طعم الرغيف
سهام البيايضة
قبل طلوع الفجر,وضع أبو صايل كيس القمح على دابته ,يرافقه ولده صايل ذو الثمانية أعوام, متوجهين إلى المدينة عبر الوديان وسفوح الجبال , قاصدين زيارة عمة صايل ,التي تزوجت قبل أن يولد, من احد التجار الذين قدموا إلى القرية فكان أن حصل النصيب, وانتقلت العمة,للعيش في المدينة ,تنعم بالحياة والرفاهية,التي كانت على النقيض من أحوال أخيها ,لكن واجب الزيارة أصبح حتمي بعد أن وصل إلى أبو صايل خبر مرض أخته في المدينة ,فكان واجب الزيارة والسؤال ضروري ,لا بد منه. لا يزال صايل يذكر تلك الرحلة التي رافق بها والده ,بين ابتسامة ودمعة ,وألم وسعادة.فلم يمر يوم في حياته دون أن يجتمع عليه نقيضي المواقف معاً. سار صايل خلف والده الذي عرف بقسوته وحدته ,الأب يسرع في المسير وصايل بخطاه القصيرة يمد ساقيه الصغيرتين ليلحق بوالده الذي كان يزجره “يلا يا ولد!” عندما تتعب ساقيه من الجري خلفه. رغم ألم القدمين وأشواك الطريق التي استقرت على أطراف ساقيه محدثةً الألم والوخز المؤلم إلا أن صايل يشعر بسعادة كبيرة,وقد شد الرحال إلى عمته ,حيث هناك عالم جديد وغريب عنه لا علاقة له بعالم القرية ,وسيكون له بعد العودة مخزون من القصص والأحداث يرويها لأصحاب طفولته في القرية وكأنه بطل عائد من معركة حاسمه . على أطراف بئر الماء القديم الذي يتوسط ساحة القرية القديمة اجتمع الأولاد وقد تملكهم الفضول وتسارعت الاسئله, يطرحونها على صايل الصغير وهو يكاد يضجر من صوت الضجيج والضحكات التي أحاطت به ,تريد معرفة كل شيء عن رحلته القادمة إلى عمته ,ماذا يلبسون هناك؟ وماذا يأكلون؟ ..و أسئلة كثيرة عجز صايل عن الإجابة عليها ,فالفضول يتملكه كما يتملك تلك العقول الصغيرة, التي تصغره بسنوات وتكبره بسنوات, يزيد عددهم أحيانا عندما يجتمعون حول البئر, ويقل حسب انشغالهم بالمراعي وأعمال الزراعة مع عائلاتهم.ويبقى سعود الصغير الذي لم يتجاوز السادسة رفيقهم المدلل أحيانا والشقي أحيانا أخرى, يأمرونه, ويطلبون منه خدمتهم, أو تسلق أعلى شجرة التين العتيقة لصغر حجمه وخفته, وقطف ثمار التين البعيدة عن متناول أيديهم.. بين الجري والتوقف وصوت أبو صايل المزمجر يأمره بالإسراع ,ظهرت من بعيد معالم القلعة القديمة التي تحيط أسوارها بالمدينة ,تنفس صايل الصعداء, إذاناً بقرب المسافة من المدينة, وأنهم على وشك الوصول,وقد بدأت أشعة الشمس تنشر دفئها فوق السهول والروابي المحيطة , التي استشعر صايل دفئها وقد لوحت وجهه الصغير بأشعتها وصبغته بلونها الأسمر,وبدأت قطرات من العرق تظهر فوق جبينه, وهو يسرع الخطى للحاق بوالده . وقف أبو صايل في أسفل السفح الجبل الذي تقع عليه المدينة, وقد ظهرت بيوتها وملامح العمران فيها بين أبراج القلعة القديمة. “اسمع يا ولد!!”قال أبو صايل محذراً:” إذا دخلنا بيت عمتك ,تجلس بأدب ,وإياك إذا قدمت طعام أن تمد يدك عليه,هل فهمت ما أقول؟” ..قال صايل,وقد بدأت معدته تقرقع وتتلوي داخل تجويف بطنه ,وقد خلت تماما من الطعام:.”حاضر!! ” غير مستغرب, موقف والده الحازم في أمور الأكل والشرب عند الناس, حتى لو كانت عمته, فزوجها يعتبر غريبا عنهم, ولا يجوز إظهار حاجتهم أو جوعهم أمام الآخرين. عبر سوق المدينة سار الأب والابن وقد تعالت أصوات الباعة يروجون لبضائعهم, حتى اقتربا من فرن الخبز في وسط المدينة. شعر صايل انه سيغمى عليه , عندما شم رائحة الخبز المنتشرة في المكان,توجه صوب الرائحة ليشاهد أقراص الخبز المحمر, وقد انتفخت في الفرن ,وبعصا طويلة مبسطه من الأمام يخرجها الخباز, ويضعها على لوح خشبي لتبرد…خبز ليس كخبزهم في القرية!! ,وقبل أن يقترب أكثر,شعر بصفعة دوت فوق أذنه أفقدته التوازن واقعاً ارضاً.