كان مرهقاً للغاية حين وصل بيت لحم، وضع حقيبته الصغيرة لدى صديق قديم ردّ له خدمة أثناء فترة الدراسة، ومضى مسرعاً إلى الفندق حيث يجتمع مشاهير الحركة التاريخية الأشاوس. لم يتعجّب حين رأى كلّ ذلك التجمّع الكبير من الحرس والعربات الفخمة.
– وهل من الضروريّ أن تكون الثورة فقيرة؟ لا .. هذا أمرٌ طبيعيّ ولا بدّ للحياة أن تسير!
أخيراً شاهد أحدهم وكان قد قرأ عن تواضعه الشديد وحرصه على التفاعل مع عامّة الشعب والقاعدة الأساسية للحركة.
– يا فاتح يا كريم! قال الفتى ومدّ يده بحذر وخجل واستمرّ قائلاً: يسعدني أن أراك أخيراً سيّدي أبو الفتح! دعني أحمل عنك الحقيبة .. لا أراك الله مكروهاً خلال المائتين سنة القادمة.
– لا يا ابني .. لا أحد يحمل حقيبتي .. هل جننت؟
– بل هو الاحترام الذي أكنّه لك منذ زمن بعيد!
غمز أبو الفتح أحد القبضايات من حوله، اقترب من الشاب وعيناه تقدح شرراً، عندها أدرك الشاب عبث مشروعه فابتعد عن أبي الفتح قبل أن يأكل علقة لذيذة ومقنعة. تقدّم من شخصية أخرى وكانت معروفة للداني والقاصي وقال.
– أعرف مطعماً يحضّر الفول المدمّس بحرفية كبيرة كما هناك الحمص والمتبّل والفتّة والفلافل والمشوي وأسياخ الكباب، إذا شعرتم بالجوع خلال عملكم المضني فأنا على استعداد لإحضار الطعام يا أبا (الفتح 2)؟
أبو الفتح 2 كان أكثر واقعية وبالأحرى كان جائعاً وقال.
– عجّل يا ابني بإحضار ما ذكرت فأنا أشعر بجوع غريب بعد كلّ هذه المداولات والتحالفات، هذه الانتخابات تبدو صعبة للغاية، كان من الممكن الانتظار عشرون عاماً أخرى .. سامحك الله يا رئيسنا .. لم يبقَ من العمر أكثر ممّا مضى .. والفوز غير مضمون هذه المرّة، طلع في السحبة شخصيات ولاعبون جدد!
– والقضية يا أبا الفتح 2؟
– والله دفعت دمّ قلبي من أجل القضية يا ولدي، تصوّر بأنّني لم أدخل عمارتي منذ أكثر من شهر لإتمام هذا العرس الفلسطيني!
– الله يكون بعونك، فلسطينيو الخارج لا يعرفون بهذه التفاصيل، ومن الضروري اطلاعهم على كلّ هذه التضحيات بالرغم من أنّهم يفتقدون لأيّ تمثيل في هذه الجمهرة الوطنية العملاقة يا أبا الفتح 2.
– هناك أجندة سياسية ملحّة .. وفلسطينيو الخارج متعبون وكثر ولا نريد همّاً فوق همومنا الحالية وما أكثرها. يعني التعنّت الإسرائيلي من جهّة وجبهة الممانعة وعلى رأسها حماس كلّ هذا تسبّب بتهميش البعض ولمصلحتهم بالطبع.
– ولكن يوما ما كانت القضية متعلقة بوطن يا سيدي؟
عندها نظر أبو الفتح للفتى وبان الحزن في عينيه وقال.
– هناك فارق هائل ما بين مشروع الثورة النقيّ وما بين مشروع السياسة يا بنيّ .. كنت أتمنّى لو قضيت كباقي زملائي قبل ربع قرن ويزيد! أنا الآن مجرّد منظّر سياسي أسعى لتقوية أوراق الحركة وأخشى على أرقام حساباتي من الانهيار، أراقب أسعار النفط العالمية ولا أمانع من استخدام الشرطة الفلسطينية للعنف عند الضرورة .. نحن الثورة الوحيدة في التاريخ الإنساني التي وافقت على مشروع السلطة وأدواتها قبل التحرير، وأصبح هاجسنا الأمن .. أمن الرئاسة ومخافر الشرطة؟ أمن الآخر الذي عمل المستحيل لنصبح الضحية والجلاد في آنٍ واحد.
