أرشيف - غير مصنف

القدس في ليلة القدر

د.مصعب أبو عرقوب
كانت أكفهم مضمدة فقد تسوروا الجدار ونزلوا بسرعة عبر الحبال قبل أن تدركهم دورية الاحتلال، التقوا في ساحات المسجد الأقصى بآخرين تسللوا إلى مستوطنة قريبة وركبوا حافلات المحتلين المتجهة للبلدة القديمة…كانت مخاطرة كبيرة ..ماذا لو أمسكوا بكم؟ ..ضحك أحدهم وأجاب لن يفعلوا شيئا وبلهجته الجنوبية الخشنة أردف مستنكرا ” الدار دار أبونا وجاء الغرباء ليطردونا”؟؟؟.
 في القدس لكل شئ طابع ونكهة خاصة, فالمخاطرة و المعاناة للوصول للحرم لها لذة عجيبة رغم الجراح و وعورة الجبال وقسوة الاحتلال.
دخل المغرب والكل يسأل ..كيف دخلت؟ من أي جهة تسللت؟ لتطير الإجابة عبر الهواتف لآخرين ما فتئوا يتصلون ويسألون …كيف السبيل لدخول الحرم …كيف السبيل؟؟؟.
 
وتبدو الساحات حزينة ترتقب الزائرين…يفطر الصائمون وتجول أعينهم في المساحات الخالية..أين أهل الخليل ؟؟ هل منعتهم الحواجز؟؟ وما بال أهل نابلس وجنين تأخروا … اين المسلمون ..اين الفاتحون ؟؟؟.
تحدق عيون الحاضرين في جنود الاحتلال على الأبواب والأسوار وتخالهم يضحكون يستهزؤون يشمتون لرؤية القدس وحيدة منسية خالية في ليلة قدر قدسية….. وفجأة وبدون مقدمات يظهرون… من الأبواب يدخلون زمرا شباب منهكون ..ثيابهم ملطخة بالتراب والوحل ..من الجري والقفز والمطاردة متعبون..لكنهم في عيون القدس والحاضرين جميلون أنيقون عطرون ففي القدس لكل شئ طابع ونكهة خاصة.
 
رفع أذان العشاء لتتراص الصفوف وتزدحم الساحات وتعم الفرحة فإن للزحام هنا أيضا بهجة وطابع ونكهة خاصة, وقبل أن يكبر الإمام ترمق الجموع جنود الاحتلال بنظرة كبرياء …ها قد امتلأت الساحات…..محمد لم يخلف بنات، فالكل هنا ما زال يذكر يوم سقطت القدس رقص المحتلين وغنائهم …محمد مات مات …خلف ورائه بنات.!!!!
 
تصلى التراويح… ويعتلي المصاطب دعاة لا يخافون سلطانا ولا سطوة حاكم .. يذكرون الأمة بماض تليد يطلقون آهات من أعماق أعماق القلوب على حاضر ذليل .. يبكون ويُيكون …. أمتهم يستصرخون وأهل قوة وعزم ومروءة يستنصرون علهم   بعد طول أمد يستفيقون قبل إن تأتي ليلة قدر …أقصى فيها قد لا يجدون. 
 
يأتي وقت السحور فتساق نحو الأبواب لتشرب القهوة عند الجالية الإفريقية أو السحلب عند الأفغانية جاليات مغربية وكردية وهندية تأخذك لتلك الأيام الكريمة أيام السلطان الناصر استجلبهم من أصقاع الدولة الإسلامية ليطوقوا المسجد الأقصى ويحموه …..تخرج من التاريخ على صوت صلاة الوتر والدعاء….. يؤمن المصلون خلف الإمام بنغمة لازمة ..آمين..آمين…إلى أن يبدأ الإمام بالدعوة للقدس والمسجد الأقصى بالتحرير ولفلسطين بعمر أو صلاح ..فتتغير النغمة اللازمة لتصبح عويلا وبكاء واستصراخا وجأرا إلى الله  وكأنك وسط مظاهرة مليونية من تلك التي تنطلق في مواسم المذابح في العواصم العربية,…. وكلما ألح الإمام بالدعاء للمجاهدين في العراق والصومال وأفغانستان بالنصر والتمكين ازدادت النغمة حدة وانتشارا…آمين… آمين ..آمين.
 
يصلى الفجر وتخرج لتجد الأحذية مكدسة أمام الأبواب جاهزة للمعركة القادمة ،معركة التطبيع، فهي السلاح كانت وما زالت في وجه المغتصبين والمطبعين والبائعين والمتخاذلين ….. في القدس حتى الأحذية لها احترام خاص.
 يخرج المصلون وتوزع عليهم الأكياس الفارغة ويبدأ الجميع بتنظيف ساحات المسجد الأقصى.. هنا لا وجود لراعي ولا دولة …هنا الكل خدم للقدس ومسجدها ..هنا تشعر بنشوة الخضوع والخدمة هنا… لكل شئ طابع خاص……. هنا القدس.
 
تغسل الساحات وتشرق الشمس وللقدس عبق صباحي ساحر يمتزج فيه التاريخ والأحداث والإسراء والنصر والتكبير والتهليل و دم الشهداء برائحة الحجارة القديمة بالصمت، بصوت خطى الجموع تدب بانتظام في أزقة البلدة العتيقة وشوارعها …..
 تسير في ذلك العالم البديع، وتنسى بعد تلك الليلة الروحانية …أنك ستراهم…. سترى جنود الاحتلال مدججين بالسلاح واقفين بالأبواب…. لكنهم  خارجون عن النص.” مارون بين الكلمات العابرة”. ضعفاء لا يخيفون… حتى صبيا .. صلى  ودعى في ليلة قدر عليهم وتمنى على الله أن ترتقي الأمة وتستشعر بعض ما يعانيه أهل فلسطين و القدس وأن تتذوق طعم التحدي وتسلق الجدران …فتحطم جدران سايكس بيكو وتتوحد .. ويتأنق رجالها بلباس المعركة ويتجملون بحمل أسلحة لطالما كدست ولم تحترم  لتعيش الأمة بهجة الزحام في ساحات الاقصى  وتنتشي لكنس الظُلام وعصرهم البائد … تلك دعوة لا بد أن تستجاب فهي…………………….. دعوة القدس في ليلة القدر.
 
19/9/2009
د. مصعب ابو عرقوب

زر الذهاب إلى الأعلى