أرشيف - غير مصنف
لم يعد ينفع سوريا مسك العصا من الوسط
بقلم: طلال بركات
كثير من الدول يمتاز قادتها بالمكر والدهاء والمراوغة وعدم الوضوح واتباع سياسة القفز على الحبال من اجل تحقيق مصالح متنوعة.
وبالرغم من نجاح تلك السياسة في بعض الاحيان والحصول على مكاسب نسبية الا ان عواقبها وخيمة لان السير في الظلام يؤدي الى الوقوع في الفخ.
وهذا ما تقوم به سوريا خلال عقود من الزمن في تعاملها السياسي اقليمياً ودولياً. ولا نريد الدخول في كيفية تعامل القيادة السورية مع قضية احتلال هضبة الجولان التي طويت في وادي النسيان وترك امرها للاجيال القادمة الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا، وانما سنبدأ من الهيمنة السورية على لبنان التي استمرت سنينا طويلة وكيف كانت سوريا تقفز على التناقضات اللبنانية التي حولت الديمقراطية العريقة فيها الى رماد تحت نيران أمراء الطوائف وباتت النخب السياسية اللبنانية كأنها خلايا نائمة تنفجر وقت ما تحركها اطراف اقليمية ودولية.
وبالرغم من ان سوريا كانت تمسك بكافة خيوط اللعبة الا أن دورها انحسر بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وقبلها الخطأ القاتل الذي ادخل القيادة السورية في النفق المظلم عندما اتخذت من إيران عمق استراتيجي لسياستها الداخلية والخارجية بشقيها الاقليمي والدولي وربط مصيرها السياسي في فلك التحالف مع إيران بعدما قفزت على الجار الشقيق العراق السيف المجرب الذي حمى دمشق من السقوط في حرب تشرين وراحت ترمي شباكها في أحضان ملالي طهران تلتمس من البلاء الصفوي تآخ علوي على حساب مبادئ وشعارات حزب البعث العربي الاشتراكي الوحدوي الذي جعلت منه واجهة لمصالح باتت معروفة لدى الجميع. لذلك سقطت سوريا في مصيدة تقيّة ولاية الفقية واصبحت إيران هي المستفيد الاكبر من هذا التحالف الذي حوّل سوريا الى جسر عبرت منه إيران الى لبنان ومناطق نفوذ اخرى في الوطن العربي بل تمادت في تأسيس قواعد سياسية مسلحة باماكن عربية متعددة لتنفيذ اجندة فارسية طائفية بحتة مما اثر ذلك التمادي على مصداقية سوريا ودورها في المحيط العربي حتى بات العرب يتوجسون منها الخيفة والحذر من جراء هذا التحالف المر الذي طبع بصمات إيران على اغلب المواقف السورية وبات نشر التشيع في البلاد العربية والإسلامية على المكشوف بدلا من نشر الإسلام في البلاد غير الإسلامية، وأصبح لإيران موطئ قدم في السعودية وقطر والكويت والبحرين والامارات واليمن فضلا عن تدخلها في الشؤون الداخلية لمصر والمغرب والجزائر ولبنان والاردن والسودان من غير رادع قوي. وعندما قطعت إيران شوطا كبيرا في العبور على اكتاف سوريا اصبحت ناكرة للمعروف السوري وباتت من غير حاجة الى هذا التحالف بسبب تقاطع المصالح بعد المتغيرات الجديدة في المنطقة وبالاخص بعد تحجيم الدور السوري في لبنان الذي اعتبرته إيران فرصة ذهبية للانفراد في الساحة اللبنانية من خلال حزب الله الذي مدته بالمال والسلاح بالاضافة الى تعاونها مع اميركا ومساعدتها في احتلال افغانستان والعراق ومكافأتها بتنصيب عملائها على رأس السطة في العراق وبذلك اصبحت سوريا عبئا على النفوذ الإيراني في المنطقة وخصوصا بعد هيمنتها على جميع مؤسسات الدولة العراقية لان العروبة والشعارات القومية السورية لم تعد تطرب الحليف الإيراني فباتت توعز لعملائها من حكام المنطقة الخضراء في العراق بقذف سوريا سيل من الاتهامات الجاهزة حول الاعمال الارهابية التي ترتكب على الساحة العراقية ويحملونها وزر ما تقوم به إيران من جرائم دون ان تحرك الاخيرة ساكناً للدفاع عن حليفتها القديمة، فضلا عن قيامهم بتسويق بضاعة إيرانية طائفية فاسدة لاثارة المشاكل مع الدول العربية والتدخل في شؤونها الداخلية نيابة عن حكام طهران مثل فتح مكتب للمتمردين الحوثيين التابعين لإيران في النجف الاشرف وفضيحة المدرسة العراقية في الرباط واغلاقها من قبل السلطات المغربية نتيجة توزيع نشرات وكتب طائفية تابعة للمجلس الاعلى الإيراني بالاضافة الى تحسس الدول العربية من تسخير السفارات والجاليات العراقية بتنفيذ اجندات إيرانية مثلما حدث في مصر والبحرين والمغرب.
