زكريا النوايسة
أربعون عاما تمر على تلك اللحظة العصيبة التي صنعها الهوان والضعف والتخاذل العربـي قبـل أن يقترفهــا الصهيونـي مايكل دنيس روهـن ، فالأقصى ليس ضحيــــة احتـــلال فحسب،بل هـو إحـــدى ضحايـا إفــــــرازات السيـــاسـة العربيـة،والانقسامات والتجاذبات العبثية التي لا تجيد غيرها ماكنات هذه السياسة .
المحطة الأولى
————
في السابع من حزيران من عام 1967 تبدأ المحطة الأولى بدخول قوات الاحتلال الصهيوني للمدينة المقدسة ، معلنة انتصارها على الجيوش العربية في معركة غير متكافئة عسكريا ونفسيا ، ونتيجة لما تم على الأرض دخلت القدس مرحلة جديدة كعاصمة أبدية للدولة الصهيونية ، وهنا لنا وقفة مع حرص القادة الصهاينة على إضفاء الجانب العقائدي على لحظة الدخول هذه ، مما يبرهن سيطرة الهوس الدينــي علــى العقليــة الصهيونيــــــة ،ويستــوي فـــي ذلك المحافظ منهم والعلمانـي ، ويعيدنا هذا إلى شطحات العقل العربي في تلك الآونة التي طرحت بدائــل فجة عن مشروع المقاومـــة الشعبية التي تستند إلى رؤية إسلامية وعروبية ، فكان ما كان من سقوط ذريع للأرض وللعقلية التي آثرت سلامة ذاتها على سلامة الجغرافيا المقدسة ومشاعر أمة ائتمنتها على كيانها .
المحطة الثانية
————–
نتيجة لتهاوي أركان النظام العربي الرسمي ، وتداعي قوته المزعومة ، كان الحادث الجلل في الحادي والعشرين من آب من عام 1969، حين تسلل وبتسهيل وتعاون من سلطات الاحتلال الصهيوني المتطرف اليهودي الاسترالي مايكل روهان
وأشعل النـار فـي المسجد الأقصـى ،والتـي أتت علـى محراب ومنبر صلاح الدين والجناح الشرقي منه ، وقد تداعى المقدسيون صبيحة ذلك اليوم لدفع الأذى الذي يوشك أن يلتهم المسجد مقدمة لإنجاز الحلم الصهيوني الذي طالما راود خيال العلمانييــن قبل المتدينيـن المتشدديــن، وبالرغم من مأساويــة هذه الحادثة المفجعة ، كان لها أثرا إيجابيا تمثل بالهبة الشعبية ،التي أشعرت الصهاينة أن تحقيق هذا الحلم الزائف سيواجه بمقاومة ضارية ، وستبقى هذه المقاومة متجذرة في الأرض ،وجذوتها متقدة ما دام هناك صهيوني واحد يراوده هذا الحلم.
المحطة الثالثة
————
في العام 1979أقدم الجيش الصهيوني على إطلاق النار على المصلين في المسجد الأقصى فأصاب العديد منهم ، ولعل أهمية هذه المحطة تأتي من واقع تراكمات اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة بين السادات والكيان الصهيوني ، مما يدلل على تهافت الكيان العربي الهش نحو مشاريع التسوية لا يخدم إلا الأحلام الصهيونية وسعيهــا للتمدد فـي الأرض ، والدخول في أدق تفاصيل الحيــاة العربيــة المخترقة، وهذا يظهر أيضا أن ما يحاك في الخفاء أشد وطأة من الذي يعلن على الملأ ،فاتفاقية بحجم وإعلامية اتفاقية كامب ديفيد لم تمنع هذا الكيان من توجيه بنادق جنوده للأقصى هذا المسجد الذي يقدسه المصريون ويرونه جزءا من حالتهم الدينية.
