د / لطفي زغلول
شاعر وكاتب فلسطيني
www.lutfi-zaghlul.com
شكل مشروع الإستيطان الإسرائيلي ما قبل قيام الدولة العبرية عام 1948، وما بعدها أحد أهم ثوابت السياسة الإسرائيلية ، بل أهمها على الإطلاق ، لأية حكومة إسرائيلية أيا كان لونها السياسي . وقد مر هذا المشروع بثلاث مراحل متوالية ، تكمل الواحدة الأخرى ، وتمهد لها .
المرحلة الأولى ، إبتدأت في القرن التاسع عشر ، وتحديدا في العام 1872 ، يوم أقيمت أول مستوطنة يحمل اسمها دلالة ذات مغزى كبير . إنها مستوطنة ” بتاح تكفا ” ، وبالعربية مفتاح الأمل ، وقد أطلق المستوطنون عليها ” أم المستوطنات ” .
المرحلة الثانية ، وقد ابتدأت غداة قيام الدولة العبرية في الخامس عشر من أيار / مايو 1948 . وقد اتصفت بعمليات تدمير واسعة للبلدات والقرى الفلسطينية التي أقيم على أنقاضها أشكال متنوعة من المستوطنات ” الكيبوتسات والموشافات والناحلات ” .
إلا أن أكثر المراحل ازدهارا في تنفيذ المشروع الإستيطاني ، كانت المرحلة الثالثة التي ابتدأت غداة احتلال كامل التراب الفلسطيني في العام 1967 ، والتي مضى عليها حتى الآن أربعة عقود ونيف ، أسفرت ببساطة متناهية عن تغيير واضح المعالم في خارطة الضفة الفلسطينية جغرافيا وديموغرافيا . وبلغة الأرقام إقامة مائة واربع وستين ” 164 ” مستوطنة وموقعا استيطانيا عشوائيا ومنطقة صناعية ، على مساحات شاسعة من الأرض الفلسطينية إضافة إلى شبكة من الطرق الإلتفافية التابعة لها .
إن الحديث عن الإستيطان لا ينتهي عند هذه المعطيات . إذ أنه بين الفترة والأخرى يفاجأ الفلسطينيون بأن هناك ما يمكن الحديث عنه في هذا الصدد . إنهم يتابعون أدق تفاصيله كونه يشكل مصدر الخطر الأكبر الذي يتهدد وجودهم ، ومستقبل أجيال أبنائهم على كافة الصعد الحياتية . وهو يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الإسرائيليين لا يفكرون إلا بفرض السلم الإسرائيلي على الفلسطينيين ، وأن العملية السلمية بكل مراحلها السابقة والراهنة واللاحقة ما هي إلا مضيعة للوقت ، وتخدير للأوضاع ، تمهيدا لفرض سياسة الأمر الواقع .
وإلى هنا نصل في حديثنا إلى الجديد في مشروع الإستيطان ، ويتمثل فيما كشفه تقرير ” حركة السلام الإسرائيلية ” مؤخرا ، نقلا عن بيانات ” الإدارة المدنية الإسرائيلية ” حول تجاوزات خطيرة ، مفادها تغاضي الحكومات الإسرائيلية عن مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية ، قامت المستوطنات بضمها إلى ” مناطق نفوذها ” .
يكشف تقرير حركة السلام الإسرائيلية النقاب عن أن المستوطنات الإسرائيلية تسيطر على مناطق نفوذ ، تمتد إلى مساحات شاسعة جدا ، تصل في أحيان كثيرة إلى أراض فلسطينية ذات ملكية خاصة . ويشير هذا التقرير إلى أن 9% فقط من هذه الأراضي ، يوجد عليها مبان ، وأن 12% مستخدمة لأغراض ما . في حين أن 79% من هذه الأراضي غير مستعملة ، وتشكل إحتياطيا إستراتيجيا .
ولا يقف هذا التقرير عند هذه المعطيات . ولكي يوضح فداحة الأمر ، يضرب مثلا مستوطنة ” معاليه أدوميم ” – المقامة على أراضي الخان الأحمر ، وهي أراض تابعة لمدينة القدس العربية – والتي تبلغ مساحتها ثمانية وأربعين ألف ” 48,000 ” دونم ، في حين أن مساحة مدينة ” تل أبيب ” تبلغ واحدا وخمسين ألف ” 51,000 ” دونم ، مع فارق أن سكان تل أبيب يشكلون اثني عشر” 12 ” ضعفا من سكان معاليه أدوميم .
وحقيقة الأمر ، إن مشروع الإستيطان يشكل أحد الأسرار الإسرائيلية ، وأكثرها سرية ما يخص مناطق نفوذ المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ، والتي تكتمت عليها الحكومات الإسرائيلية ، في حين أن مثيلاتها داخل الخط الأخضر معروضة أمام الجميع .
