البعث في العراق—– الأولويات والثوابت
البعث في العراق
الأولويات والثوابت
أ.د. كاظم عبد الحسين عباس
أكاديمي عراقي
تدخلت اميركا في العراق منذ اوائل السبعينيات، ومع اتضاح الخط الفكري والعملي لثورة البعث في 17-30 تموز عام 1968م ومع دخول الثورة بتنفيذ برامج فاجئت العالم كله بقوتها ومبدئيتها، من اهمها التأميم وترسيخ الوحدة الوطنية عبر قانون الحكم الذاتي لاكراد العراق وخطط التنمية الانفجارية في جميع مناحي الحياة. تحول التدخل الامريكي تدريجيا من استخدام ايران الشاه العميل الى الحركة الكردية المخترقة صهيونيا مرورا بالتآمر الداخلي عبر اشخاص وتنظيمات مختلفة وانتهاءا بنقطة الدخول في قرار اسقاط التجربة العراقية بواسطة خميني ونظامه، ومن ثم انطلاقا من قاعدة الفشل الذريع الذي صدم اميركا بعد حرب السنوات الثمان تم تحريك نظام الكويت ليمارس الدور التكميلي الذي منح اميركا الغطاء المناسب لتهاجم العراق بنفسها بعد ان حاصرته قرابة اربعة عشر عام حصارا لم يشهد له التاريخ مثيلا.
جاءت اميركا الى العراق غازية محتلة وجلبت معها مجاميع من اشخاص وأحزاب ممن لفظهم تاريخ العراق وجغرافيته ومجتمعه لكونهم طابور خامس وسراق وزناة وقتلة وجواسيس وعملاء لتجعل منهم حكاما تحت امرتها بعد ان تعيد تشكيل دولة العراق تشكيلا كاملا. وقرارالتقويض الكامل و اعادة التشكيل لم يكن قرارا متعجلا او غير مدروس من قبل اميركا واذنابها، بل تم العمل عليه سنوات طويلة وأُتخذ بعد تحليل وتمحيص وتدقيق وبعناية فائقة وبواسطة عقليات استراتيجية.
اميركا غزت العراق للقضاء على دولة العراق الحديثة التي بناها البعث فكرا ومنجزات عمران عملاقة. اميركا جاءت لتقوض دولة العروبة المسلمة في العراق وتغتال فكرها وتوجهاتها الميدانية العروبية المسلمة، وعليه فان طريقها الوحيد للنجاح هو ليس في الصفحة العسكرية للغزو بل الاهم والاخطر هو نجاحها في اجتثاث مؤسسات الفكر البعثي العربي وتغييب الارادة الحرة الثائرة المؤمنة بالعراق الواحد تاريخا وحاضرا وبالامة العربية ارثا وتطلعا.
وعليه .. فان محاكمة مجريات الاحداث من يوم تدخلت اميركا بكامل ثقلها في الهجوم على العراق بعد انتهاء الحرب الايرانية على العراق فورا عام 1988 والى هذه اللحظة يجب ان يتم من خلال تقويم وتقييم ما انجزته اميركا على الارض، واهم ما في ذلك مدى نجاحها في اسقاط التجربة العراقية اسقاطا تاما ومدى نجاحها في تنفيذ قانون اجتثاث البعث الاجرامي الدموي .. قانون العار الذي سيظل يلاحق اميركا نظاما وكتلة اجتماعية ويأكل من جرفها حتى تحين ساعة تغادر فيها كدولة واحدة وبذات الطريق الذي غادر به الاتحاد السوفيتي.
ومن الانصاف ان ينظر الى موقف دولة البعث وموقف حزب البعث في العراق من خلال نجاحه في:
اولا”: ضمان عدم سقوط الدولة العراقية رغم قوة ووحشية الاحتلال، بل ان هذه الدولة قد انتقلت للعمل تحت الارض وبصيغ المقاومة المختلفة ..
ثانيا”: النجاح الباهر في الحفاظ على الحزب تنظيما وفكرا وحركة .. مدنية وعسكرية مقاومة للغزو ومن ثم للاحتلال.
من هنا .. نقول ان البعث في العراق ورغم ان المحنة التي واجهها بين تطبيقات الاعمار والبناء والازدهار في دولته العملاقة وبين دفاعه الجسور للحفاظ على كينونته وفكره القومي العروبي المسلم، قد فرض اولويات يجب التعاطي معها وفهمها وانصافها من قبل كل احرار العرب والعالم بعيدا عن العدوانية الامريكية _ الصهيونية _ الفارسية وماكنتها الاعلامية الضخمة، وباتجاه يقدر الدور الحاسم لنجاح البعث في تصديه لهذه الاولويات جنبا الى جنب مع ثوابته الوطنية والقومية والانسانية التي لا يتعارض معها ولا يجحد بها الا اعداء العراق والامة، وهذه هي قناعاتنا وليس محض افكار وآراء قابلة للاخذ والرد.