– تقصد العدوّ الإسرائيلي؟
– كان عدوّاً يا بنيّ .. كان عدوّاً .. الآن هو شريك عملية السلام العربية الفلسطينية من جانب واحد، وإذا ما توقّف هذا العدوّ كما تدّعي بعد سنوات عن بناء المستعمرات فهذا يعتبر تحريراً للأراضي التي سوف تحتلّ في المستقبل القريب! على أيّة حال تعالَ لأعرّفك على أحد الأصدقاء .. أبو الفتح 3!
– أهلاً أبا الفتح 3 .. أنا مسرور لمقابلتك، لقد اتّصلت بصديقي والطعام في طريقه إليكم؟
حدجني أبو الفتح 3 وقال بتحفّظ.
– ومن قال لك بأنّنا جياع!
– الرئيس واقف فوق رؤوسكم 24 ساعة .. شيء طبيعي أن تكونوا جياع، خاصّة إذا كان البروتوكول يستدعي أن تتناولوا الطعام بعده أو على الأقل معه وليس بشكلٍ منفرد وثلاث مرّات يوميّاً.
– يظهر عليك فتحاوي فهلوي يا فتى؟ بالمناسبة من أي قطاع أو إقليم أنت؟
– أنا من غربستان يا أبا الفتح 2 و3.
– غربستان .. ولكن من يكون أمين سرّكم؟
– لا أدري يا سيدي، لأنّ أمين سرّنا يعيش في دولة ثالثة ويحضر بين الحين والآخر، يعني التنظيم عندنا حسب المقاس، والمقاسات هذه الأيام نصّ كمّ حتى في أيام الشتاء الباردة.
نظر أبو الفتح 2 إلى أبي الفتح 3 وقال.
– هذا الفتى كنز! يجب استغلال هذه المواهب.
– لا بدّ من استشارة أبي الفتح 4 بهذا الشأن!
لاحت الأطعمة الشهية من بعيد.
– بل أقترح تصنيفه ضمن قوائم المؤتمر .. صدّقني لن يلاحظ أحد حضوره من عدمه، ولن يسأل أحد عن آلية دعوته للمؤتمرّ .. سجله على دفاتري! أتذكر يا أبا الفتح 3 المؤتمر الخامس! هزّ الدنيا في الجزائر!
– لهذا المؤتمر السادس جاء مهزوزاًً بالكامل؟
– بل ناضج يا رجل؟
– تقصد؟
– أقصد الاستحقاقات التي أنجزها الرئيس .. انظر إليه كيف أنكر النوم وبقي معنا على قدمٍ وساق لإنجاح هذه الصحوة المباغتة للحركة!
– صحيح .. يقولون بأنّه رجل مؤسسات فاعل وجريء.
– نعم .. تمكّنّا من تحرير الكثير من قطع الأرض المترامية في أطراف الضفّة الغربية وعلى رأسها رام الله وأريحا؟
– وتمكّنّا من تحجيم الإرهاب الفلسطيني والذي كان يسمّى قبل أوسلو مقاومة فلسطينية .. بالمناسبة، ألا يعني هذا تحسين صورة المواطن الفلسطيني الذي يسعى للسلام بكلّ ما أوتي من قوّة؟ هل من الضروريّ القتال إلى يوم الساعة ونحن لا نملك ما يغطّي عورتنا، بعد أن طردنا من بيروت واتّخذنا تونس مركزاً لنا.
– تونس .. آخر رجال المقاومة اغتيلوا هناك .. لم يبقَ الكثير للمراهنة عليه؟ بعد عودة الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى رام الله أصبح مشروع السلام والدولة أمرا حتميّاً.
– للحديث بقيّة دعنا الآن نركّز جهودنا على المؤتمر السادس!
تمكّن الفتى من دخول أروقة المؤتمر السادس وبدأت المراهنات والخطابات والأحاديث الجانبية، لعبة الانتخابات كانت شرسة وتمكّن صاحبنا أخيراً من الدخول في تحالف مع تجمّع أبي الفتح 2 وأبي الفتح 3، وبهذا أصبح رقماً في حركة الآباء .. وعلى قبر آخر شهيد تعقد أولى الصفقات السياسية .. إلا عندنا، فالشهداء سقطوا ويسقطون وسيسقطون والصفقات توقّع تترى.
صمت يا شباب .. النشيد الوطني الفلسطيني!
افتتح المؤتمر.
صمت يا شباب .. النشيد الوطني الفلسطيني!
اختتم المؤتمر.