أرشيف - غير مصنف

في ذكرى المؤتمر الصهيوني الأول

محمود كعوش
من حلم تيودور هرتزل إلى إرهاب بنيامين نتنياهو:
قرن وإثنا عشر عاماً من الإرهاب الصهيوني المتواصل
أذكر أنه عندما كان الصهاينة يحييون مرور قرن على رحيل ملهمهم والمنظر الأكبر لإرهابهم تيودور هرتزل في التاسع من شهر تموز قبل خمسة أعوام، حذرت بعض صحفهم المعروفة من مغبة حدوث كارثة حقيقية قد تهدد الوجود المصطنع للكيان الصهيوني القائم بقوة الحديد والنار فوق ثرى فلسطين منذ عام 1948، إذا ما استمر قادته بممارسة سياسة التمييز العنصري بحق الفلسطينيين الذين كان قد مضى على اغتصاب أراضيهم بالقوة في حينه ستة وخمسون عاماً. ولربما أن صحيفة “هآرتس” كانت أكثر وضوحاً ومباشرة في التحذير من الصحف الصهيونية الأخرى. يومها قالت الصحيفة المذكورة في افتتاحيتها التي خصصتها للمناسبة ما نصه: “إنه يتعين علينا ـ أي على الإسرائيليين ـ القول دون خشية أو تردد أن صهيونية الألفين لن تبقى على قيد الحياة في حال ظل تفسيرها لدولة اليهود على أنها دولةالأبارتهايد التي تتحكم بالفلسطينيين خلافاً لإرادتهم ورغباتهم. ويجب أن نذكر أنمعاناة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت احتلال إسرائيل قاسية مثل معاناة يهود أوروبافي نهاية القرن التاسع عشر. إن مستقبلدولة اليهود مرتبط بمستقبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش إلى جانبها وفي داخلها. والحلالمنطقي والأخلاقي لهذا لا يمكن العثور عليه في الحلم وإنما في إصلاح الواقع”.
وتدلل الوقائع التاريخية التي تؤكدها أدبيات المنظمات الصهيونية على أن “الحلم الصهيوني” كان قد بدأ يعبر عن ذاته بشكل سافر واستفزازي مع التئام شمل المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد قبل 112 عاماً في مدينة بازل على الحدودالسويسرية الألمانية، وتحديداً في شهر آب 1897. ففي ذلك المؤتمر تم وضع الأساس النظري للدولة العبرية،التي قامت فيما بعد على أنقاض فلسطين الحبيبة في قلب الوطن العربي، في ظل خنوعٍ عربي وتواطؤ أمميوتآمرٍ دولي. وقد عرفت الفترة الممتدة بين التاريخ المذكور واللحظة الراهنة محطات خطيرة ومؤلمة كثيرة حاولالصهاينة خلالها تمزيق وتفتيت الوطن العربي واختراق كل خطوطه الدفاعية، بدعمٍ وتأييدٍ مطلقين من الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. فخيوط الصهيونية التي نُسجت قبل 112 عاماً انتشرت في العالم كالسرطان وتمددت بشكل مدروس ومتسارع لتطال معظمأرجائه، وذلك من خلال استئثارها بزمام الأمور الاقتصادية والإعلامية في غالبية بلدانه وتزعمها للانقلاباتالعسكرية فيه تمويلاً وتنفيذاً، وامتلاكها لأضخم إمبراطورية مالية تغذت خزانتها من مساعدات المنظمات الصهيونية والجاليات اليهودية والتيارات المسيحية المتصهينة المتعاطفة معها ومن التعويضات الألمانية والمساعدات الأميركية التي ما تزال تتدفق عليها حتى الآن والتي اقتربت من حدود 200 مليار دولار.
