أرشيف - غير مصنف

عندما تبكي الثعالب !

جميل عبود
في خضمّ هذه الحياة ذات الإيقاع السريع التي نعيشها اليوم، قد ينسى الإنسان أصدقاءه وأقرباءه لا بل قد ينسى نفسه. وقد تستمر هذه الحالة شهوراً أو سنين، إلى أن تأتي لحظة، يتذكر فيها حياته السابقة، وهذه اللحظة لا يعلم موعداً لقدومها، فقد تأتيه في السيارة أو في العمل، أو في البيت، نائماً كان أم صاحياً، مُتعباً أو مُستريحاً.
 
 
 
جاءتني هذه اللحظة، بينما كنت أمرّ من أمام بيت يسكنه قريبٌ لي، كان يُحسن إليّ وأنا صغير في السن، فقرّرت أن أزوره دون موعد مُسبق.
 
 
 
ما إن لمست جرس الباب، وإذا به يفتح ــ وكأنّ صاحبه ينتظرني وراءه ــ ويخرج منه قريبي قائلا: أهلاً وسهلاً، لقد خطرت على بالي وقررت زيارتك هذا اليوم، ولكنّ الذي منعني هو وجود ضيف عندي، وقد صدقوا عندما قالوا أن القلوب عند بعضها.
 
تحدّث بهذا كله قبل أن نصل إلى مجلسه في البيت، وعندما وصلناه أدخلني قبله، وإذا برجل طويل القامة، عريض المنكبين، ملبسه أنيق، يدلّ على سعة في العيش، وراحة في البال، كان قد سبقني للزيارة.
 
 
 
عرّفني قريبي له، فلم يهتم كثيراً، ربّما لصغر سني ومظهري الشبابي في ذلك الوقت.
 
 
 
هكذا نحن، كلّ جيل ينظر إلى الجيل الذي قبله باستخفاف، ويعتبر أن جيله هو صانع هذه الحياة، ويُنكر على من هم قبله، ويستخفّ بمن سيأتي بعده، لا بل تصل الأمور أحياناً إلى اتهام الجيل السابق بالتقصير، وإلى النيْل من قُدرات الجيل القادم بالتغيير.
 
 
 
ثم عرّفه لي قائلاً: أبو محمد، جار لنا مُتقاعد، أنهى رسالته في هذه الحياة، لكنه لم يَصْحُ إلا مُتأخراً، فقد ارتكب أخطاء في حياته، يُحاول اليوم تصحيحها.
 
 
 
قلت له: لا أفهم ما تقول، لو سمحت وضّح أكثر.
 
 
 
تغيّرت نبرة صوته، وظهر شيء من الغضب على وجهه، وأصبح كمن يُخاطب نفسه أكثر ممّا يُخاطبنا عندما قال: يحقّ لنا أن نتهم جيلكم بعدم الاستيعاب.
 
 
 
ثم عاد ليقول: أبو محمد أنجب من الأولاد ستة ومن البنات أربع، وقد تزوّجوا جميعاً، وانشغل كل واحد في نفسه، ونسوا والدهم، ولم يسألوا عنه، وبقي يُصارع الحياة وحيداً، وهو الآن يندم على ما قدّمه لهم ولغيرهم.
 
 
 
وخرج من هذه الحياة بتجربة شخصية يقول عنها: الأولاد كالذهب كلما دعكته أكثر، يزيد لمعانه، وكلما حرصت عليه وخبأته ولم تستعمله، كلما انتكس لونه وخف لمعانه، فلا تعط أولادك كل شيء، لأنهم سيفقدون طعم العطاء بعد ذلك.
 
قال ابن عمي كل هذا الكلام وأبو محمد ساكت لا يتكلم، أمّا أنا، فأصبحت مُشتاقاً لكيْ أسمع منه شخصياً، ولو شيئاً بسيطاً عن فلسفته في الحياة.
 
 
 
ولكيْ أثيرهُ وأشجّعهُ على الكلام فاجأته بالسؤال، أصحيح ما يقوله عنك ابن عمي؟ فنظر إليّ نظرة استصغار، ولم ينطق ولو بكلمة واحدة.
 
 
 
بعد بُرهة من الزمن، بدأ يُهيئ نفسه للكلام، فأمرت حواسي كلها بالاستماع لما سيقول، وإذا به يطلب من ابن عمي سجّادة صلاة.
 
أحضرله ما طلب، وانتحى جانباً وبدأ يُصلي، وطالت صلاته، نظرت إليه خلسة، فإذا به يبكي على سجادة الصلاة.
 
 
 
أصبح لزاماً عليّ الآن، أن ألفت نظر ابن عمي إليه، فقد يكون مريضاً ويحتاج إلى مُساعدة.
 
 
 
فقلت لابن عمي مُستغرباً: إنّ جارك يبكي على سجّادة الصلاة، ربّما قد حدث له حادث منعه عن الكلام.
 
 
 
ضحك ابن عمي وقال: أرجو أن لا تراقبه أو تهتم به، بل اتركه حتى ينتهي فقد بدّل البكاء بعد الصلاة بالاستغفار، وقبل أن تسألني، لماذا يبكي؟ على الرغم من أن بكاء الرجال قليل، سأجيبك باختصار وقبل أن ينهي بُكاءه.
 
 
 
في كل سنة كان يقوم بجمع أموال الزكاة لشعب فلسطين، ويذهب بها إلى هناك، ويستغلّ أوضاعهم المادّية الصّعبة، ويتزوّج من عندهم بنتاً عمرها لا يزيد عن الست عشر سنة، ويعيش معها شهرين على الأكثر، ويعدها بأن يأخذها معه، وبعد أن يصل إلى الكويت يستبدل ورقة الطلاق بالفيزا.
 
 
 
ولحل المشكلة التي يُواجهها وهي أنّ القاضي لا يكتب عقد الزواج إلا إذا بلغت الفتاة سن الثامنة عشرة، فإنه يبتكر كل سنة طريقة تختلف عن سابقتها، فمرّة يُزوّر شهادة الميلاد، وأخرى يستخدم الرّشوة ويُسميها هديّة وإذا لزم الأمر يُهدّد القاضي بغيره إذا رفض كتابة العقد.
 
 
 
وعندما يعود إلى الكويت، ويتذكر أعماله المُشينة هناك، يبكي ليغفر الله له ما تقدم من ذنوبه، ويبقى كذلك إلى أن يأتي أول الصيف، فينسى البكاء ويذهب ثانية وثالثة ورابعة.
 
 
 
وفي كل مرة يتزوّج فيها بإحدى الصّبايا اليُتم يقص عليّ مغامراته معها، ويشرح لي وبإسهاب فوائد الزواج من قاصر.
 
 
 
وبعد هذا كله يُبرّر ما عمله بآيات من القرآن الكريم، فمرة يتلو “وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع” ويكتفي بهذه الكلمات دون أن يقرأ ما قبلها أو ما بعدها، ويختم حديثه بآية أخرى “إن الله غفور رحيم“.
 
 
 
فيا أيها الثعالب، بُكاؤكم هذا لا ينفعكم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولن تخدعنا شعاراتكم الدينية الفضفاضة، بعد أن خُدعنا من غيركم بالشعارات السّياسيّة البرّاقة
 
 
جميل عبود
 
تموز2009
 
 

زر الذهاب إلى الأعلى