صارخاً به والده :”امشي يا ولد!!” لم يستطع صايل أن يمسك نفسه عن البكاء ,غير مدرك هل هو من شدة الصفعة أم من ألم الجوع.عندها شعر بيد ترفعه عن الأرض ,كان ذلك الخباز, وقد حمل بيده الأخرى رغيف خبز “كماج “,ناوله لصايل وطلب منه أن يخفيه داخل قميصه حتى لا يراه أبوه ,لم يكن باستطاعة صايل الإجابة بالرفض أو القبول وقد انفجر باكيا متألما من جميع النواحي , داساً الرغيف تحت قميصه , ليلحق بوالده, قبل أن يختفي بين الناس والباعة. أمام الباب الخشبي الكبير ,وقفا ينتظران استجابة أهل البيت على قرع الباب ,وبعد فترة وجيزة سمع صايل صوت أنثوي من بعيد عرف انه لعمته .ومع اقتراب الصوت عرف أن الباب على وشك أن يفتح ,عندها بدأت دقات قلبه بالتسارع خوفا من أن يصدر عنه سلوك يغضب والده فلا يسلم من صفعة أو لكزه قويه تؤلمه,من جديد,ولا تزال دموعه تنسكب فوق وجنتيه,وقد شد ذراعه على بطنه خوفا على رغيف الخبز من أن يظهر من تحت القميص ,وقد احمرت عيناه وانتفخت أوداجه من البكاء,وقبل أن تفتح عمته الباب, أمره والده بالكف عن البكاء وإلا صفعه من جديد,توقف صايل عن البكاء إلا أن تنهيدات حرى, كانت تخرج من بين الكبت, يشهق بها صدره الصغير,محاولا كتم صوت الألم الذي عجز عن السيطرة عليه. فتحت العمة الباب مرحبةً باشة, بحضور أخيها وابن اخيها, لزيارتها وتفقدها, بين أهل زوجها وجاراتها من حولها, وكانت بين الحين والآخر ترفع صوتها وكأنها تريد إخبار من حولها بقدوم أخيها, وابنه الصغير. قامت الأخت بواجب الزيارة وعرض الطعام على أخيها وابنه إلا أن الأخ رفض ذلك متحججاً بأنهم تناولوا الطعام في السوق, وأنهم لا يريدون سوى الاطمئنان عليها وعلى أوضاعها الصحية.ومن على الباب الخشبي الكبير ودع كل منهما العمة ,وقبل أن يخرج ابوصايل من المدينة قايض كيس القمح الذي وضعه فوق الدابة واخذ مقابله, بعض الحاجيات للبيت ثم طلب من البائع أن يضع في جيب صايل حفنه من القضامه(حمص محمص) ليسكت بها جوعه وهو في طريقه إلى القرية. على أمل الوصول إليها قبل المغيب. ومع آخر خيوط الشمس الغافية في أفق المغيب, وصل صايل وأبوه إلى قريتهم .وقبل أن يدخل صايل إلى بيتهم, توجه إلى ساحة القرية ,وحول بئر الماء المتربع في وسط الساحة, اجتمع رفاقه ينتظرونه,ليخبرهم عن رحلته, ركض صايل باتجاههم وهو يشد بذراعه فوق الرغيف حتى لا يسقط من تحت القميص,متناسيا كل ما حصل له أثناء الرحلة ,مقابل رؤية وجوه أصحابه عندما يشاهدون رغيف الخبز. أحاط رفاق صايل به ,وبين الدهشة والمفاجأة اخرج من تحت قميصه رغيف الخبز, عندها,خرجت من أفواههم صرخات ,استشعر فيها صايل بالخوف من هجومهم عليه وانتزاع الرغيف منه ,وقبل أن يعطيهم أي مجال للتعبير أو السؤال عن الرغيف انطلق هاربا منهم وقد لحقوا به مجتمعين , يريدون بعضاً من الرغيف. انطلق صايل لا يعرف إلى أين يتجه,وأثناء جريه السريع كان يفلق من الرغيف ويضع في فمه, والأولاد خلفه يصرخون, ويتوعدونه بعلقه إذا لم يتوقف,إلا انه رفض الاستجابة إليهم, وقد اشتد عزمه على رغيف الخبز,هو يركض.. وهم يتبعونه ,حتى الصغير سعود.كان يجري خلفهم وقد بعدت المسافات بينهم كل حسب جهده وقوته ,وبقي سعود آخرهم متخلفا عنهم جميعاً.ومع آخر فلقة من الرغيف وضعها صايل في فمه ,وصل إلى صخرة كبيره ,جلس فوقها وهو يلوك آخر لقمة,وقد تجمع رفاقه الواحد بعد الآخر حوله, يلهثون من التعب ,وقد يأسوا من الحصول على شيء من الرغيف.وقبل أن يبلع صايل آخر لقمه وصل الطفل سعود,جلس أمام صايل وهو يلهث من التعب,ومن بين أنفاسه المتقطعة قال لصايل: “قولي يا خوي يا صايل ..طعم الرغيف.. مثل خبزنا؟؟”