السعودية: ازمة حكم لن تتفاقم حاليا .. د. مضاوي الرشيد

من واشنطن الى لندن مرورا بالرياض، تكثر التكهنات حول مصير نظام الحكم في السعودية، خاصة على مستوى القيادة. فتظهر مقولات صراع الاجنحة ومحاولات انقلابية تكتنفها السرية تجعل المراقب يتوقع تغييرات واضطرابات متوقعة في المستقبل القريب الا اننا اذا ابتعدنا عن التكهنات وركزنا على التحليل الدقيق للوضع القيادي السعودي، فسنجد ان أزمة الحكم ربما لن تتفاقم خلال السنوات القليلة القادمة رغم انها ستظل افتراضية لا يمكن تجاهلها كليا. ما يجعلنا نصل الى هذه النتيجة هو مجموعة معطيات مرتبطة بعضها ببعض تؤجل تفاقم الأزمة. وتتكون هذه المعطيات من:
أولا: حالة جبن مستشرية ولدتها التجارب التاريخية السعودية السابقة منها ما حصل في القرن العشرين وما قبله عندما خسرت العائلة السعودية حكمها تحت ضغط التدخل الخارجي المصري العثماني الذي أدى الى تفاقم أزمة الحكم السعودية والاطاحة بالكيان السعودي الهش المسمى الدولة السعودية الثانية عام 1871، ومن ثم التناحر على السلطة بين الاخوين سعود وفيصل الذي حسمه التدخل الامريكي لصالح الثاني. من هنا نمت حالة جبن تؤدي الى تفادي تفاقم الصراع وحسمه داخليا. مهما كلف ذلك من تضحيات قد تطيح بشخص لكنها تضمن بقاء النظام.
ثانيا: تطور النظام وتشعبه حتى تم احتواء الاجنحة المختلفة ودمجها بنظام الدولة ومؤسساتها.
فرغم مركزية النظام السعودي الا ان القرار قد تم توزيعه حسب مبدأ المشاركة. ورغم شمولية هذا النظام وسريته الا انه يعتمد على ركيزتين: الاولى توزيع السلطة، والثانية توزيع المال كبديل للسلطة، والكل يعمل تحت مظلة واحدة. استطاعت مردودات النفط أن تؤمن لها ديمومة، فكثر المستفيدون من هذه المظلة بمعزل عن المحاسبة والمراقبة والشفافية. وأصغر أمير في المجموعة يظل مستلما لأتاوات وفرص مالية ومعاشات شهرية وتسهيلات اقتصادية تؤمنها له المظلة رغم تفاوت الفرص والمداخيل. لذلك نجد أن الكثير من هؤلاء يفضلون الفتات او بعض الصلاحيات على فقدانها كليا في حال الاطاحة بالنظام. ونشأت عن ذلك عصبية مرحلية تجمع الكل على هدف واحد هو بقاء المظلة مهما كثر الحسد واستشرت الغيرة بين الاجنحة الكثيرة المتشعبة. فبعض الشيء أحسن بكثير من خسارة كل شيء.
ثالثا: سهل ارتباط أعمدة النظام بمؤسسات عسكرية متعددة ومتباينة في تدعيم كل عامود بميليشيا بوليسية لها ميزانيات ضخمة ووجود على الارض ليس لها دور سوى حماية ظهر العامود وليس حماية أمن البلاد. والأدلة التاريخية كثيرة منها فقدان القدرة العسكرية المحلية على التصدي لأي عدوان خارجي، لانها ليست مجهزة لذلك الهدف، بل هي سند داخلي لصراع داخلي حال حدوثه. من هنا تنعدم الجرأة على تقويض التوافق الداخلي لما قد يؤدي الى تطاحن عسكري تكون عواقبه وخيمة على المجموعة ككل، وقد يهدد ذلك النظام كمجموعة متسلطة ومستأثرة بالحكم، وقد يفتح ذلك المجال لنهايات وعملية استئصال واجتثاث للحكم ذاته.
رابعا: ما يجعلنا نستبعد تفاقم ازمة الحكم هو تحييد ما يسمى بالمؤسسة الدينية كليا عن موضوع الحكم والسياسة وتقليص دورها اجتماعيا وتعبديا، خاصة وانها مؤسسة ترتجف من اي تغيير قادم وتؤمن ان الحكم بالاستيلاء على السلطة هو حكم شرعي رغم كون المستولي منعدم المؤهلات. فهي بالفعل تؤمن بمقولة مات الملك ومن ثم عاش الملك، طالما انها تضمن هيمنتها على المجتمع وصلاحياتها المعروفة مستندة الى ايمانها العميق بأن حكم الشيطان يبقى شرعيا ان لم يقفل المساجد ويمنع العبادة.
وهذه المؤسسة لم تخترع هذا المبدأ، وانما توراثته من تاريخ اسلامي وآراء فقهاء قدامى كانت كتاباتهم تعكس حالة انحطاط الحضارة الاسلامية وتشتتها من ابن جماعة الى غيره من فقهاء عصر الانحطاط السياسي الذي عرفته المنطقة العربية خلال عقودها الغابرة. فهي مستعدة لأن تسمع وتطيع رغم ضربات العصي المتوالية على الظهور وسرقة المال، فلا تأبه ان كان الشعر منسدلا او زبيبة او كان الحاكم مجتهدا او مجاهدا او كان إمّعة او كان صاحب قلم او سيف كلهم سواسية امام تراتيل السمع والطاعة والصبر. التشبث بفقه عبادة الحاكم مع عبادة الله ضمن للقيادة السعودية حالة ركود فكري وتنصل من مسؤولية الحكم من قبل مجموعة كان لها الدور المهم في القيادة في عصور النهضة والثقة بقوة ارادة الامة وحقوقها. لذلك تحصل صراعات الحكم السعودية في دائرة سرية ضيقة بمعزل عن المجموعة الدينية. وهي غير متأثرة بها الى درجة كبيرة.
