أسبوع آخر من تقويم الغربة
السبت وحمّى التسوّق وصخب المدينة، المقاهي مليئة، أحاديث متناثرة بلا معنى، مشاريع لا تنفّذ، أحلامٌ تذوب مع انقضاء ساعات النهار. وفي المساء نمضي نحو ضالتّنا، ربّما نعرج لصالة عرضٍ أو ندخل مسرحاً رديئاً قد يتعرّى الممثلون خلال العرض دون داعٍ، أزمة حضور وتذاكر يصعب بيعها، الجسد وسيلة للعبور نحو النجاح .. أسدل الستار ولبست الممثلة كرامتها بينما قطرات الماء ما زالت تتساقط من شعرها المبتلّ.
الأحد وأصوات أجراس الكنائس يرتفع وعرسٍ منتظر منذ سنوات بعد أن تاق العروسين للطلاق والفراق ولكن كيف يكون هذا قبل أن يجرّبا فتنة الزواج! الشوارع مفرغة من العابرين إلى عصب الحياة، النهار يمضي في الفراش وسلسلة من الأفلام لا تنتهي ما بين دراما وملاحقة بعربات مأجورة تطير ما أن تلامس القدم دوّاسة الوقود. وفي الليل نوادٍ تمتلئ تهنّئ روّادها وغناء يستمرّ حتى ساعات الفجر قبل الأذان بقليل!
الاثنين والجسد يقاوم سلطة المدير والجلوس خلف المكتب وإعداد التقارير ومتابعة الملّفات وترجمة ما قيل وما سيُقال والرسائل تدلف من نافذة البريد الالكتروني وفي القلب غصّة حان وقت الاستراحة ولا قهوة في الجوار! ينقضي النهار ببطء أنقل جسدي إلى الفراش أشرب الشاي وألعن الشاشة الفضيّة لا أفلام هذه الليلة، سأستمع لنشرة الأخبار الملأى بالمآسي والفقر والمجاعات والقتل المنظّم ومشاريع السلام الأوروبية بزعامة أمريكية وموت بطيء وتمرّد ولعنة الإنسانية وحوادث السيارات واليانصيب وذروة البرد ودرجات الحرارة المتسلّقة جدار الروح، تجاوز الوقت منتصف الليل وعبرت إلى نهار آخر.
الثلاثاء أعشقه، ألقاك دون موعد، تأتين دون دعوة، تنظرين إليّ مطوّلاً دون سائر الموظّفين. الثلاثاء تنقلين الحسابات والموازنة المالية لمديري الغبيّ، تمرّين عبر قلبي على عجل، لتزيحي عن عاتق ثريّ آخر عبء ضرائب يسهل التهرّب من دفعها، سلّم الرواتب ثابت وميزان المصاريف يتفاقم والأرباح متدنيّة، خزينة الدولة تُعفي مديري من دفع الملاليم ما دمت أنتِ قادرة على التنقّل بسهولة ما بين القانون وشرايين قلبي!
الأربعاء .. منهكٌ أنا يا أمّي، حاولت الاتّصال بك طِوالَ الأسبوع، لكنك كالعادة ترفضين البقاء أسيرة المنزل. اسرقي من الهواء طلاقته ومن الريح خطواتك ومن الحياة أياما أخرى، كوني كما أنت متمرّدة على المرض والخنوع، وسأتمكّن أنا في لحظة صفاء من سماع صوتك. الأربعاء يضحك يفتح لي مسامات الورق لينضح قلمي بعض الألم المتخثّر بين أصابعي. لن أصعد إلى الطائرة، أجنحتي محنية مطوية تحتاج لبعض التمر والهال والتوابل ورائحة الينسون والزعتر وهمس الغرباء في النزل القريب وابتهالك يا أمّي ووقع حبّات المطر وتفرقع حبّات الكستناء فوق موقد كانون وملامح وجوه كادت تذوب مع الزمن، لن أصعد إلى الطائرة يوم الأربعاء!
استحمّ الفتى النظر يومَ الخميس وسكب العطر فوق جسده واستعدّ للزفّة التي ستنتهي في بيتها ثمّ سيمضون معاً في رحلة العسل لمنتجع شرم الشيخ تيمّناً بسلامٍ قد يُعْقَدْ وعودة ميمونة إلى قرية ضاعت ملامحها، من هنا مرّ أصحاب القرار وانتهت الحكاية من حيث ابتدأت، وبعد سنة أو أكثر وربّما بعد شهر ويزيد سينتفخ بطنها منذرةً هذا العالم بقدوم بائس آخر، أو مواطن عربي يفكّر بهجران رحم أمّه والوطن بحثاً عن النوارس. الخميس يعِدُ بحمّى التواصل والعروس تأتي بخفر، ترتدي خفّها وتتخلّص من نصاعة ثوبها وتنطفئ في أديم الرجولة، ثمّ تنهض ملوّحة بمنشفة صغيرة زيّنتها قطرات الدمّ معلنة براءتها من شياطين الشهوة!
الجمعة .. سألتني إلى أين؟
لم أكن أحمل سوى جواز سفري وحقيبة صغيرة لا تلفت الأنظار، جلست في صالة الانتظار، اشتريت تذكرة لأوّل عاصمة عربية، صعدت إلى رحم الطائرة، قالت المضيفة مبتسمة: أهلاً بك إلى أرض الوطن. كنت أحاول التخلّص من ذاكرتي بالعودة إلى بداياتها، كنت أحاول العواء لأتخلّص من الكلاب التي كانت تلاحقني في أحلامي! كنت أحاول أن أكسر حاسوبي وألقيه في مياه البحر مع جميع العناوين الجريئة! كنت أحاولُ أن أسحق ما تبقّى في جوانحي من حنين. كنتُ أحاول أن أصمت في زمن الثرثرة! أقلعت الطائرة وكان نصفي الآخر يضحك من سذاجتي صارخاً: لن يطول بقاؤك هناك .. صدّقني ستعود .. ستعود!