الآن وقد أحيلت قضية ما سمي بـ(خلية حزب الله) في مصر إلى القضاء، آن للعقل أن يتكلم وبعد أن ظلت العاطفة والصراخ هما سيدا الموقف والمشهد السياسي والإعلامي طيلة الشهور الأربعة الماضية، ورغم عشرات الملاحظات على هذا النوع من القضاء الذي أحيلت له القضية (قضاء أمن الدولة) ودرجة تسييسه ونوعية (القاضي) وسوابقه الشهيرة المعروفة في الحكم على أيمن نور ومجدي حسين وسعد الدين إبراهيم وغيرهم، فإن الأمر يظل في النهاية أننا إزاء (قضاء) وليس أجهزة أمنية وسياسية وإعلامية لديها قدرة هائلة على أن تفبرك وتخترع القضايا وتضخمها لأهداف أبعد ما تكون عن الحقيقة أو عن مهددات الأمن القومي المصري التي ظلوا يرطنون بها طيلة الشهور الماضية منذ أعلن عن هذه القضية في الأسبوع الأول من إبريل (2009) وحتى الأيام القليلة الماضية.
* حول القضية، أبعاد ودلالات، دعونا نسجل ما يلي عله يفيد وسط مناخ الشحن العاطفي والسياسي والركوب الأمني على وسائل الإعلام وتحويل بعض الصحفيين إلى مخبرين مفقدينهم أبسط قواعد المهنية والأخلاق ومسربين من خلالهم سمومهم السياسية البعيدة تماماً عن مصلحة هذا البلد المُبتلى بهم.
* نسجل ما يلي عله يفيد …
أولاً: نحسب أن العمود الفقري لقضية ما سمي بخلية حزب الله، ومن واقع ما نشر في الصحافة الرسمية والخاصة، وبعد تحليل دقيق لاعترافات المتهمين ال26 كاملة، التي نشرت باستفاضة ولدينا بشأنها ملفاً كاملاً، أن عمودها الفقري هو دعم المقاومة الفلسطينية، ربما أخطأ من قاموا بذلك الدعم، الوسيلة، لكن الغاية كانت وستظل نبيلة وشريفة، خاصة مع تقاعس النظام ومؤسساته عن ذلك الدعم، بل ومشاركته في حصار غزة، أثناء العدوان (يناير 2009) وقبله بعامين (منذ وصول حماس للحكم 2007) وبعد العدوان حتى اليوم، ما عدا ذلك لا توجد قضية حقيقية، لقد كان الهدف دعم المقاومة والتفكير مجرد التفكير في استهداف بعض المصالح الإسرائيلية في مصر والتي أسمتها صحافة المخبرين الرسمية والخاصة (بالأهداف الأجنبية) دون تحديد هويتها الحقيقية بهدف خلق الالتباس لدى القارئ أو المشاهد، كجزء من عملية الفبركة الأمنية الشهيرة والمعروفة عن الأجهزة الأمنية المصرية وصحفييها المخبرين! باستثناء هذا الاتهام (وهو في الواقع ليس اتهاماً بل وساماً وإن أخطأ أصحابه الوسيلة لتحقيقه)، باستالمصرية وصحفييها المخبرين!!نملفاً كاملاً، أن عمودها الفقري هو لم ترد عبر كل التحقيقات التي أجرتها النيابة ونشرتها الصحافة أية أهداف أخرى جادة وحقيقية لهذه الخلية المدعاة، ولقد سبق لنا أن نبهنا إلى خطورة هذه (الفبركات الأمنية-الإعلامية) منذ بدءها في إبريل الماضي على الأمن القومي المصري الحقيقي وليس أمن النظام الحاكم ورجال أعماله اللصوص، وقلنا في عشرات المقالات والمقابلات والندوات الإعلامية (وآخرها ندوة نقابة الصحفيين يوم السبت 15/8/2009) إلى أن ما جرى بشأن قضية خلية حزب الله وبعدها قضية التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وأيضاً قضية ما سمي تنظيم الزيتون السلفي، كلها كانت تستهدف دعم المقاومة الفلسطينية عبر عمل شعبي، وأن هذه القضايا (هكذا قلنا نصاً) أشبه بما يعرف في مصر “برغيف الحواوشي” وهو نوع من الأكلات الشعبية المصرية، يحتوي على كمية هائلة من البهارات والدهون و”الشغط” الضارة بالصحة و(قطعة صغيرة) من اللحم، وهي الحقيقة التائهة وسط هذا (الرغيف)، إن ما جرى وما سيظل يجري من أجهزتنا الأمنية ورجالها في الإعلام تجاه قضية حزب الله وغيرها هو (طبخة رغيف الحواوشي)، كمية هائلة من الأكاذيب والاختراعات مع قطعة صغيرة من اللحم (لحم الحقيقة)، والتي هي هنا: دعم المقاومة في فلسطين المعاصرة.
الآن ربما يكشف لنا القضاء، وهيئة الدفاع عن المتهمين بقيادة المفكر والمجاهد الدكتور/ محمد سليم العوا، والمحامي الإسلامي القدير منتصر الزيات عن قطعة (اللحم) التائهة وسط بهارات وشغط وأكاذيب (إعلام الأمن) الرسمي والخاص، وساعتها نحسب أنه سيكون واجباً على الفريق الإسرائيلي في النظام ـ إن بقي لديه حياء قومي واهتمام حقيقي بأمنه القومي ـ أن يكافئ هؤلاء المتهمين الشرفاء بدلاً من معاقبتهم كما يحاول جاهداً.
