عوني صادق
في الأسبوع الماضي، زار الصهيوني بنيامين نتنياهو العاصمة البريطانية والتقى مبعوث الرئيس الأميركي إلى المنطقة جورج ميتشيل، كما التقى غولدن براون رئيس الوزراء البريطاني. بعدها زار نتنياهو برلين، والتقى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وفي العاصمتين تطرقت المباحثات إلى موضوعين رئيسيين: “مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية”، والملف النووي الإيراني. وفي المؤتمرات الصحفية المشتركة التي عقدها مع المسؤولين الثلاثة، أعاد نتنياهو التأكيد على مواقف حكومته من مسألة “تجميد الاستيطان” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فأنكر “الشائعات” حول التوصل إلى اتفاق بشأنها رافضا أي تقييد للبناء في القدس الشرقية. كما طالب الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الكيان كشرط لاستئناف المفاوضات.
في هذا الوقت، جاء في الأخبار أن المبعوث الأميركي سيزور المنطقة خلال الأيام القليلة المقبلة، كما استشف من التصريحات التي أدلى بها ميتشيل أن واشنطن استسلمت للموقف الإسرائيلي في موضوع الاستيطان. وربط المتحدث باسم الخارجية الأميركية، بعد لقاء نتنياهو وميتشيل، فرص استئناف المفاوضات بما يمكن أن يتخذه الفلسطينيون من خطوات (تتعلق بالاعتراف بيهودية الدولة)، وما يمكن أن يقدم عليه العرب من مبادرات (تتعلق بالتطبيع التدريجي مع الكيان).
البعض يرى أن إدارة أوباما أصبحت تمارس “خدعة” مزدوجة، تبيع الوهم لمن يرغب من الفلسطينيين من جهة، وتضغط على الأنظمة العربية، وتجرجر الجميع على طريق تحقيق الأهداف الإسرائيلية، وعبرها الأهداف الأميركية في المنطقة، من جهة أخرى. لكن هذا البعض يخدع نفسه قصدا، بل ويتواطأ مع الأميركيين والإسرائيليين في ما يرمون إليه. ذلك أن “الخدعة” حتى تكون خدعة، يجب أن تظهر وكأنها حقيقة. أما الخدعة الأميركية فمكشوفة وواضحة الأهداف، وهي ليست غير مؤامرة تحاك وتدبر تحت عنوان “فقاعة” تجميد الاستيطان. فكل “الجهد” الأميركي المبذول منذ وصول أوباما إلى البيت الأبيض، انحصر في “إقناع” حكومة نتنياهو ب “تجميد الاستيطان” بشكل مؤقت، مقابل أن تعترف السلطة الفلسطينية بيهودية الكيان، وتطبع الدول العربية علاقاتها معه.
والتوقف السريع أمام “الجهود” الأميركية لحل “مشكلة الشرق الأوسط” يكشف عدة حقائق مذهلة، تكشف بدورها عن “قراءة مقلوبة” للوقائع والأحداث التي شهدتها المنطقة في العقود الستة الماضية. فأولا، ومن الآخر، أصبحت إدارة أوباما مجرد استطالة طبيعية لإدارات أميركية سبقتها خصوصا إدارة جورج بوش الابن، فهي ترى الاغتصاب الصهيوني لفلسطين في العام 1948 أمرا واقعا وطبيعيا ومسألة منتهية غير قابلة للنقاش بكل ما ترتب عليها من قضايا، وأولها قضية اللاجئين الذين طردوا من مدنهم وقراهم وأرضهم في ذلك العام وما تلاه. أما الذي بقي من فلسطين ثم وقع تحت الاحتلال في العام 1967 فلم تعد أرضا “متنازعا عليها” بل أصبحت “أرض إسرائيل”، وأصبح تهويد القدس وبناء المستوطنات والجدار العازل وسرقة الأرض “وقائع جديدة”، كما رآها بوش، غير قابلة للتجاهل. بكلمات قليلة، لم يبق من القضية الفلسطينية إلا شظايا لا علاقة لها بحق تقرير المصير لشعب سرق وطنه وطرد من أرضه.
بالرغم من كل ذلك، كانت المشكلة وظلت بالنسبة للكيان الصهيوني، وأصبحت بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة، حتى وصل الأمر إلى أوباما، هي أن القضية ظلت مستعصية على التصفية النهائية، بالرغم من كل ما أصاب الشعب صاحب القضية وحركته الوطنية ومحيطه العربي من تدهور خلال العقود الأخيرة. لهذا ظل هدف التصفية النهائية مطلوبا، بالطبع تحت عنوان “إحلال السلام” الزائف والحل الوهمي ل “الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني”. ولم تجد إدارة بوش، ومن بعده إدارة أوباما مدخلا مناسبا يمكن أن “يخدع” من يريد أن ينخدع من الفلسطينيين والعرب، غير أكذوبة “حل الدولتين”، في ظروف لم يبق من الأرض ما يكفي لإقامة محافظة، وبمواصفات يخجل من قبولها شيخ عشيرة صغيرة في “ضيعة” ضائعة !
لقد أعلنت الحرب على الفلسطينيين وأمة العرب قبل إعلان “وعد بلفور”، وها هو يكاد يكتمل القرن على ذلك الإعلان ولا تزال الحرب مستمرة. وبما أن الحرب خدعة، أصبح السؤال: كيف يكون تمرير “المؤامرة” بشكل تبدو وكأنها ”خدعة”؟ حتى عهد جورج بوش الأب كان الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في العام 1967 احتلالا يجب إنهاؤه لأنه “لا يجوز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة”، وكان الاستيطان غير شرعي لأنه جاء عن طريق الاحتلال، ثم نسي الاحتلال في عهد جورج بوش الابن، وأصبح الاستيطان “عقبة في طريق السلام” فحسب، ثم في عهده تحول إلى “وقائع يجب أخذها في الاعتبار” عند البحث عن هذا السلام! جاء أوباما “فوق العادة” ليختزل القضية كلها في الاستيطان، وليصبح الهدف لا إنهاء الاحتلال ولا تفكيك المستوطنات، بل مجرد “تجميد الاستيطان” لبضعة أشهر، وهو ما يعني الاعتراف بشرعية الاحتلال والاستيطان معا!
هل هناك خدعة أوضح وأحقر من هذه الخدعة؟! هكذا ببساطة اختصرت القضية، في عهد أوباما وليس في عهد بوش، في “خلاف” على “كم” من الأرض يمكن أن “يتنازل” عنه اللص الصهيوني للحصول على اعتراف أصحاب الأرض بشرعية ما سرق، وفي ما يتوجب عليهم وعلى العرب أن يقدموا للسارق كي يرضى ويقبل “السلام” معهم؟ هكذا ديس على كل قرارات ما يسمى “الشرعية الدولية”، وهكذا افتضحت حقيقة ما يسمى “المجتمع الدولي”، وتحول ما يسمى “القانون الدولي” و”القانون الدولي الإنساني” إلى هياكل فارغة بلا معنى أو مضمون سوى أنها أدوات بيد الأقوياء، أدوات للظلم والنهب والقتل والاستعباد.