عوني صادق
يعتقد كثيرون أن “الحياة لعبة”، ويرون في هذه الدنيا “مدينة ملاهي” كل ما فيها ألعاب. فالفن لعبة، والأدب لعبة، والحب لعبة، وكذلك الحرب والسياسة. ويعبر هذا الاعتقاد عن نفسه بقوة في اللغة المتداولة، على ألسنة البسطاء كما على ألسنة العظماء، فتتردد مصطلحات مثل: “لعبة الأمم”، و”لعبة القدر”، و”لعبة الأيام”. ويوصف الفرد المبرز في ميدان ما بأنه “لاعب” ماهر، وهناك أيضا “اللعوب” و”المتلاعب”، كما يوصف التفكير أحيانا بأنه “لعبة ذهنية”، ويوصف التنظير أحيانا بأنه “لعبة لفظية”. ويصل الأمر إلى الجمادات والأفكار، فيقال “لعبت به الظنون” و”لعبت الريح بأوراق الشجر”. وجوهر المسألة في هذا كله، هو أن لكل لعبة قوانين وقواعد، ولها هدف. والجهل بهذه القوانين والقواعد أو تجاهله يمنع تحقيق الهدف. وبدون تحقيق الهدف، تتحول اللعبة إلى نوع من العبث الذي لا يبقي للعبة معنى أو قيمة. فالهدف هو الذي يحدد النتيجة فيجعل اللاعب غالبا أو مغلوبا، منتصرا أو مهزوما، ناجحا أو فاشلا. فإن انتهت اللعبة بلا أهداف اعتبرت “سلبية”، حتى في لعبة كرة القدم، يقال إنها انتهت “بالتعادل السلبي”. لكن الشرط الذي يبقي “اللعبة” لعبة هو أن لاتستغرق صاحبها، فإن استغرقته ضاع الهدف من اللعبة. فمثلا، إذا كان الهدف من اللعبة تمضية الوقت، واندمج اللاعب فيها أكثر مما يتطلب الهدف، فاحتد وتوتر مثلا، دخل صراعا أفسد لعبته، وجعلها غير ذي علاقة بتمضية الوقت.
وعليه، وبعد الاعتذار عن الاستطراد، إذا كانت السياسة لعبة، فهي لعبة فن وعلم، ولكل قوانين وقواعد، ولها هدف. ويتمسك البعض في تعريف: “السياسة فن الممكن”. والفن في السياسة يتعلق بكيفية إدارة عناصر اللعبة، ووضع اللاعب بالصورة المناسبة، وهو ما يسمى ب “التكتيك”، وذلك بعد دراسة علمية لظروفه وقدراته ولظروف وقدرات خصمه، وللعلاقات من حولهما، فيتحدد على أساسها الأسلوب والبرنامج والمراحل التي تضمن تحقيق الهدف، وهذه هي “الاستراتيجية”. أما “الممكن” فهو ما يتفق مع، ولا يتعارض أو يلغي، الهدف. والسياسة أخطر الألعاب لأنها تتعلق بحياة ومصائر الشعوب والأمم والأوطان.
لقد تحددت الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد نكبة 1948، بهدف “تحرير” الجزء الذي اغتصبته الصهيونية في ذلك العام، وبعد 1967 قادت حركة (فتح) هذه الحركة وأصبح الهدف “تحرير كل فلسطين” عبر أسلوب الكفاح المسلح. في العام 1993، ومع (اتفاق أوسلو)، تحول الهدف فأصبح “إقامة الدولة المستقلة على حدود 1967 وعبر أسلوب المفاوضات”. في مطلع العام 2006، دخلت (حماس) الانتخابات التشريعية ففازت فيها وشكلت الحكومة متجاهلة ما كانت تقوله من أن كل ما يتم تحت الاحتلال باطل. في حزيران 2007 حسمت (حماس) السلطة في غزة لصالحها، ليتحول هدف “تحرير فلسطين” إلى صراع بين حركتي (فتح) و (حماس) على “السلطة” في دولة غير موجودة، وانقسمت الحركة الوطنية الفلسطينية، ما جعل العدوان على قطاع غزة في نهاية العام 2008 ممكنا ومبررا. فشلت كل محاولات المصالحة، وازداد التنافس على “من يمثل الشعب الفلسطيني” في ظل حكومة إسرائيلية ترى في الظرف الفلسطيني الراهن لحظة مناسبة لتصفية قضية فلسطين نهائيا.
اليوم تكاد الحركتان الكبريان تتماهيان. فكلاهما يريد أن يفاوض، وكلاهما، على طريقته، يعرب عن استعداده للتنازل عن الجزء المسلوب العام 1948، ومستعد للمساومة على الجزء المحتل 1967، وكلاهما يدعي أنه متمسك ب “الثوابت” والمقاومة. وإذا كانت مسيرة (فتح) منذ أوسلو، وبعد خمسة عشر عاما من المفاوضات لا تحتاج إلى أدلة أو براهين على صحة هذا الزعم، فإن مسيرة (حماس) لا تزال تحتاج، في نظر البعض، لتقديم مثل تلك الأدلة والبراهين.
لقد كررت (حماس) منذ 2006 قولها بأنها توافق على إقامة دولة مستقلة في حدود 1967، ومستعدة لقبول هدنة طويلة مع الكيان الصهيوني، دون اعتراف أو صلح. وفي ذكرى تأسيس الحركة، قبل بضعة أشهر، أعلن خالد مشعل الموقف نفسه، مع إبداء “المرونة” في التعامل مع “الشرعية الدولية” و”المجتمع الدولي”. وكان هذا الغزل قد بدأ منذ 2006 وتركز في تصريحاتها معترفة “بالدور الهام الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة الأميركية في عملية السلام” في المنطقة. وبعد العدوان على غزة ارتفعت النغمة وتواصلت اللقاءات مع الأوروبيين وبعض الأميركيين، وأوحى قادة الحركة عن استعدادهم للتفاوض شريطة أن تكون هي الجهة التي تفاوض (ولا مانع من مشاركة رمزية للفصائل الفلسطينية).
وقبل أيام، عقد القيادي البارز في (حماس)، محمود الزهار، مؤتمرا صحفيا رد فيه على سؤال عما إذا كان يمكن ل (حماس) أن تشارك في مؤتمر للسلام تدعو إليه الولايات المتحدة أو يتبناه الاتحاد الأوروبي، فأوضح: “إذا تم تجهيز كل شيء، وكانت الصورة واضحة بشأن نتائج مثل هذا المؤتمر وتمت مناقشتها مسبقا وفعلا تستطيع أن تحقق الحد الأدنى، فسننظر في الصيغة والآلية”. وشدد الزهار على أن السلطة الفلسطينية “ليست حكومة رام الله” بل هي رئاسة وحكومة ومجلس تشريعي”، مذكرا بأن “حماس حصلت على غالبية في المجلس التشريعي”، وبالتالي فهي التي تمثل الشرعية. ( الأخبار الللبنانية- 11/8/2009). وكلام الزهار واضح ومفهوم ولا يحتاج إلى شرح أو تفسير.
لقد استغرقت اللعبة كل الأطراف في الساحة الفلسطينية وأخرجتها عن هدف اللعبة الأصلي، بل وأصبحت هذه الأطراف تسجل “الأهداف” في مرماها، وأصبح على الشعب أن يغير القواعد ويجيب عن سؤال “ماالعمل”.