وسندرج هنا اهم ما نراه كأولويات وثوابت في جهاد البعث الراهن في العراق:
تحرير العراق:
الجهاد والتحالف مع كل القوى الخيرة اسلامية ووطنية وقومية لتحرير العراق هدف تقدم ومازال يتقدم على اي هدف آخر تنظيمي او فكري, ذاتي او موضوعي, يخص حزب البعث العربي الاشتراكي. ان المهمات التنظيمية والتنظيرية وتجديد الفكر ان كان من ضرورات للتجديد، ونقد الماضي إن كان من ضرورة له وغير ذلك من اهداف قد تبدو للبعض ملحة وحياتية .. غير ان الحق والضرورة ذات الشرعية السماوية والشرعية الارضية هي ان يجاهد الحزب ليحرر العراق. ان الجهاد لتحرير العراق يحقق للبعث مئات الاهداف دفعة واحدة بما فيها الاهداف التي يطالب ويرى البعض ضرورة أن تحصل الآن. ان تحرير العراق هو تاج الشرف الذي سيكلل تاريخ الحزب كله وسيضع هفوات واخطاء حُسبت على الحزب، رغم انها اخطاء بعثيين في ميدان التطبيق، وبعضها زعل بعض العراقيين نتيجة اجبارهم على اداء بعض واجباتهم الوطنية، سيضعها نصر التحرير القادم كلها في الخلف بعيون العراقيين والعرب عموما. ان انخراط البعث بتنظيماته المدنية والعسكرية واجهزة دولته الوطنية في مرحلتي الاعداد للمقاومة ومن ثم ممارستها على كامل ساحة العراق، قد كللت هام البعث والبعثيين بشرف رفيع وكانت عاملا حاسما في تثبيت اركان وجودهم السياسي والاجتماعي في العراق ومنحتهم آفاقا مضافة لوطنيتهم ومبادئهم وعقيدتهم القومية المسلمة. ويحسب لقيادة البعث بعد الغزو والاحتلال انها اختارت الطريق التاريخي الصائب في عدم مغادرة العراق وفي رفع شعار المقاومة من اجل التحرير كأولوية لاتتقدم عليها اية اولوية اخرى, بل ان القرار هو في تقديرنا اخطر واهم ما قرره الحزب في مجمل مسيرته التنظيمية في العراق.
الحفاظ على كيان الحزب:
كوني أحد البعثيين الذين عايشوا الاحداث ميدانيا قبل الاحتلال والغزو المجرم وبعده لسنوات حاسمة وخطيرة هي 2003 و2004 و2005 و2006 فان التاريخ يجب ان يسجل للبعثيين النجباء الثوار اهل العقيدة المؤمنة بالله والوطن والامة انهم تصرفوا على اساس ان خلاياهم التنظيمية قائمة بالبديهة حتى لو غابت صيغة الاجتماعات والندوات المعهودة لبعض الوقت. لذلك توجهوا أفرادا ومجاميع للانضمام الى صفوف المقاومة بصيغها المختلفة والمتدرجة من التصدي بالحديث والكلام ووصولا الى صيغ الانخراط في المجاميع القتالية التي تصدت لقوات الغزو. وكوني من ابناء الفرات الاوسط فاني اعرف صيغ التصدي مثلما اعرف البعثيين الذين قاتلوا في مواقع مختلفة في كربلاء والنجف وبابل والقادسية والمثنى والفلوجة وبغداد والموصل وديالى والانبار سجلوا صفحات تشبه المعجزات في قتالهم الضاري ضد الاحتلال وازلامه المجرمين.
عموما .. في أواسط وأواخر عام 2003 وبداية عام 2004 كانت فروع الحزب المختلفة قد اكملت صيغ عملها التنظيمي وبدأت بمواجهة صيغ الموت والاجتثاث والاقصاء التي قررها الاحتلال وازلامه لتقويض البناء الوطني والقومي العروبي المسلم للعراق وشعبه. وكانت هذه الاولوية قد تداخلت عضويا مع ارجحية الجهاد من اجل التحرير وغذت احدهما الاخرى في نسغ متعدد الاتجاهات.
ومثلما كان الجهاد لغرض التحرير الناجز قد وضع البعث في موقعه الصحيح كامتداد تاريخي وآني, فان عملية اعادة ترتيب الصيغ التنظيمية كتعبير عن الكينونة الحياتية للبعث العظيم، قد افرزت ثوابت الشرعية واسس الاستحقاق القيادي، وضوابط الانطلاقة الجديدة المتحررة من كل ما علق بحركة البعث من شوائب وسلبيات. لقد نجحت قيادة البعث البطلة ورجاله الاشاوس من تحقيق الانتصار على بؤر الموت والفناء وانتصرت في تحجيم آثار أشرس هجمة للتبشيع والشيطنة والتدليس والرياء والكذب تعرض لها حزب في التأريخ.
على العالم كله أن يعيد النظر الان في استحقاقات البعث ودولته العظيمة بعد أن نجح الحزب وقيادته في اثبات قدراته العظيمة في البناء وفي الجهاد وفي كونه حزب لكل العراقيين دونما استثناء من أجل عراق حر عربي موحد مزدهر وليس من أجل سلطة لا تحكم سوى قرارات الموت والسرقة والفرقة والفتنة والبحث عن الذات والهوية.