السطور والصدور :- يـوسـف جـمـل
ما أجمل النقاش إن كان يرجى منه نفع واستفادة
وما أعظم أن يكون جدالنا في أمور العلم والمعرفة
وما أروع أن يكون نقاشاً جدالاً خالصاً للدين والعلم والمعرفة.
وما من شك في أهمية الحوار من أجل اتخاذ القرار وليس من أجل فرض الرأي أو أخذ الأمور بالمسلمات أو باتباع المحدثات منها.
وموضوع الحوار الدائر حول سطورية العلم وصدوريته.
حيث أن البعض منا ينادون بعفوية مطلقة أن العلم في الصدور وليس في السطور دون أن يقفوا ولو للحظة واحدة عند هذه الترنيمة التي ربما يرددونها لتبرير موقف أو عجز أو كسل.
فمن الذي قال أن العلم في الصدور ونفى أهمية السطور ؟
وكيف يمكن أن يُعرف ما في الإنـاء إذا لم ينضح بما يحتويه؟
وما يجدي أن يكون العلم في الصدور وكفى !
وخير دليل على هذا قول الرسول :- ” خيركم من تعلم القرآن وعلّمه”
ومن الجمع النبوي للقرآن الكريم لنا دروس ومواعظ حول هذا النقاش فقد كان القرآن وخلال فترة النزول القرآني تتم عملية جمعه بموازاة نزوله، لا تتأخر عنه في شيء، حتى إذا انتهى النزول كان القرآن مجموعاً مكتمل الجمع بمعان عدة لهذا الجمع، تشمل الجمع في الصدور والكتابة في الصحف والترتيب في الآيات والسور(1).
ومما لا شك فيه أن للصدور أهمية بالغة ولكن الصحابة رضوان الله عليهم أدركوا مدى أهمية أن لا يبقى ما في الصدور فيها وحسب بل عملوا على جمع القرآن كله في مصحف مكتوب مسطور وهكذا الحال بشأن تدوين الحديث النبوي وكل ما وصل إلينا من كتب الحديث كان بفضل الله أولاً وبفضل من عملوا على السعي لتحويل ما في الصدور إلى سطور.
بالإضافة إلى أن أشهر اسمين للقرآن الكريم هما : القرآن والكتاب. ويتبين من هذين الاسمين أنه يقصد بهما الجمع، أي جمع بعض الأشياء إلى بعض.
فالقراءة : عبارة عن جمع الحروف في الفم ثم النطق بها، وهو ما يسمى بالجمع الصوتي للقرآن الكريم. والكتاب :عبارة عن جمع الحروف والكلمات في السطور.
يقول الإمام ابن قتيبة : وأصل القراءة : جمع بعض الحروف إلى بعض. وإنما سمي القرآن قرآناً لاجتماع بعض سوره إلى بعض. قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}(2). أي : إذا جمعناه، فاتبع جمعه. ويقال : إذا ألَّفناه(3).
فالقرآن – هذا الاسم المشتق من القراءة اي انه يتلى ويتعبد به .
والكتاب - سُمي القرآن “كتاباً” لأن آياته وسوره جمعت مكتوبة بين دفتين كالكتاب.
والكتاب - سُمي القرآن “كتاباً” لأن آياته وسوره جمعت مكتوبة بين دفتين كالكتاب.
وقد قيل أن في تسمية القرآن بهذين الأسمين حكمة فكون القرآن مقروء ومكتوب فهذه إشارة إلهية لحفظ الله عز وجل للقرآن في الصدور وفي السطور. وكما قال الشيخ عبد الله دراز : روعي في تسمية ـ القرآن ـ قرآناً كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسميته كتاباً كونه مدوناً بالأقلام… وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعاً، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى (4).وفي تسميته بالكتاب إشارة إلى جمعه في السطور، لأن الكتابة جمع للحروف ورسم للألفاظ … وسمي هذا الوحي بالكتاب وبالقرآن لامتياز الوحي المحمدي في مراحله كلها بهذه العناية المزدوجة في صيانة نصوصه وحفظ تعاليمه منقوشة في السطور، مجموعة من الصدور(5).