انعقدت جلساتالمؤتمر الصهيوني الأول بين التاسع والعشرين والحادي والثلاثين من شهرآب 1897 في المدينة السويسرية بتنظيم وإشراف ورئاسة المفكر والكاتباليهودي المجري تيودور هرتزل الذي يُعدُ أبو الصهيونية العالمية، وحمل المؤتمر شعار “العودةإلى صهيون”. وصهيون كما نعرف هو جبل في مدينة القدس الفلسطينية المحتلة. وحضره204 مندوبين يهود، منهم 117 مثلوا جمعيات صهيونية مختلفة، وسبعونجاءوا من روسيا وحدها. كما حضره مندوبون من القارتين  الأميركيتين والدولالاسكندنافية وبعض الأقطار العربية وبالأخص الجزائر. وكان مقرراً للمؤتمر أن ينعقد في مدينة ميونيخ الألمانية، إلا أن الجالية اليهودية هناك عارضت ذلك لأسبابخاصة بها مما استوجب نقله إلى مدينة بازل السويسرية. وافتتح الإرهابي تيودورهرتزل المؤتمر بخطابٍ “ناري وعاطفي” كشف فيه عن الهدف الحقيقي من وراء عقده، والذي تمثل بما أسماه “وضع الحجر الأساسي للبيتالذي سيسكنه الشعب اليهودي في المستقبل”! وأعلن في ذلك الخطاب “أن الصهيونية هي عودة إلىاليهودية قبل العودة إلى بلاد اليهود”! كما حدد فيه مضمون المؤتمر فاعتبره “الجمعية القومية اليهودية”. وأقر المؤتمر أهداف الصهيونية التي عُرفت منذ ذلك الوقتباسم “برنامج بازل” الذي حسم موقف الصهاينة من موقع دولتهم، التي لطالما حلموا بها!! وبرغم اقتصار أبحاث المؤتمر، إلى حدٍ ما، على المناقشات والمداولاتدون أن يكون هناك التزام واضح من قبل هرتزل بقيام هذه الدولة “الوطن” في فلسطينبالتحديد، إلا أن المؤتمر شكل بدايةً حقيقية لمشروع الدولة الصهيونية، في ظل توفرالعديد من الخيارات والأوطان بينها الأرجنتين وأوغندا. ومع ذلك فقد شكل المؤتمرالانطلاقة الأولى باتجاه فلسطين. وقد سبق لهرتزل أن فكر في مثل هذا قبل عامٍ منانعقاد المؤتمر كما ظهر جلياً في كتابه “الدولة اليهودية”. كما نقطة تحول هامة وخطيرة جداً في تاريخ الحركة الصهيونية، بعدما نجح منظموه في جمع معظم صهاينة العالم تحت سقفٍ واحد وفي إطار واحد أطلقوا عليه تسمية “المنظمة الصهيونية العالمية”، وهي المنظمةالتي تولت من حينه الإشراف على مجمل الأجهزة الصهيونية في العالم. ووفق ما جاء في “الموسوعة الفلسطينية” فإن إنشاء المنظمة شكل فاتحة عهدٍ جديد من النشاط الصهيوني الهدام استهدف تحقيق جميع مخططات الحركة الصهيونية. وقد تفرع عن المؤتمر لجنة تنفيذية تكونت من 15 عضواًكانت بمثابة مجلس شورى وأخرى صُغرى تكونت من خمسة أعضاء كانت بمثابة حكومة. وتمتأسيس مكتبة مالية لجمع الاشتراكات الصهيونية السنوية من جميع اليهود في العالم،إلى جانب فتح المصرف اليهودي الاستعماري برأسمال بلغ مليون جنيه إسترليني. ووضعالمؤتمر برنامجاً سارت عليه جميع المؤتمرات التي عُقدت بعد ذلك، كما وناقش تقاريرمفصلة عن فلسطين والنشاط الاستيطاني فيها. ونصبَ المؤتمر تيودور هرتزل رئيساً لهورئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.
