أرشيف - غير مصنف

الفيل يا ملك الزمان

دكتور ناجى صادق شراب
عنوان المقال ماخوذ من نفس عنوان مسرحية الكاتب المسرحى سعد الله ونوس التى جسد فيها الحالة السياسية العامة التى تعانى منها مجتمعاتنا العربية من تأزم وخوف سياسى وإنتشار لثقافة الخوف والقهر ، وثقافة السرب ، وفيها أن سكان مدينه والمدينة ترمز لكل المدن العربية ضاق أهلها من فيل الملك الذى يعامله معاملة خاصة فيها الكثير من الدلال والحرية وعدم المساءلة أو العقاب ، وهنا قد يرمز الفيل إلى ألأجهزة ألأمنية القمعية ، والتمايز المعيشى الذى يعانى منه عامة الناس ، من فقر وبطش وبطالة ، ولكن هذا الفيل حرا يفعل ما يشاء فى المدينة ، عندها قرر سكان المدينة الذهاب إلى الملك ليشكوه من تصرفات فيله وكف أذاه عنهم ، وهم فى الطريق إلى الملك وتسيطر عليهم حالة من الخوف والإعياء أدت إلى تساقطهم الواحد تلو ألأخر ، ولم يتبقى منهم إلا القليل ، وعندما سألهم الملك ماذا تريدون ، حال الخوف فى داخلهم من التحدث عن شكواهم ومطالبهم ، وقالوا ياملك الزمان الفيل ، وسألهم وما به ، فقالوا لا بد له من فيلة تؤنس وحدته . هذا الوصف المسرحى لم يأتى من فراغ ، بل هو معايشة حقيقية وواقعية للهموم السياسية التى يحياها المواطن العادى ، ولست بصدد تحليل هذه المسرحية فهذا يخرج عن نطاق إختصاصى ، ولكنى أرى فى هذه المسرحية إنعكاسا للواقع السياسى ولحلة ألإستبداد والتسلط وإنسحاق المواطن العادى . وهنا تبرز أزمتان تعكسان علاقة الفيل بالملك ، ألأزمة ألأولى أزمة بنيوية تعانى منها أنظمة الحكم ، وتتركز فى التراجع الديموقراطى ، وسيادة أنظمة حكم مركزية ، وأنظمة حكم أتوقراطية وهنا لا تختلف كل ألتيارات السياسية قومية علمانية كانت أم دينية ، فسمة التركز وإحتكار وحب السلطة والتسلط مشتركه، وصحيح حسب تعبيرات ميرابو خطيب الثورة الفرنسية وعضو مجلس المندوبين والتى سجلها فى كتابه دراسة حول الإستبداد أن هناك نزعات خيرة فى ألإنسان ، لكن حب السلطة والتسلط هو الذى يخلق فى داخله وحش سياسى إسمه الإستبداد والتسلط والقهر ، وألأمثلة على ذلك كثيره ، ولا تبعد عنا ، والجانب ألأخر من ألأزمة أزمة ثقافية فكرية ، ، ويقف وراء هذه ألأزمة ثقافة الراعى وثقافة السرب والخوف والقهر وخوفه الدائم من بطش الحاكم والسلطة ، وهنا تتفنن السلطة فى ألوان التعذيب وقد تكون مقصوده لبقية المواطنيين الذين يأثرون البعد عن السياسة وكما يقال لدى عامة الناس البعد عن السياسة راحة ، وما لى ومال السياسة ، وهكذا يتحول المواطن إلى حالة من حالات اللامواطنه ، والسلبية وعدم الثقة فى الساسة والسياسيين الذين هم من وجهة نظره مخادعين ، غير صادقين ، ومنافقين ، وتصبح السياسة لديه مقرونة بالكذب وعدم الصدق والإحتيال والخداع ، وبهذه الثقافة يفقد المواطن القدرة على التعبير عن مطالبه وحقوقه خوفا من البطش والإعتقال ، وبدلا من أن تسود ثقافة المسوؤلية والمساءلة ، والحاكم المحكوم والمحكوم الحاكم تسود علاقة الراعى بالرعية التى هى أشبه بالراعى الذى يسوس قطيع من الماشية وبعصاة يمنعها من الخروج عن الطريق الذى يرسمه لها . وفى مثل هذه ثقافة تختفى ثقافة المواطنه والولاء والإنتماء والمصلحة العامة ، لتسود ثقافة المصلحة الخاصة والمنفعة الذاتية ، وليس مهما ألأسلوب وألأداه التى تستخدم للوصول إلى هذه المصالح، والمهم أن أعيش وغيرى يموت ، ثقافة تفقد المواطن البحث عن حقوقه وحرياته ، وتحوله إلى مجرد فم مفتوح يبحث عن الغذاء . ولذلك يبحث المواطن العادى عن فرديته وأنانيته هربا من أنظمة البطش ألأتوقراطية ، وكما يقال هنا دبر نفسك ، هذه الثقافة تشجع على نشرها أنظمة الحكم ألأتوقراطية حفاظا على حكمها ، ولذلك كل خروج ومعارضه عن الحكم يقع فى دائرة المؤامرة وله علاقة بالشيطان الأكبر وقد يكون أمريكا وقد تكون إسرائيل حسب ما يرى النظام . وتمتد هذه ألأزمة بجذورها إلى كافة مؤسسات المجتمع والتنظيمات المجتمعية التى يفترض أن تقوم بدور الكابح والمانع لحالة الإستبداد والبطش التى تمارسها الدولة وأجهزتها القمعية ، تتحول هذه التنظيمات إلى مجرد هياكل ورقية يحاول النظام أن يجمل نفسه بها ،ويتظاهر بتمسكه بالديموقراطية وبدعم الحريات والحقوق الإنسانية، ولذلك أى تقرير يصدر عن مراكز ومؤسسات حقوق ألإنسان وفيه مساس من هذا النظام أو ذاك النظام يعتبر منافيا ومحرضا ويفتقد الحيادية ، أنظمة تقع خارج النقد كما تقع خارج الكون الأرضى الذى توجد فيه ، فالحاكم وحاشيته ينظرون إلى المواطنيين من اعلى ، ولهم ما ليس لغيرهم أن يتصرفوا كما يريدون دون خوف من محاسبة ومساءلة ، فالمحاسبة والمساءلة قاصره على بقية الرعية وعلى كل من يعارض النظام . وهكذا تتم فى هذه ألأنظمة عملية تفريغ منظمه لكل ما من شأنها أن يحارب النظام ، عملية تفريغ تطال المواطن نفسه بأن تجعله يعيش دائما فى هاجس الخوف والقلق والقهر وتحوله إلى مجرد باحث عن لقمة العيش ، وعملية تفريغ تطال كافة التنظيمات والمؤسسات المجتمعية وخصوصا الحزبية منها ، بتفريغها من دورها الحقيقى وجعلها مجرد هياكل ورقية محسوبة على النظام السياسى دون أن تساهم بأى دور فى صنع القرار والسياسة العامة فهذه من المحرمات التى لا يجوز مشاركة ألأخرين ، لفقدانهم الحكمة والذكاء لأنها من صفات من يحكم . وفى مثل هذه النظم تتعانق العلاقة بين ألأنظمة البيروقراطية والعسكرية والحاكم نفسه ، لأن كل منهما يكمل ألأخر الحاكم يقدم المنافع والمكاسب والخيرات للعسكر ، والعسكر فى المقابل يقدمون الدعم والبقاء للحاكم .
 