بعد هذه المتغيرات التي قلبت السحر على الساحر ذبل رحيق سوريا وفقدت بريقها حتى باتت مهمشة لا هي في صفاء مع اشقائها العرب ولا هي مستفيدة من الطبخة الإيرانية، وكذلك لا هي قادرة على اتهام إيران الحليف الاستراتيجي والفاعل الحقيقي لأغلب ما يحصل من تفجيرات دموية على ارض العراق ولا هي قادرة على الانصياع الى مطالب حكام العراق الجدد ولا تحمل أعباء اتهاماتهم التي آخرها تمثيلية مسلسل التفجيرات التي سميت بالاربعاء الدامي فقد أصبحت مثل “بلاّع الموس” كما يقال في المثل الشعبي، والغريب ما في الامر الذي اثار استغراب الكثير من المعنيين في الشأن العراقي عن سبب اتهام يونس الاحمد العضو السابق في القيادة القطرية لحزب البعث في العراق والمقيم في سوريا بهذه التفجيرات وهو الذي نزع الثوب الجهادي وتعامل مع الاميركيين وفصل من الحزب ولم يعد بورقة جوكر بالنسبة للسوريين. اذن لماذا هذا الاصرار على اتهامه بأعمال باتت معروفة لدى الجميع وباعتراف الكثير من القادة العراقيين المختصين بالشؤون الأمنية، ان إيران صاحبة اليد الطولى فيها؟ الجواب على ذلك هو لا بد من قيام حكام العراق المنصبين تقديم ادلة مفتعلة امام العالم ضد سوريا لإبعاد الشبهة عن إيران وفي نفس الوقت تصدير ازمة الصراع الداخلي الى الخارج من اجل خدمة اطراف داخل الحكومة العراقية العميلة في ظل التحضير للانتخابات التشريعية القادمة وكذلك لا بد من اتهام سوريا بهذه التفجيرات للضغط عليها من اجل طرد اكثر من مليون لأجئ عراقي مقيم على اراضيها وباتوا يشكلون عمق استراتيجي في الداخل العراقي لصالحها وبالاخص البعثيين الذين طيروا النوم من عيون قادة العهد الجديد في العراق، فضلا عن تنفيذ اجندة اميركية صهيونية إيرانية باغراق المنطقة بالخلافات واثارة المشاكل مع الدول العربية المجاورة واتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق في مناسبة او من غير مناسبة، حتى وصل بهم الحقد وروح الانتقام التلاعب بالسياسة بمحاولة تسيس مشاكل العراق دوليا عبر الأمم المتحدة أو المحاكم الجنائية الدولية وفاتهم ان عواقب ذلك سوف يفتح سجلات المجرمين في الداخل والخارج وسيأخذ العراق حقة من عملاء دول الجوار وخصوصا قادة الأحزاب والميليشيات العاملة تحت مظلة فيلق القدس الإيراني.
لقد طفح الكيل ولم يعد ينفع سوريا مسك العصى من الوسط وتقديم التنازلات كما حصل في عهد الرئيس بوش محاولة منها لإرضاء المارد الاميركي بتسليم المئات من كوادر النظام الوطني الى السلطات الاميركية المحتلة في العراق. هذا التصرف الذي جعل العود السوري طريا ولقمة لينة سهلة المضغ، فتح شهية المتربصين لها من ناكري الجميل بعدما كانوا يتسكعون على عتبات الشام والسيدة زينب.
واخيرا أصبح لزاما على سوريا ان تثبت انها الدولة العربية الوحيدة التي لازالت تتبنى المشروع القومي العربي الذي حتما يتقاطع مع المشروع العنصري الإيراني الصفوي، وليس لها من خيار غير وضع النقاط على الحروف لان لديها الكثير من الاوراق. وحان وقت فتح الملفات وعرض الوثائق والافلام والصور والسجلات التي تفضح الاتصالات والعورات. وهناك الكثير من الاستمارات عليها التواقيع على استلام المعونة والهبات ولديها من المزيد ما يمكنها من قلب الطاولة على رؤوس الجميع، فلابد من ان تعيد سوريا الحسابات وتكسر حاجز الخوف وتتعامل مع القوى الوطنية العراقية وفي مقدمتها المقاومة الباسلة كممثل شرعي وحيد للشعب العراقي حسب الأعراف والقوانين الدولية التي تعترف بحق الشعوب المحتلة في مقاومة المحتل وحث الدول العربية الاخرى على مساندتها، فضلا عن احتضان اللاجئين العراقيين وعدم الانزلاق في الفخ الذي نصبته حكومة المنطقة الخضراء من اجل أبعادهم عن اراضيها، بل يفترض بسوريا التكفير عن خطاياها بحق الشعب العراقي واحتضان ابنائه الشرفاء مثلما كانت تحتضن ما يسمى بالمعارضة العراقية الذين القو بسحرهم ومكرهم على النظام الوطني في العراق ومن ثم انقلبوا على من والاهم وعبّدَ لهم الطريق الى بغداد. ليكن ذلك درسا كبيرا لسوريا حيث لم يعد ينفع عض اصبع الندم مثلما لم يعد ينفع مسك العصا من الوسط.
طلال بركات