بعد مُضي 112 عاماً على ذلك المؤتمر وبنتيجة تزايد الضغوطاليهودية عليها، عرضت الحكومة البريطانية على المنظمة الصهيونية العالمية ستة آلافميل مربع أراضي أوغندا في القارة السمراء لإقامة الوطن القومي اليهودي المنشود!! لكن “منظمة الأرضاليهودية” التي كانت تشكل أحد أبرز أذرعة تلك المنظمة، رفضت ذلك العرض وأصرت على أن يكون فيفلسطين، متذرعة بما أسمته زوراً وبهتاناً “الرؤية التوراتية”!! وبنتيجة الضغوط المماثلة على الولايات المتحدةالأميركية والمعسكر الغربي الذي تشكل منه “الحلفاء” إبان الحرب العالمية الأولى،أصدر وزير الخارجية البريطاني آنذاك جايمس بلفور وعده المشؤوم في عام 1917 الذي قضىبإقامة “الوطن اليهودي” على أجزاء من فلسطين، ليكون نقطة حماية استراتيجية للدفاع عنقناة السويس وطريق الهند، وليكون قاعدة متقدمة للإمبريالية في الوطن العربي. وتبنىالرئيس الأميركي هاري ترومان ذلك الوعد بحماس كبير و”طيب خاطر طبعاً”!! وتطور الحال إلى أن جاء المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرون الذي انعقد في بازل السويسريةأيضاً في عام 1946 وتبنى بدوره مشروع “بلتمور 1942” الذي قضى بإنشاء دولةيهودية في فلسطين كبرنامج للحركة الصهيونية.

لقد رمى المشروع الصهيوني بظلالهالسوداء والكارثية على الأرض الفلسطينية والفلسطينيين في آن معاً. فبعد خمسة عقود من مؤتمربازل، تمكنت الحركة الصهيونية من إقامة الكيان الصهيوني على 78 بالمئة منمساحة فلسطين التاريخية، بعد أن طردت بالإرهاب والإكراه والتنكيل والتعذيب 850 ألف فلسطيني منأراضيهم. ثم أجهزت في عام 1967 على ما تبقى من فلسطين، بعد طرد وتهجير مئات آلافالفلسطينيين الجدد.وبالنسبة للهجرة اليهودية إلى فلسطين، فقد اتخذتبعد مؤتمر بازل الأول طابعاً منظماً، حيث ارتفع عدد اليهود من 30 ألفاً في عام 1897إلى 650 ألفاً في عام 1948، وهو تاريخ نكبة فلسطين وولادة “الدولة العبرية القيصرية”.وقد تواصلت سياسة التهجير “الإسرائيلية” ومصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات والهدموالحفر والعزل وتغيير المعالم في فلسطين بالشكل الذي تناسب وتلاءم مع المطامعاليهودية الصهيونية، كما وتواصلت سياسة الهجرة اليهودية ليصل عدد اليهود إلى ما يزيدعن خمسة ملايين من أصل يهود العالم الذين لا يتجاوزون 13 مليوناً. وليس من قبيل المبالغة القول أنه ومنذ حدوث  نكبة فلسطين في عام 1948 وحتى اللحظة الراهنة، و”الإسرائيليون” يمارسون السياسة في إطارالأيديولوجية الصهيونية ويتعايشون مع الخوف المتواصل والمفتعل، وسط اللجوء إلى الغرب وبالأخصالولايات المتحدة الأميركية لتأمين الأسلحة الفتاكة والمفاعلات النوويةوالتكنولوجيا المتطورة، والحصول على الدعم السياسي والمعنوي لسياساتهم العدوانية ومخططاتهم التوسعية. ومنذ لحظةالاغتصاب الأولى وحتى هذه اللحظة والألم الفلسطيني في تصاعدٍ مستمر ومتنام نتيجةتلك الممارسة وذلك التعايش والانحياز الغربي ـ الأميركي الأعمى “لإسرائيل”. وإذا مادققنا في ملفات منظمة الأمم المتحدة بما في ذلك ملفات مجلس الأمن الدولي لوجدناأن الولايات المتحدة الأميركية لم “تكلف نفسها” عناء تسجيل أي إدانة للممارسات الإرهابيةاللاأخلاقية واللاإنسانية التي