صحيح أن الأمام الشافعي رحمه الله قال:-
العلم في الصدور مثل الشمس في الفلك والعقل للمرء مثل التاج للملك
فاشدد يديك بحبل الله معتصما ** فالعلم للمرء مثل الماء للسمك
لكن لا يمكن أن نستخلص من هذا أنه حصرالعلم في الصدور فقط
والأمام علي كرم الله وجهه قال ( قيمة كل أمريء ما يحسن )
ولم يقل ما يعرف أو ما يحفط بل يدعو إلى العمل بما يعرف ويحفظ .
ومن هنا ننطلق إلى شتى المجالات العلمية التي ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه لو أن كل صاحب علم قال بالعلم في الصدور وليس في السطور متباهياً بأنه يعلم ولا يرى أحد من علمه شيء.
إذاً ما قيمة ما تحمل في صدرك من علم ومعرفة وكيف يكون العلم إذا لم يُنتفع به ويخرج من الصدور إلى السطور إلى الصدور وهكذا دواليك….
حتى أن الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى كنز عظيم لا ينقطع فيه الأجر والثواب في الصدقة الجارية والولد الصالح الذي يدعو لوالديه والأمر الثالث وهو العلم الذي ينتفع به . (أو كما قال).
فالعلم عبارة عن تعلم وتعليم , إكتساب وإكساب وهذا لا يمكن أن يتحقق إذا لم يخرج ما في الصدور إلى الصدور بواسطة الكلام والسطور.
بالاضافة إلى أننا نستقي معلوماتنا وعلومنا ونتابع الأحداث والتطورات في شتى أنحاء العالم من خلال الكلمة المقروءة والمكتوبة والمسموعة وليس من خلال الكلمة المكنونة المكتومة المدفونة ومن خلال الصورة المرئية لا المخفية وكل محتوى لأي إنسان لا يُعرف كُنهه إذا لم يُطلَق له العنان.
وقد قيل في الأمثال :
• علم بلا فعل كسفينة بلا ملاح
• دعامة العقل العلم
• من علمني حرفا كنت له عبدا
• علم بدون ضمير هدم للنفس
• العلم خليل المؤمن
• آفة العلم ادعاؤه أنه يعلم
• أقل الناس قيمة أقلهم علما
• غاية العلم الخير
وما أعظم قول الأمام علي ( كل إناء يضيق بما جُعِل فيه إلا وعاء العلم فأنه يتسع ).
فإذا كان المقصود بأن العلم في الصدور لكي ندلل بذلك على الحصر في أننا نعرف ونعلم فقط فنكون عندها كالذي مات وسره معه إن كان حقاً يعرف ويعلم أم إنه إدعى العلم ومات وهو لا يعلم إن كان حقاً يعلم أم أنه كان واهماً بأنه يعلم وهوفي الحقيقة لا يعلم ولا يعلم بأنه لا يعلم.
ألا وبالله التوفيق
(1) القرآن الكريم دراسة لتصحيح الأخطاء الواردة في الموسوعة الإسلامية،
إصدار دار بريل في لايدن/ المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ص 60.
(2) سورة القيامة 18/.
(3) ابن قتيبة، عبد اللّه بن مسلم : رسالة الخط والقلم، تحقيق : حاتم صالح الضامن،
(بيروت : مؤسسة الرسالة، ط 2، 1989م) ص 29.
(4) دراز، محمد عبد اللّه : النبأ العظيم : نظرات جديدة في القرآن، تخريج وتعليق : عبد
الحميد أحمد الدخاخني، (مصر : دار المرابطين، ط 1، 1997م) ص 6.
(5) الصالح، صبحي : مباحث في علوم القرآن، (بيروت : دار العلم للملايين، ط 18،
1990م) ص 17.