كان فقيراً جداً..وبقي
بقلم:سهام البيايضة
معدماً جدًا.. تلاطمته اذرع, لا مبالية, لا حانية, لا مؤمنه.. بين الشارع وأحضان امرأة شريرة, تقاذفته أمواج النبذ والتثاقل, شح البخل حرمه لقمة تخترق بلعومه, أو شربة ماء ترطب جوفه. أو لمسة حانية تضعه في مصاف البشر ,طفل صغير لا يعلم, لا يحسب لشيء حساب, ثم صبيا اعتراه هم, وبداية علم يشير عليه, أن هناك فروق وحياة دهماء سوداء لا ألوان, لا بهجة,لا فرح , استوطنت بشر عُجن طينهم بالتردي والقهر, في عتمة الليل ,والسكون في أزقة جمعت فيها قاذورات المدينة وأكياس القمامة ,فوق إحدى تلك القمم انتهكت طفولته ,ولوث الاغتصاب خلايا جسده ,وأزهقت كرامته ,وانتزعت حقوقه.
مخالب قذرة مزقت براءة الطفولة وانتهكت الشعور,اتهموه ,عاقبوه,لم يسأله احد عن اسمه, اتهامات ,محاكمات,لم تنتهي عند هذا الحد,انتشرت الاخبار وتبادلها الأشرار ,فزادت زيارات الذئاب الليلية المنتشية برائحة الاغتصاب والعهر البشري, فكفر وهرب..غاب عن الجميع في ليلة, عادية من ليالي عمره الممتد على الأرصفة والشوارع وبين مواقف السيارات وتحت جسور العهر والمخدرات, في عالم يسوده لا اهتمام, لا انتظار, لا رعاية, لم يفتقده احد, لم يسال عنه احد.ملعون هو اليتم !..ملعون هو النبذ !.. ,ملعون من ينتهك جسد الطفولة ويخلق الحقد !
هاجر إلى عوالم المال والإباحة..ثم عاد غنيا ..غنيا جدا ..أموال وعقارات وطائرة خاصة..تجارة غايتها انتقام صكوكها حقد, وصفقاتها أجساد البشر الرخيصة .
جلس خلف مكتبه الوثير, يرتدي لباس الأغنياء..كل ما عليه يلمع متوهجا بالترف ..عقده الذهبي الذي ظهر من تحت ياقة قميصه الأبيض الأبيض ..والمنديل الحريري الأزرق المرصع بالنجوم. المعقود بكثافة حول رقبته بعقدة نرجسية خانقة دس أطرافه تحت أزرار القميص..ومعطفه المصنوع من الجوخ الأسود بأزرار نحاسية صفراء امتدت فوق طيات المعطف وعلى أكمامه ,تنعكس عليها الأضواء الخافتة .وشموع القاعة ,كلما رفع يده ليعض بأسنان سيراميكية على سيجاره الهافاني الغليظ …في عينيه نظرة إباحية, لا قيود لا حدود لا قوانين.. وقح سيء التعبير ..يقف منتصبا قويا .متجاهلاً النظرات, والهمهمة.
نقاط العمر بلونها البني الغامق انتشرت فوق يديه ,وعلى صفحة وجهه, تؤكد أن العمر قد عدى ومضى معربداً عابثاً غير مبالياً هو الأخر, مستوفياً استحقاقاته من الجسد والجلد والمظهر..متجاهلاً ..لا بل كافراً بماله..غير عابئاً بمحاولات الشد والشفط والحقن ..وهل يشترى المال عمر؟؟ هل يشتري المال لحظة ود وصفاء..أو قلب سيدة عاشقة, لو كان كذلك, لابتاع لنفسه لحظة, أو ثانية تنسيه حقد السنين و ترطب جفاف عمر رزيل, ومشاعر أزهقت لطفل أباحه الشارع والمارة, ظلم وعوقب كما يعاقب المجرمون ..أو لاشترى خلاطه إسمنتية ضخمة لترقع ذلك الشرخ في عمق الطفولة ,أو لاخترع له العلماء مزيل للأوساخ المستعصية.يغسل بها أعماق نفسه المضطربة.
كان يمازح أعوانه المنتشرين فوق قمم السلطة والنفوذ:”لقد رحمتكم بعهري ورذيلتي..ولو بقيت تحت تلك الجسور لتحولت الى إرهابي متطرف.ولوصلت بأحزمتي إليكم , أيها المختلسون لقوت الناس” ثم يقهقه عاليا ويقهقهون بغباء, ترج موجات أصوات الضحك واجهات مكتبه الأحمر.ويستمر الضحك .يتوقف البعض وقد نفذ كذبه, ويستمر هو وقد سكن الجميع غير قادرين على مجاراته..وتبقى ضحكته الوحيد التي تسكن رويدا رويدا وقد امتلأت عيناه بالدمع .ونزف انفه .فيتناول منديل ورقي, اثنان, من فوق المكتب, يضعهما فوق بعضهما ويطويهما معا , يمسح دموعه ويمخط انفه بدون ذوق ,ثم يتناول سيجاره الهافاني الغليظ ويشعله بعود كبريت طويل فاخر الصنع.
اخذ نفس عميق ثم نفثه من فمه وأنفه سحابة دخان غطت وجهه عن الجميع, حتى لم يرى احد أمامه. استند إلى كرسيه الوثير ومن بين أسنانه العاضة على السيجار الهافاني العريض خرجت كلماته قاسية جافة:أنا أشرفكم جميعا,أنا أتاجر بأجساد البشر وانتم تتاجرون بمصائرهم ,أنا تجارتي فيها عرض وطلب ..وانتم تجارتكم لا عرض لا طلب !!
لماذا يعود الماضي ليتجسد بالأشياء المحيطة به, كل هذه الأموال التي يملكها كانت بالنسبة إليه, كمغتصب يتلذذ بجسد طفل…لا يزال البلعوم قاسيا ولا يزال الجوف جافا..لم تستطع ماساته ومجوهراته أن تمسح لحظة ألم طفولي يعشش في ذاته حتى الكفر..حتى القرف..!!
جاء في وصيته بعد وفاته..ضعوا فوق قبري لوح زجاج..حتى يراني الناس كيف أتعفن!!