إنها سياسة التكتم والتعتيم الإسرائيلية على مدى أربعة عقود من الزمن فيما يخص التعاون القائم بين الحكومات الإسرائيلية ، وتوجهات توسيع الإستيطان أفقيا . وليس هناك أدنى شك من أن هذه السياسة تشكل انتهاكا فاضحا للبند السابع من الفصل الأخير لاتفاقات أوسلو 1994 . وينص هذا البند على عدم قيام أي طرف من أطراف الإتفاق بخطوات أحادية الجانب تؤدي إلى إحداث تغيير في الأوضاع الميدانية ، وتحديدا قبل استكمال مفاوضات التسوية الدائمة في الضفة الفلسطينية والقطاع .
إنه الإستيطان الإسرائيلي الذي لا يقف عند حدود . لقد وضع نصب عينيه أهدافا ثابتة يصر على تنفيذها على أرض الواقع ، ضاربا عرض الحائط بكل الإنتقادات والإحتجاجات أيا كان مصدرها فلسطينيا أو عربيا أو دوليا .
على مدى أربعة عقود ونيف هي عمر الإحتلال الإسرائيلي لبقية الوطن الفلسطيني ، صادرت الحكومات الإسرائيلية مساحات شاسعة من خيرة الأراضي الفلسطينية ، أقامت عليها مستوطنات قارب تعدادها المائتين .
إلا أن الأهم ، وللتذكير فإن الأراضي التي يقوم عليها الإستيطان الإسرائيلي هي قمم الجبال والمرتفعات الفلسطينية التي تشكل مواقع أمنية واستراتيجية للتحكم بكل التجمعات الفلسطينية والإشراف على طرق مواصلاتها . وهي خيرة الأراضي الخصبة التي يعتاش على غلالها الفلسطينيون ، وهي الأراضي التي تشكل مخزونا اسراتيجيا ديموغرافيا لاستيعاب الزيادات الناجمة عن النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي . وهي أخيرا لا آخرا أراضي آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين .
إنه الإستيطان . والإستيطان من منظور إسرائيلي ، لا يعني مجرد اغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية ، ولا مجرد إقامة الوحدات السكنية وما يتبعها من مرافق ، ولا إنشاء الطرق الإلتفافية ، ولا بناء جدار العزل العنصري فحسب ، وإنما هو تكريس لكيان واحد وحيد على الأرض الفلسطينية هو الكيان الإسرائيلي ليس إلا . أما ما يسمى بالعملية السلمية بكل مسمياتها وأشكالها ، فهي مجرد مهدئات سياسية ، تقتضيها طبيعة الظروف الآنية ، وسرعان ما تفقد مفعولها ، ويتم الإنتقال إلى سواها ، وهكذا دواليك .
وفي ذات السياق ، يعود هذه الأيام الحديث عن دولة فلسطينية تقام إلى جنب الدولة العبرية . وهذه الدولة الفلسطينية هي وليدة رؤية الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن غداة أحداث الحادي عشر من إيلول / سبتمبر 2001 . لقد مضى على هذه الرؤية ست سنوات ، وما زالت نطفة في رحم الغيب السياسي ، والأسباب معروفة للقاصي والداني ، ملخصها عدم جدية هذه الرؤية .
كلمة أخيرة ، ولنفرض أن إعادة طرح الموضوع جاد هذه المرة . ثمة سؤال كبير متعدد الجوانب يطرح نفسه : عن أية دولة يتحدثون ، وما هي مساحتها وحدودها ؟ . هل هي حدود الرابع من حزيران / يونيو من العام 1967 التي يطالب بها الفلسطينيون والعرب وفق مبادرة السلام العربية التي رفضت إسرائيل أهم نقاطها ، ومنها تفكيك المستوطنات ؟ .
ولن نتساءل عن بقية الثوابت الفلسطينية التي طالما رددها الفلسطينيون ، وسوف نركز هنا على موضوع الأرض فقط . إن الدلائل والشواهد والمعطيات تؤكد أن السياسة الإسرائيلية سادرة في مصادرة الأرض الفلسطينية . وإن أية دولة فلسطينية تفكر فيها هذه السياسة ما هي إلا ترجمة لخارطة رسمتها السياسات الإستيطانية . وليس أدل على ذلك من مناطق النفوذ التي تتمتع بها المستوطنات كاحتياطي إستراتيجي لها في المستقبل . والأهم من ذلك كله أن ليس هناك اعتبار أو حساب لدولة فلسطينية حقيقية على أجندتها . وإن غدا لناظره قريب .