرض الحبلى بالعشق والسنابل إلى يباب تموت على أبوابها أحلام الذكريات القديمة.

زر الذهاب إلى الأعلى