المحطة الرابعة
————-
في هذه المحطة ازدادت حدة الخطر الصهيوني ، فقد تم عقد مؤتمر في العام 1980 شارك فيه عدد كبير من حاخامات الكيان الصهيوني واليهود عموما ، بُحث فيه السبل الكفيلة لاحتلال المسجد الأقصى للبدء بتنفيذ مخطط إقامة الهيكل على أنقاضه ، وهنا علينا أن نعلم أن الديني لا ينفصل عن القومي في هذا الكيان فما يطرح في دوائر السياسة الرسمية يطابق ما يحاك في مؤتمرات المتطرفين من رجال الدين ، وفي عام 1981تم الكشف عن نفق أسفل المسجد المقدس وفي نفس العام قام الصهيوني المتطرف يوئيل لرنر الذي يتزعم جماعة ( حشو نانين ) بمحاولة تفجير المسجد مستخدما عبوات متفجرة شديدة التدمير، وهنا علينا أن نسأل هل تتابع هذه المحاولات أتى عبثا ؟ أم هي محاولة لتهيئة الشارع العربي والإسلامي للحدث الجلل ؟والذي سيأتي لا محالة إن لم يجابه بوقفة شجاعة .
المحطة الخامسة
————–
في العام 1983 تم تسهيل السُبل للجماعة المتطرفة ( أمناء جبل الهيكل ) للدخول إلى ساحات المسجد ،وممارسة طقوسهم بشكل سافر تحت حراسة مشددة من القوات الصهيونية المحتلة ، وهذا يثبت همجية هذا الكيان وتنصله من كل المواثيق الدولية التي يجب على دولة الاحتلال مراعاتها ، والتي تمنع المساس بممتلكات المنطقة المحتلة ، ويثبت كذلك من جانب آخر أن مقابل الهيجان الصهيوني بجناحيه الديني والقومي ، يوجد هناك في الطرف المقابل استكانة وذل وشرذمة عربية وإسلامية ساهمت بشكل أو بآخر في تسريع الخطوات الصهيونية لإنهاء ملف تدمير الأقصى وفقا للمخططات الصهيونية.
المحطة السادسة
—————-
في العام 1984 تم الكشف عن حفرة بطول ثلاثة أمتار وعمق عشرة أمتار تفضي إلى نفق طويل يحاذي السور الغربي للمسجد ، وفي هذا إشارة إلى تواصل الجهود والمشاريع الصهيونية لبناء هيكلهم المزعوم والذي لا موقع له وفق أيدلوجيتهم الدينية إلا في مكان الأقصى تماما ، ويأتي هذا كله والأنظمة العربية منهمكة في أفضل الخيــارات التي توصلها إلى طريــق التطبيع مع الكيان الصهيوني ، وقد استغل الصهاينة تهافت العرب المخزي للدخول في نفق التطبيع بالاستمرار في حفر مزيد من الأنفاق التي ستعمل على إضعاف أساسات المسجد عاما بعد عام.
المحطة السابعة
—————
في هذه المرحلة ازدادت وتيرة التطرف الصهيوني ضد كل ما هو عربي ، وتكللت بالزيارة الاستفزازية لجماعة حركة ( كاخ ) العنصرية لباحات المسجد ، وأعلنت في هذه الزيـارة عن عنصريتها ضد الوجود العربي والإسلامي في المدينة المقدسة، وتأتي هذه الزيارة في حمى إرهاصات مؤتمرات التسوية التي جرّعت الأنظمة العربية سُمّها لشعوبها ،والأخيرة هي بدورها فقدت قدرتها على ضبط بوصلتها باتجاه قضيتها المصيرية والعادلة ، ودخلت كهف المشاريع والأحلام الإقليمية كأوراق ضغط تارة ، وأوراق مساومة تارة أخرى.