وليس معنى ذلك أن يتحول المواطنيين وتنظيماتهم ألمجتمعية إلى مجرد جوامد غير قابله للحركة والتمرد والمعارضة ، وهذا يستوجب حراكا سياسيا منتظما ودائما من النخب السياسية والفكرية ، وحراكا فاعلا من مؤسسات المجتمع ، من خلال عملية رفض مستمره قد تأخذ صورة إنتفاضات وإحتجاجات شعبية من شأنها ان تدفع بالنظام الحاكم أن يتراجع عن آلية حكمه و الإنفتاح اكثر جماهيريا ، وأن يعيد الحاكم علاقته بالفيل ، وقد يستبدلها بعقد جديد يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم. وهذا قانون حتمى فى تغيير أنظمة الحكم التى سوف تمر بدورة دائرية تقود إلى سقوط هذه النظم ألإستبدادية الشمولية ، فقوة الحكم وديمومته بتواصله مع مواطنيه وإنفتاحه على حقوقهم وحريتهم ومعاملتهم كمواطنيين وليس كرعايا .وألأمثلة على سقوط أنظمة الحكم الشمولية وعلى صدقية قانون دورة الحكم سقوط النظم الشيوعية التى سادت عقودا طويله فى أوربا الشرقية ، وسقوط النظام الشيوعى السوفيتى ـ ونظام الشاهنشية فى إيران . وهذه ألأمثلة هى عبر ودروس لما يجرى من إحتجاجات وحركات جماهيرية إصلاحية فى العديد من النظم ألأن.
 
دكتور ناجى صادق شراب /أستاذ العلوم السياسية /غزه
 
 

Prof. Nagy Sadeq Shurrab

زر الذهاب إلى الأعلى