أرشيف - غير مصنف

سألوني فَلَمْ أُجبْ !

جميل عـبـود
سألوني، كيف تكون مدرسا ً للرياضيات وتكتب في العلوم الإنسانية؟ اكتفيت بالابتسامة، ولم أجب على السؤال، لا لأني لا أريد الإجابة عليه، ولكن مثل هذا السؤال الكبير يصعب الإجابة عليه بكلمات معدودة، لكنني اليوم سأحاول ما استطعت.
 
 للأسف الشديد، يعتقد معظم الناس أن ثمة تناقضًا بين العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية، غير أني لا أرى الأمر كذلك، لأن المعرفة والعلم يجب أن يتداخلا مع الإنسانيات، لخلق الإنسان الذي نريد.
 
 ليست هناك حياة أغنى من حياة المعلم من الناحية الاجتماعية، فعندما يكتب الآخر قصة يتخيّلها، أما أنا فأعيشها وألمسها، وما حدث معي خلال حياتي كمُعلم أستطيع أن أكتب عنه الكثير.
 
لقد عشت في هذه المهنة – لا أحد يعترف بها كمهنة - فترة مهمة في حياتي غيّرتني كانسان، ليس من شأن الإنسانيات أنها جعلت مني مُعلما ً أفضل فحسب، بل من شأنها أن جعلت مني إنسانا ً أفضل.
 
الإنسان برأيي كائن غير معروف حتى الآن، صحيح أن كلا ً منا يدّعي أنه يعرف نفسه، لكن الأمر بخلاف ذلك تماما ً، فعندما أبدأ أتساءل من أنا ؟ وأبدأ أفكر مليا ً بالسؤال، قد يأتي وقت أضيع فيه، فقد أظن سطحياً أني أعرف نفسي ومن أكون ؟ لكني في الواقع غير ذلك.
 
أنا لا أملك مصيري، لأني أجد نفسي في بعض الأحيان أقوم بتصرفات لا أريدها، ثمة أشياء في نفسي لا أملكها ! ومن يدّع أنه يعرف نفسه، ويفهم كل شيء عنها، هو في الواقع لا يفهم شيئاً.
 
هناك أشياء عميقة في الإنسان لم يُحاول فهمها، فهو لا يعرف، كيف يُحب؟ ولماذا يُحب؟ ولماذا يموت حُبا ً بهذا الشخص؟ ولماذا يكون مُستعداً أن يذهب إلى الموت معه ؟ ولماذا يكره ذاك؟، ولماذا لا يمكن أن يُحبه ؟
 
 إن أمور الحب والكره والتصور والفلسفة والطموح كلها أمور عميقة نحن لا نلم بتفاصيلها ولا نعرف عنها إلا القليل.
 
ومن أهم الأشياء العميقة أن تعرف أكبر النعم التي وهبها الله إليك، وهي نعمة الصحة على المستوى الشخصي، ونعمة القدرة على خدمة الناس، فمن لا يسعده العطاء لا يمكن أن يسعده أي شيء مهمّ في هذه الحياة.
 
 والفرد يجب أن يخدم المجتمع، ولا يكتفي بخدمة نفسه فقط، وإلا أصبح مثل خلية في الجسم تسرطنت، فأصبحت لا تنتج الإفرازات الطبيعية التي يحتاجها الجسم، بل الإفرازات التي تمكنها هي من العيش على حساب هذا الجسم، ويكون الخطر الأكبر عندما تنقسم هذه الخلية التي تسرطنت، ويذهب قسماً منها إلى مناطق أخرى في الجسم.
 
 الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن أخسره، هو فلسفتي لمعنى الحياة، فأنا أعتبر حديثي مع صديقي سعادة لي، وشيئا له معنى كبير، أن أخدم صاحبي وجاري وكل من يدقّ بابي أمر له معناه الأكبر، ثروتي الحقيقية هي المحبة التي أكنها للناس والمحبة التي يُكنونها لي.
 
أن تحب أنت الناس أهم من حُبهم لك ، الأهم هو عندما تنام تكون مُتحرّراًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً من كل غيرة وحقد وحسد وتكون في سلام مع نفسك ومع الآخرين .
 
أما المال فهو يحفظ للمرء كرامته عندما يكون في حاجة إليه ، وهو ليس قيمة إنسانية أو معنوية بحد ذاته، ولكن المهم كيف أستعمله؟، فإذا ما جمعت المال واشتريت به السيارات والقصور ولم يكن لدي قصور محبة في قلوب الناس فأنا لا أملك شيئا لأن المال ورق يطير.
 
هذه كانت قناعاتي التي حاولت توصليها، لمن تعامل معي، وسأحاول توصيلها للصغار من أبنائنا، لهذا يجب أن ندربهم على استخدام العلم في اكتشاف الحقيقة وعلى أن يقولوها إذا امتلكوهالأن الوصول إليها والقول بها يضيف عقولا ً جديدةً إلى عقولهم .
 
عليهم أن يفهموا أن الجهل بالشيء ليس عيبا ً ، وأنهم يستطيعون المجاهرة بوجود أشياء لا يعرفونها، وهذا ليس عيبا ً ، لكن العيب هو الإدعاء الكاذب للمعرفة.
 
علموا صغاركم الإصغاء للآخر، الذي يحمل رأيا ً مختلفاً عن رأيهم، دون أن ينزعجوا، لأنه يخالفهم في الرأي، وأن يأخذوا هذا الآخر بعين الاعتبار، وينسقوا معه الأفكار الناتجة عن هذا الحوار.
 
إن الحوار هو الذي يُولد العقول، ويجعلها قادرة على استيعاب الأمور.
 
 
 
جميل عـبـود
 
حزيران 2009
 
 

زر الذهاب إلى الأعلى