يـوسـف جـمـل :- انتظر حتى يأتــي المساء !!
كان يأتي في المساء بعد انقضاء اليوم وحسن الختام فيُعمِِل مفرداته المثيرة للحماس والتي تخطف الألباب فيقوم بتقويم قاماتنا ويمنحنا علاماتنا فأحدنا أمين والآخر خائن وهذا بارك الله به وفيه وهذا أصلحه الله, هذا جيد وذاك بالكاد وهذا مثال للورع والتقوى وذاك بالله العياذ, ويحكي لنا قصة أو اثنتين يكون قد استذكرها من كتب السير والملاحم, وانتقاها بحكمة وحنكة متوخياً فيها ما فيه البريق والجديد والمؤثر, تُماشي واقعنا المرير وتعزف على أوتار القلوب ما يمكن أن يهب الدفء ويروي العطش ويرد على تساؤلات العديد من المتأرجحين, ضعاف العقيدة, البسطاء الذين كانت قصة وعبرة في إيمانهم بعد طول بعد وجفاء.
ونصلي العشاء جماعة وننام !
ننام ليس كما البشر تنام, ننام ونحن نبتسم, ننام والسكينة قد غشتنا والأمل قد لفنا بنسائم من الجنة نستنشق عبيرها وننعم بقرب اللقاء .
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله – وما دمنا نحيا فنحن من ينتظر – نستأنس بأن هذه الآية فيها التوجه لنا فهي تحوي شهادات عظيمة أولها الإيمان والرجولة والصدق والعهد مع الله والصبر والرباط والانتظار والثبات .
هؤلاء الذين قضوا ما بدلوا تبديلا وانتهى أجلهم وهم على ذلك أما من ينتظر ففي القول ما بدلوا تبديلا أنهم في علم الغيب ما داموا رجالاً مؤمنين فهم سيظلون على النهج ولن تتبدل أمورهم وفي هذا البشرى بالثبات حتى القضاء والممات!
ننام على الجانب الأيمن ونقرأ بعض الأدعية :- ( اللهم إني وضعت جنبي ووكلت أمري ………………).
ننام قريري الأعين وألباب مطمئنة ففي الذكر والدعاء تطمئن القلوب ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ).
وعند الفجر نأتي مهرولين ننتظر إطلالته البهية ونتحسس نسائم الصباح على جلودنا ونستلذ بحلاوة اللقاء ونحن في بدايات اليوم نريد أن ننهل ونرتوي ونشحذ الهمم ونجلو الصدأ ونسقي براعم الإيمان الفطرية حتى تكبر وتنمو وتزيد !
كنا نتحين الفرص لنلمسه أو نصافحه أو نلقي بالتحية عليه أو يتكرم بالقاءها هو إذا ما كنا جالسين وقد حضر, ونهُبُّ إلى استقباله إذا ما حضر ونخلي له صدر الجلسة ومنبرها وموضوعها فكل ما كنا فيه من بُعده عنا والملل والضجر فها هو قد حضر, ننعم بالنظر إليه ونسر إذا ما تأكد لدينا أن فزنا منه بنظرة أو إلتفاتة وينبت الكلأ وتدر أغنامنا من بركته ويعم السرور والفرح.
كنا نحضر له الكرسي بل نتسابق لإحضارها وكأس الماء لنحظى بما تبقى فيها بعد انتهاءه من الشرب لندهن بها عيون أولادنا ونسارع لتحضير عباءته وعكازه وحذاءه ونستذكر أقواله وأفعاله ونستشهد بها ونقول قال … أنا سمعته… أنا كنت … جلس بجانبي …. وإذا ما دعوناه يلبي ولو إلى فنجان قهوة أو كراع أو ذراع أو طعام عشاء وهو فقط يلبي ويلبي , كنا نود أن نفعل المستحيل حتى ننال رضاه وعندها نرضى لأن رضاه قطعة من الرضى , كنا نبتهج ونقول جاء وقام وجلس وعمل وذهب ومضى وفتى وقضى وما دام كذا فهو كذا , لا نفكر لا نتبصر لا نبحث عن شيء من الحقيقة فهي جاهزة حاضرة عنده وما دام كذلك فلماذا وقد فكر وبحث وتبصر لنا وعنا .
كنا نترقب وننتظر بشوق فلا يأتي لأن الفجر فجر فيه السكون والأعداد القليلة والوقت ليس بوقت خطابة ولا روايات وقصص والأغلب أنصاف نيام ولا بأس فنقول بلسان حاله: ليقم أحد من الرجال المؤمنين مقامي فاليوم ليس يوم جمعة وأنا الحافظ لسورة السجدة وسورة الدهر أحرص عليها فجر الجمعة وأحرص على القدوم فيها – ويقولون شغله شاغل أو ربما بعافية أو …
وبعد الفجر يأتي الرجال المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المنتظرون لأن الذين قضوا قضوا فيعملون في بناء وتأسيس وتهيئة المجتمع كل من موقعه فهذا يذهب إلى حقله وذاك يذهب إلى مدرسته والآخر يتوجه إلى مكان عمله وآخر إلى متجره وأما هو فربما بعافية أو شغله شاغل ولا بأس فيقوم أحد الرجال المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المنتظرون لأن الذين قضوا قضوا فيقوم مقامه ويساهم في بناء وتأسيس وتهيئة المجتمع بدلاً منه وبديلاً عنه وهذه في نظره مهمة بسيطة لا تحتاج إلى براعة كبراعته أو بريق ومعسول وحتى لو كان فيها بعض الأخطاء وتم البناء بصور وأشكال مغايرة لما نسمو كرجال عاهدوا الله فلا ضير في ذلك فهو سوف يأتي في المساء ويقوم بإصلاح ما ساهم هو في تعطيله بصورة مباشرة أو غير مباشرة فيُعمِِل مفرداته المثيرة للحماس والتي تخطف الألباب ويحكي لنا قصة أو اثنتين ونصلي العشاء جماعة وننام !
رحم الله سلفنا إذ كانوا يقولون أن فلان كان يجبر الكسر ولكن فلان كان يجبر القدم قبل أن تكسر, فلماذا ننتظر حتى يصبح حالنا في الكبر لنرشد ونعظ ولا نتدارك أن الحكمة في التهيئة والإرشاد والتربية منذ الصغر فنهمل هذا الجانب ولا نولي له ما له من أهمية ونكرس كل منابرنا وأقلامنا ووعظنا وإرشادنا لهم عند الكبر, لماذا يجب أن ننتظر حتى المساء !؟!