ثانياً: إن ما جرى من تلاسن إعلامي، ومن ردح سياسي واسع النطاق ضد المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وبالمرة (ضد حماس والمقاومة الفلسطينية) على خلفية هذه القضية يجعل المراقب يسأل: هل ما جرى من معالجة مصرية قاصرة وغبية للأزمة يدخل في نطاق الفبركة الأمنية فحسب أم صراعات الأجهزة، وتسابقها على إرضاء رأس النظام ووريثه القادم الذي يؤكد الخبراء السياسيون أنه لا يعرف ألف باء الأمن القومي للبلد الذي سيرثه!! في تقديرنا أن ثمة صراع خفي بين أجهزة الأمن والمخابرات المصرية الستة (6 أجهزة في عين الحسود) تجاه هذه القضية، بعضها وفق ما نشر لم يكن يريد للقضية أن تتجاوز شقها الجنائي المحدود والذي كان يسهل علاجه سياسياً وأمنياً مع حكومة السنيورة في لبنان بنفس الطريقة التي يعالجون بها مشاكلهم مع جواسيس إسرائيل في مصر (بالمناسبة عددهم وصل إلى 175 جاسوساً في 45 قضية مخابراتية منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد 1979 وحتى 2009) والذين وصل ضررهم بالأمن القومي المصري حداً خطيراً تمثل في التهديد الفعلي بل والقتل لمصريين (هل بلغك حادث مقتل الجندي المصري على الحدود يوم 17/9/2009 كأحدث إهانة وصفعة على وجه الفريق الإسرائيلي في النظام؟!)، ورغم ذلك تم التسامح وحل المشكلات وعلاجها بطرق هادئة دبلوماسية على النقيض تماماً مما جرى مع ما سمي بخلية حزب الله، رغم أن المتهمين فيها ـ كما تؤكد اعترافاتهم المنشورة ـ كانوا في طور التفكير في العمل، والنوايا!.
هذه الأجهزة الأمنية تصارعت واختلفت مع بعضها البعض، فكانت الطريقة الحمقاء في معالجة هذه القضية بما أضر استراتيجياً بسمعه النظام المصري، الذي صار يحاكم من يدعم المقاومة وحتى لو أخطأ الوسيلة بدلاً من أن يحاكم القتلة الصهاينة، وبدلاً من أن يساند هو هذه المقاومة بكافة السبل كما كانت تفعل مصر عبد الناصر على سبيل المثال (هل تتذكرون معركة إيلات الشهيرة التي أنتجت بعد ذلك في فيلم معروف).
* لقد تمخض عن صراع الأجهزة واختلافها، وانحياز النظام لبعضها ضد البعض الآخر، طريقة حمقاء لعلاج أزمة كان من الممكن علاجها بطريقة أخرى أكثر جدوى واحتراماً وتناسباً مع دور مصر القومي، وكان من الممكن الاستفادة (وبمنطق برجماتي صرف) منها في فتح طريق سياسي ذكي إلى لبنان وطوائفه، وقواه، مع احترام كامل للأمن القومي المصري وثوابته، والتي بالمناسبة تأتي مقاومة إسرائيل في مقدمتها حتى لو ادعى البعض غير ذلك!.
ثالثاً: يتبقى أن ننبه أن قضية ما سمي بـ(خلية حزب الله في مصر) وسواء كانت ناتجة عن فبركات أمنية أو صراعات أجهزة، فإن الواجب الشرعي والقومي للنخبة في مصر أن تأخذها منطلقاً لإعادة الاعتبار لثقافة المقاومة ولشرعية دعمها في فلسطين، شاءت الأنظمة أم أبت، وألا تخشى نخبتنا الوطنية الشريفة في ذلك أن تطلق عليهم هذه الأنظمة جوقة الإعلاميين المخبرين، تحت وهم تهديد الأمن القومي للبلاد، والذي نحسب أن مصدر تهديده الحقيقي يأتي من الصمت بل والمشاركة في الجريمة الكبرى التي تجري فصولها أمام أعيننا في غزة وفلسطين المحاصرة، دون أن نفعل لها شيئاً، إن الخيانة الحقيقية هي في هذا الصمت، وفي افتعال واختراع وهم اسمه (الأمن القومي) لمدارة عجزنا وهواننا على الناس، إن إعادة بلورة المفهوم الحقيقي للأمن القومي الذي يجعل من إسرائيل ومقاومتها أبرز ركائزه وإعادة الاعتبار لثقافة المقاومة وضروراتها مع فضح كل من يرفضها، وتعريته، هما في تقديرنا أهم ما ستقدمه لنا المحاكمة العلنية لما يسمى بخلية حزب الله في مصر، التي نتمنى أن تكون بالفعل محاكمة عادلة، وغير مسيسة لمصلحة الفريق الإسرائيلي في النظام الحاكم، وعلى الإعلام المستقل والشريف بكافة وسائله أن يضغط في هذا الاتجاه، لتحجيم إعلام المخبرين والرداحين، الذي أساء لمصر قبل أن يسيء لغيرها.
والله أعلم