المحطة الثامنة
————–
لم تتوقف الاعتداءات الصهيونية طوال عقد التسعينيات كما هو شأنها في العقود السابقة ، فقد توصلت المؤامرات التي رافقها توسعا في الحفريات والأنفاق والإنشاءات التي يُبتغى من ورائها التأكيد على يهودية المدينة المقدسة ، وأخرها ما كان في العام 1999 ، حين افتتح ايهود باراك رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك مدرَّجا في الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى والذي هُدف من إنشائه ممارسة الطقوس الدينية اليهودية ، وهي مناسب أيضا للتوقف عند هذا النمط من الشخصيات الصهيونية ، التي وإن أعلنت عن علمانيتها ، إلا أنها لم تتنازل عن أحلام الصهاينة المتدينين لإقامة ( إسرائيل الكبرى ) من الفرات إلى النيل ، وذروة أحلامهم الهيكل المزعوم.
المحطة التاسعة
—————-
وتتميز هذه المرحلة بحساسية خاصة لسببين ، الأول : لأن المتسبب فيها أحد الصهاينة الأكثر عنفا وإجراما ، فقد قام المجرم شارون في العام 2000 بزيارته اللعينة والمخطط لها للمسجد الأقصى ، حيث دخله تحت حراسة مشددة من القوات الصهيونيــة،وقد شكلت هذه الزيــارة استفـزازا كبيــرا للمشاعـر العربية والإسلامية ، والسبب الثاني : اندلاع الانتفاضة التي عُرفت بانتفاضة الأقصى كردة فعل على الانتهاك الصهيوني الفاضح لحُرمة المسجد المقدس، ويُذكر أيضا أنه في العام الذي يليه قامت مجموعات صهيونية متطرفة في خطوة استفزازية أخرى بوضع حجر أساس رمزي لهيكلهم المزعوم عند باب المغاربة.
المحطة العاشرة
————–
في هذه المحطة بدت الخيارات أكثر خطورة ، ومن غير الصهاينة يجيد كل هذه الطرق والأفانين التي تصنع الدمار وتثير الفوضى ، ففي العام 2004 طرح خيار تفجير المسجد المبارك من خلال طائرة بدون طيار ، وبالرغم من أن القدرة الإلهية أفشلت كل هذه النوايا والمخططات السوداء ، إلا أن الحرص الصهيوني على تدمير المسجد الأقصى وإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه ، سيُبقي هذه الخيارات قابلة للبحث في أي لحظة.
المحطة الراهنة
————-
لعل المتابع لما يجري على الأرض مؤخرا ، سيصل إلى نتيجة أن الكيان الصهيوني ماضٍ في مشاريعه التوسعية في الأرض الفلسطينية عموما ، وفي بيت المقدس على وجه أخص ، فالأنفاق ازدادت اتساعا وطولا ، والحديث عن انهيار المسجد أو أجزاء منه أصبح مباحا في ظل صمت عربي فاضح ، ويبدو أن المخططــات الصهيونيــة في هذه المرحلــة ستكون ليست خطيــرة فحسب، بل كارثية ، فطبيعة الحفريات وحجمها يوحي أن المسجد والأحياء المحيطة أصبح في عين الخطــر ، وحتى يتنصل هذا الكيــان من أي ردود فعل دولية عنــد وقوع الكارثة ، فقد يلجأ إلى بعض حيله المعتادة كافتعال تفجيرات بعيدة تسهم قوتها بضعضعة أركان المسجد ، أو المضي بالمزيد من الحفريات لجعله قابلا للسقوط عند أول هزة أرضية تضرب المنطقة.
وما يثير الاستغراب والحنق في آن واحد ، أن الهجمة الصهيونية الهمجية تأتي في وقت أصبح فيه الصوت العربي أكثر صراحة في المطالبة بتطبيع العلاقات أو رفع مستواها مع هذا الكيان اللقيط ، وقد يرى البعض أن ذلك ليس مستغربا إذا ما أدركنـا الأزمة التـي تعيشها الزعامـــات العربيــة وانسلاخهـــا من واقـــع شعوبهـــا ، وارتهانها لمنطق الاستكبار العالمي.