أرشيف - غير مصنف
القـناع وطـاقـية الإخـفـاء
يوسف جـمـل
للحقيقة وجه واحد ناصع ظاهر واقع, هذه الحقيقة أنا وأنت كما نحن بالواقع وبالفعل, هي مكونات الشخصية الحقيقية لكل فرد وفرد, هي السلوك الواضح الذي نعرف به, هي الموقف والكلمة والرأي والتعبير, هي ما يطابق ظاهره باطنه.
هذه الحقيقة لا يعرفها عنك أحد كما تعرفها أنت, أنت وحدك تعرف في قرارة نفسك ما وماذا ولماذا ومن وأين ومتى وكم وهل ولا ونعم وصحيح وخطأ في كل ما هو أنت !
وأقصد هنا ما هو أنت فعلاً وليس ما تبثه وتُظهره وتقوله وتَظهر به وتحب أن يراك الآخرون به ويفهمونه عنك !
لهذا فأنا وأنت نعيش حقيقتين حقيقتنا التي هي نحن فعلاً وحقيقتنا التي نظهر بها ونكونها ويكوّنها الغير عنا.
والبعض منا ما هو فعلاً وما هو ظاهراً لا يختلفان فيه فهؤلاء قلة ظاهرهم كباطنهم واضحون وضوح الشمس مستقيمون لا يراءون ولا يتلونون, لا يخجلون ببواطنهم فهي هم والبعض الآخر منا من هناك بون شاسع بين ما هم عليه حقاً وما يظهرون به , هؤلاء وهم كثر يعيشون حالة من الازدواجية , لا يقدرون على الظهور بما في بواطنهم لأن ذلك يعيبهم ويقيدهم ويسيء إليهم , هؤلاء الذين يعيشون النفاق والغش والتسويق والتبرير , يقولون ويفعلون ويفسرون بالشخصية الظاهرة ما هو مغاير لما هو بالشخصية الواقعية والأسباب الحقيقية والدوافع والقصد والباطن الذي يعرفونه هم وفقط هم !
يلبسون أقنعتهم للقيام بالأدوار (البطولية) ليس تواضعاً أو تجنباً للشهرة وإنما خشية أن يُعرفوا وربما تظهر حقائقهم وبواطنهم وربما يحاسبوا, فتراهم يطلقون العنان ويبدعون في المثالية والوطنية والقومية والمواقف البطولية والشعارات والتحرير وحق العودة والنضال والكفاح تحت اسم مستعار أو رمز مضيء بينما تختلف الأمور والمواقف لو كانت حقائقهم حقيقتهم وأسماؤهم الصحيحة وشخصياتهم الحقيقية والاختلاف يكون أحياناً من النقيض إلى النقيض فيظهر محبته للإخاء والتعايش والمساواة والسلام ونبذ الإرهاب والقتل والحلول السلمية ورفض المقاومة والإذعان والتنازل والرفق بالحيوان وأبناء العمومة فتراه بالقناع صقراً باشقاً وبدونه حملاً وديعاً أو حمامة سلام.
ومنهم من يلبسون أقنعتهم عند القيام بأعمال لا يريدون أن يضبطوا ويكتشفوا بها كالسطو والنهب والتخريب وكلها أعمال بغيضة يسارعون في حقيقتهم وحقائقهم الظاهرة إلى استنكارها ومقتها وسرعان ما يمتلكوا مهارة التغيير والتبديل للأقنعة بحسب الموقع والموقف والحاجة.
وفي ما مضى كان الخلفاء والحكام والأمراء والولاة يخرجون خفية إلى الناس متنكرين لكي يسمعوا الحقائق ووجهات النظر والآراء من الناس بدون محاباة أو رياء والتي يريدون أن يعرفونها بحقيقتها المغايرة لما يسمعوه وهم ظاهرين معروفين وما هو على الأغلب في التمجيد والشكر والثناء والطاعة والولاء.
واشتهر عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يخرج في السر والخفية يتفقد شؤون الرعية ويستمع إلى صريح الرأي من عامة الناس لكي يصلح الأمور ويكون على بينة من الأوضاع.
وكانت وما زالت الصدقات وأفعال الخير تتم في السر والخفاء مراعاة للمحتاجين وأولادهم حتى ينشأوا على العزة والإباء.
وبالمقابل يحتاج الحدّاد وغيره من أصحاب المهن إلى قناع واقٍ كي يحمي عينيه من الأذى والشرر والنار أثناء عمله وقيامه بتسخير المواد لخدمة البشرية وإنتاجه لشتى الأغراض بينما يتقنع الجبان والسارق والقاتل بقناع يخفي ظاهره أثناء قيامه بأعمال يخشى عندها أن يراه أو يعرفه أحد فيحاسَب ويدفع الثمن وهو ليس بالقادر على تحمل نتائج أعماله في حق البشر والبشرية .
إنَّ التضحية تكون بكل شيء من أجل الموقف والمبدأ , والبطولة والرجولة أن تمتلك الجرأة على القول والعمل لكن بطولة البطولات ورجولة المراجل أن تمتلك القوة والقدرة والوضوح والجرأة على الظهور بجانب قولك وعملك مهما كانت النتائج حتى لا يكون تناقضاً ما بين مضمون القول والعمل والمصدر القائل والعامل فيفقد القول مصداقيته وتضيع نتائج العمل ويكون هباءً منثورا !
قال تعالى في محكم التنزيل:-( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) - النساء:108-
وقال تعالى ( وقدمنا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) – الفرقان:23-
وأخيراً وفي الختام شتان ما بين قناع واقٍ وطاقية الإخفاء والاختباء.