ارتكبها “الإسرائيليون” بحق الفلسطينيين والعرب منذ بدء حلم تيودور هرتزل في عام 1897 وحتى إرهاب أيهود أولمرت في وقتنا الحاضر. والثابت حتى الآن أن الأيديولوجية الصهيونية ما تزال هيالمتحكمة بعقليات وسياسات قادة “إسرائيل”، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهماليمينية أو اليسارية. فقد حرص اسحق رابين كل الحرص عند طرحه “إعلان المبادئ” الذي أبرمه مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أمام أعضاء الكنيست”الإسرائيلي” على الادعاء بأن “الصهيونية قد انتصرت”!!أما بنيامين نتنياهو، فقد حرص هو الآخرعلى أن يقتفي أثر سلفه ويدعي في كتاباته “أن للصهيونية دوراً هاماً يجب عليها القيام به من أجلتوطين ثمانية ملايين يهودي حفاظاً عليهم من عداء السامية المستشري في العالم، علىحد زعمه!! وبرغم جميع الاجتهادات والأفكار “البروباغندية” التي طرحها زعيم حزب العمل الأسبق والرئيس الحالي لدولة الاغتصاب شمعون بيريس فيكتابه “الشرق الأوسط الجديد” بغية الفصل بين جيلين “إسرائيليين” سابق قامت سياسته على الأحلام والتطلعات الأيديولوجية وحالي تقوم سياسته علىحقائق العصر، إلا أنه لم يستطع أن يعدل عن مواقف الصهيونية الخاصة بدعوى أرض”إسرائيل التوراتية” والتي تشمل الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ومرتفعات الجولان،تماماً مثله مثل أي قائد “إسرائيلي” أخر!!

قرن وإثنا عشر عاماً مرعلى تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية ومازال قادة “إسرائيل” من الأحزاب الرئيسية الثلاثة العمال والليكود وكاديما عاجزين عن تطوير الصهيونية بمايتفق مع حقائق العصر بمعناها الحقيقي ومفهومها الواضح. فحتى اسحق رابين نفسه حين خطا خطواته على طريق “السلام” لم يجرؤ على الإقرار بحقالفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة في الضفة والقطاع والقدس الشريف، لا بل تمسك ببقاء المستوطنات اليهودية في مواقعها ووضعها تحت حماية قوات الأمن “الإسرائيلية”وتحت إشراف سياسي كامل من قبل السلطة السياسية “الإسرائيلية” في تل أبيب. وإذا كان هكذا الحال مع رابين “شريك الفلسطينيين في سلام الشجعان” كما كان يصفه الرئيس عرفات، فلا بد أن يكون أدهى وأمر وأشد تصلباً مع القادة الآخرين الذين خلفوه في رئاسة الحكومات “الإسرائيلية” المتعاقبة.
لا شك أن الألم الفادح الذي أوقعته الصهيونية العالمية بالعرب عامة والفلسطينيين خاصة من خلال ممارسة الإرهاب المتواصل ضدهم قد بدا في بعض الأحيان ثقيلا إلى حد ما على ضمائر بعضالمفكرين والسياسيين والعسكريين اليهود في تل أبيب وبعض العواصم الغربية من أمثال ألبرت أنشتاين ومكسيم رودونسون والبروفسورتالمون وناحوم جولدمان وعيزرا وايزمان وآخرين وفق ما جاء في تصريحاتهم وكتاباتهم، إلا أن الواقع يشهد على أن “إسرائيل” لم تزل تُصر على التمسكبوضعية دولة الأبارتهايد التي تتحكم بالفلسطينيين خلافاً لإرادتهم ورغباتهم، الأمرالذي لا يُرجح احتمال قرب نهاية الصهيونية، تماماً كما تكهنت صحف صهيونية بينها صحيفة “هآرتس” في الذكرى المئوية لرحيل “ملهم الصهاينة والمنظر الأكبر لإرهابهم” تيودور هرتزل!!
 
آب 2009
كاتب وباحث عربي مقيم في الدانمارك

زر الذهاب إلى الأعلى