أرشيف - غير مصنف
محنة سيد القمني المستلب
“إنّ عصرنا يستهلك الناس في اللهث وراء حاجاتهم كما يستهلكهم وبشكل أكبر في صفع قناعاتهم الأخلاقية وحملهم على خيانتها” *، وإنّ أشد ما يرهق ويؤسف له هو المواقف غير المنسجمة مع القناعات والقيم والتي تؤسس لتشظي الشخصية الإنسانية وتمزيقها.
مشكلة بعض التنظير العربي أنّه يريد أن يمسك كل البطيخ بيده فهو في آن واحد، تارةً (علماني وسلفي) وتارةً أخرى (ليبرالي يؤمن بنصف حرية) أو أنّه (قومي بنصف بلده وثلث العالم) أو أنّه (ثوري وقومي وعروبي ونفطي حتى العظم!).
العلمانية أخلاقية بالضرورة، علمية حداثية بالصفة، هي خروج من الاستلاب وتجاوز للعطالات، هي رؤية وليست أيديولوجيا فعندما تغرق في مستنقع الأيديولوجيا تصبح عقيمة مريضة كالإيديولوجيات وهي ليست تبريرية تسويغية، والعلمانية ملتزمة وملزمة بالحرية في اتساق طبيعي.
لا يوجد مسلم متدين محايد عن الطوائف (وإن وجد فهو الحالة الإيمانية النادرة الباحثة عن خلاصها النفسي والروحي والتي لا تدخل في إطار بحثنا)، المسلم يا سيد القمني هو (ضمن القائمة التي تعرفها وتتجاوز السبعين طائفة) أو هو قرآني أو تلفيقي بلا جدوى ولا اعتراف.
لا يوجد لدينا أدنى شك في مستوى القمع والظلامية التي تحيط بنا وتحكمنا، ولا في مستوى الضغوط والترهيب الذي يتعرض له مفكرونا وخاصةً من يخوض منهم في مستنقعات المحرمات ومنهم المفكر سيد القمني الذي نحترم ونتعاطف معه، ولكنّ ذلك لا يمنعنا من طرح الأسئلة والتي تصل إلى مستوى الإدانة، مع التأكيد أنّنا لا ندعوك وغيرك للبطولة أو أن تكون مخلصاً.
هل كنت تنتظر أن تختم مسيرتك على هذا النحو؟، إنّه النفاق يا سيدي وإنّه الاستلاب، “والاستلاب هو أن يتبنى المقهور إيديولوجيا القاهر، أي أنّ المستلب يتصرف ضد نفسه”، فأين أنت من ذلك الآن؟، ومن قال لك أن التراث الإسلامي غير الإسلام؟، أو هل كنت يا سيدي تبحث عن الإسلام الصحيح والحقيقي؟، أي هل كنا أمام مراهقة فكرية؟، أظنّ أنّ كتاباتك تجيب عنك، فلا تحملّها الآن ضعفك وخوفك.
وهل إسلام خالد وبسر ومعاوية والحجاج مختلف عن إسلام محمد وعثمان وعمر وعلي؟ (مع الشك بوجود أغلبهم تاريخياً) أو أنّ قائمة الأحفاد من الإسلاميين الجدد حملة الراية، تختلف عن الرعيل الأول أو هو مختلف عنها بإسلامها، فابحث يا سيدي عن خلاف الخلف مع السلف ولديك الأمثلة الحاضرة (بن لادن ومشعل ونصرالله و مدني وبالحاج والبيانوني والقرضاوي، وآيات الله، والملالي و… الخ)، أم أنك استفقت لتبحث عن إسلام من نوع جديد؟، إنّها نسخ الإسلام الأيديولوجي المغلق، مهما تباينت الشعارات.
نتجاوز بعض اللغط حيناً في الكتابة والمواضيع المطروحة مرجعين السبب في ذلك إلى نمط الثقافة وبعض علل اللغة والناطقين بها، “فاللغة هي التي تفتح مجال الممكن” * ونتعامل بها لأجل الضرورة وهي التي تفتح مجال الحرية، فنحن محكومون باللغة وعلينا تفكيك المفاهيم المعلّبة والتعابير الجاهزة واستخدام اللغة بحرفية ودقة وليس التماهي والتماشي معها، حتى لا ندفن مع ركامها، أو نصغر بأفكارنا كبعض ضيقها، أو نختبئ بين المعاني الرمزية والدلالية أو التي تجبر الكلمات على امتلاكها قسراً، كما يحث الآن من تكاذب وتلفيق وتشويه في تحميل النصوص الغابرة معانٍ محدثة.
ونعترف بحق البعض في استخدام نزقهم أو الانفلات قليلاً عن جادة الصواب في البحث، علّ ذلك يؤسس لمراجعة نقدية ودفع النقاشات في اتجاهات المعرفة والبحث، ونسامح وفي هذا الزمن الرديء كثيراً من الصامتين لكنّا نطالب الجميع بالمصداقية في القول والفعل، ونغفر لباحث إذا وقع في سراديب السياسة وأعترف بأنّه يخوض في غير مجاله، فتلك لحظة من لحظات الشبق أو الطيش والاستلاب المؤقت، لكن أن يتنطح باحث ثم يتوه عامداً في أصغر مفاهيم بحثه لاغياً كل نتاجه هرباً وخوفاً فذلك مرفوض بالجملة والتفصيل، لأنّ ذلك يعني وسم البحوث بالسفسطائية التي لا طائل منها غير التشكيك والزيف، وإحالة الجدوى إلى الإحباط والعبثية وإحياء نظرية المؤامرة.
تتركز الدعوة التي أناشد بها مفكرينا وباحثينا (وأخص سيد القمني) على التحلي بالموضوعية والشفافية، والنزاهة، والأخلاقية المعرفيّة، وامتلاك أدوات البحث، والجرأة بالاعتراف لا التبرير والتسويغ، و فيما عدا ذلك …. الصمت.
أي أنّنا لا نريد كتابةً تمارس التمويه والتخدير بدلاً من التحرير، لا نريد كتابةً مشغولة بمحاكاة ما يجري بل كتابةً نقدية تطرح التساؤلات المشروعة وغير المشروعة الأسئلة الفاسدة والصالحة، تتجاوز السؤال على مستوى (كيف؟) والذي يعتبر سؤالاً مهماً لكنّه يبقى على المستوى التقني، إلى الأسئلة (لماذا؟) أي على مستوى الجوهر والمعنى، كتابةً معرفيةً، حداثية المشروع، إنسانيّة الهدف، علّ هذه الدعوة تفتح نافذة التفكر والمراجعة النقدية لينبثق شعاع الأمل.
م. محمد أحمد
9/8/2009
* إعادة إنتاج الهوية – المفكر أحمد حيدر