خامسا: لن تتفاقم أزمة الحكم لأن المجتمع السعودي تعود الخمول وقبل بالفتات المادي ورضي بالقهر وتبذير الثروة وطالما أنها لا يزال يعلل النفس بصدقة عند باب هذا القصر او مشروع خيري مرتبط بهذا الامير او ذاك او علاقة مشخصنة مع احد اعمدة الدولة لظل هذا المجتمع ضعيفا مشتتا غير قادر على تحويل نفسه الى اداة ضغط وقوة فاعلة. فهو معدوم المؤسسات المستقلة والاحزاب السياسية والتجمعات العمالية، ورغم تواجد بعض الافكار والطروحات، لكنه غير قادر على حشد رهط مستقل يؤمن حماية للمطالب الجمعية، فما اسهل أن تحشد المشجعين في ملاعب كرة القدم او المراكز التجارية عند نزول أول صرعة استهلاكية جديدة على أن تحشده في سبيل قضية تهدد مصير أمة وثروتها ومستقبلها.
وليست القبلية أو المناطقية من يقف حجر عثرة امام ذلك، بل هو عملية شخصنة العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي طورها ونماها النظام السعودي خلال العقود الماضية، فما اسهل ان تستجدي المال أو الحقوق من شخص الحاكم مباشرة وفي المجالس المعروفة من خلال تقديم العرائض ورسائل التزلف وقصائد الاطراء على أن تنظم الصفوف وتجمع الكلمة على أمر يطال الجميع.
هذه الشخصنة هي المسؤولة الاولى عن فقدان العمل الجمعي من خلال المؤسسات المستقلة وخاصة الحقوقية منها او السياسية.
سادسا وأخيرا: تماما كما هو حال المؤسسة الدينية السعودية، فالمجتمع الدولي مستعد لأن يتعامل مع أي قيادة سعودية قادمة، طالما انها توفر له النفط والموقع الاستراتيجي والسوق المفتوحة للاستثمار ومحاربة الفكر المتطرف، وكلها اجندات تتلاقى مع مصالح القيادة وأجنحتها بالجملة والمفرق. تلاقي المصالح يؤجل تفاقم أزمة الحكم بعد أن برهن النظام السعودي على قدرة فائقة على تأمين هذه المصالح، ليس لأنه حبيب وفي، بل لأنه يستفيد ماليا ومعنويا من هذه المعادلة التي ارسيت قواعدها منذ اكثر من قرن. لقد وفرت المعادلة للنظام حضورا عالميا وماليا واستراتيجيا يفوق مؤهلاته الحقيقية وحمته من عواصف سابقة على صعيد المنطقة او على صعيد الداخل.
لقد استطاعت هذه المعطيات الستة السابقة الذكر ان تحول النظام السعودي الى ملكية توافقية محمية داخليا من تفاقم صراعات الاجنحة وبمعزل عن الضغط السياسي او الديني او الاجتماعي، كذلك هي توافقية حيث تلتقي مصالح المجموعة الحاكمة مع مصالح القوى الخارجية المستعدة للتعامل مع أي كان طالما ظل هذا محافظا على مبدأ الشراكة مع الخارج المستفيد من وجوده وحاميه في نفس الوقت.
ان اندلعت الصراعات على السلطة عن طريق انقلابات او ما شابهها او لم تندلع. وعلى الارجح انها لن تندلع في السنوات القريبة القادمة. ستظل المعطيات موجودة ولن تتغير مسيرة الحكم الا في مرحلة اقتصاد ما بعد النفط الذي سيحدث هزة فكرية من أهم ملامحها ليس الفقر بل تغييرا جذريا من اهم ملامحه ازدياد التوقعات والاحلام بالاستيلاء على القرار السياسي من قبل شرائح اجتماعية متمكنة فكريا ومهمشة اقتصاديا وسياسيا. فالدول الفقيرة المعدمة لا تنتج تغييرات سياسية جذرية بل الدول التي تتنامى فيها المؤهلات والقدرات دون ان تجد لها مكانا تتصدر فيه صنع القرار. عندها فقد يصبح التغيير حتمية تاريخية تنهار امامها حالة الاستراحة والاسترخاء التي تسيطر حاليا على المجتمع السعودي بكافة أطيافه وشرائحه. عندما تشعر طبقة اجتماعية انها قادرة فكريا ومؤهلة اجتماعيا ولكنها مهمشة سياسيا ستبدأ هذه الطبقة بتنظيم نفسها لتصبح اداة ضغط تحشد المجتمع خلفها. عندها فقط يتحول السكون الى عاصفة. لن تصمد امام المطالب الشعبية اقوى الانظمة واكثرها قمعا مهما توفر لها من دعم خارجي او تراتيل الطاعة او حدود الحرابة ومقولات الفتنة وتجنبها. وستتطاير عرائض التسول المشخصنة ورسائل الحقوق المجزأة امام ريح التغيير الحقيقي والجذري وتنهار طوابير الاستجداء وتستبدل بدولة القانون التي تحدد الواجبات والمسؤوليات. ورغم ان موقفنا من النظام السعودي معروف الا اننا نفرق بين الواقعية والامنيات حتى نؤصل لتغيير جذري يعيد الحقوق المسلوبة ولا يستبدل اللاعبين فقط في لعبة شطرنج عفا عليها الزمن.
Exit mobile version