أرشيف - غير مصنف
درس فاروق حسني.. الإستسلام لا يضمن الرضى الأميركي
خضر عواركة
أهمية الدروس التي يمكن إستقائها من تجربة وزير الثقافة المصري مع إنتخابات رئاسة منظمة اليونسكو تتجاوز الحدود الثقافية للنظرة الدونية التي يتعاطى بها الغرب مع دول الجنوب كافة ومع الثقافة العربية – الإسلامية خاصة.
لدينا تجربة حية عما يمكن للإستسلام العربي أمام الشروط والمعايير الغربية أن يحققه، وهذا أمر لا ينحصر في مجال واحد، بل يمتد إبتداء من الثقافة ليصل إلى السياسة والأمن والإدارة والتنمية والتطوير .
إعتقد النظام المصري بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات أنه قادر على تجاوز الأزمات المالية والإقتصادية والتنموية، التي كانت تعاني منها مصر في السبعينيات بمجرد أن يعلن عن إستعداده للتصالح مع إسرائيل وهو أمر يشاركه فيه للأسف عدد كبير من القادة العرب وإن تفوق عليهم جميعا في عمق الإيمان به الرئيس محمود عباس.
إن ما حلم به السادات من تدفق للإستثمارات الأميركية والغربية بعد توقيعه إتفاقية كامب دايفيد تحول إلى كابوس على الشعب المصري الذي يرى بأم عينه النهب العلني لمقومات مستقبله الإقتصادي التي – تقدم كما الغاز المصري - بأسعار رمزية إلى الدولة الصهيونية وإلى الناهبين الخارجيين عبر شركائهم المحليين .
مع التخلي المصري عن الثوابت العربية لم يتحسن حال المصريين ولا تحسن وضع النظام المصري الذي يتضائل دوره وتأثيره يوما بعد يوم على الساحتين العربية والدولية.
لا ينظر الغرب إلى العربي الذي يرشح نفسه إلى رئاسة منظمات دولية إلا كما تنظر الرئاسة الفرنسية إلى الطلب التركي للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، أي بالرفض والتعالي المنسوب إلى إختلاف – تفوق- حضاري .
هناك أسباب يمكن ان يعزى إليها مباشرة الفشل المصري في إحتلال ذالك المنصب المهيب مثل التاريخ القمعي للنظام المصري ضد المثقفين وضد حرية التعبير.
لكن سببين آخرين يحتلان المرتبة نفسها كعوائق حاسمة أبعدت فاروق حسني عن رئاسة
” اليونيسكو” … النظرة الغربية الدونية إلى المثقفين العرب وإلى الثقافة العربية – الإسلامية،و التوجس والخوف التاريخي الابيض الغربي – الإسرائيلي من المسلمين والعرب.
لا يتعلق الأمر بالموقف من الإسلام كديانة، فالمسيحي الملتزم بالعروبة الثقافية – أي بالحضارة والثقافة الإسلامية - يحتل الموقع نفسه الذي للمسلمين عند الغربيين.
يتعلق الأمر مع المؤسسة الأميركية الحاكمة بالموروث الطهوري الإنجيلي – الأميركي حول أنهم يمثلون في القرون الحالية شعب الله المختار الذي يحمل إمتدادا رساليا يمتد إلى شعب الله المختار التوراتي.
هذه النظرة التي حملها المهاجرون الأنكلو ساكسون من القارة القديمة إلى الأرض الجديدة قبل مئات الأعوام ترسخت في التفكير الأميركي حتى العلماني منه، وشكلت الشخصية الأميركية من طينتها التي تزعم التفوق العرقي لنخبة الأميركيين المتنورة – وضمنا للصهاينة- تصرفا وفعلا دون أن تعترف به قولا . (يراجع كتاب شاديا دروري حول ” التفكير السياسي لدى ليو شتراوس” عن تأثير النخبوية الأميركية التي بشر بها ، ويراجع كتاب شتراوس نفسه ” اليمين الطبيعي والتاريخ ” الصادر عن منشورات جامعة شيكاغو” 1999)
العداء الأميركي – السلطوي- والإسرائيلي للإسلام ليس حربا صليبية دينية ولا هي عداء وتنافس طائفي – حصرا بل سببه الأساس إستعماري إستعلائي بسبب القدرة الكامنة في الإسلام على تحريك الشعوب التي تؤمن به ضد مغتصبي حقوقهم، ولأنه العائق الثقافي الأول الذي يقف في وجه القضاء النهائي على الشخصية التي تميز أعداء أميركا وإسرائيل .
وقد ذكر ديك تشيني في مقال منشور(*) بعضا من ملامح هذا التفكير المترسخ في إدارة باراك أوباما – (وإن إختلفت اساليب التعبير عن الطموح الأمبراطوري للمؤسسة الأميركية الحاكمة التي يعمل لحسابها الرجلين).
تشيني قال ان الأميركيين يستحقون حكم العالم بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي :
” لذا يجب أن نعمل على تحطيم العوائق الحالية (الصين وروسيا) التي قد تقف في وجه سيطرتنا المطلقة على العالم، ويجب أن نستعد لتحطيم اي عوائق محتملة (الثقافة الإسلامية التي تمثلها الحضارة العربية )
إنتهت الحضارة الأميركية – الهندية التي تواجدت في القارة الأميركية بسبب الإستعمار الأبيض، وإنتهت الشخصية اليابانية المستقلة إلى قوقعة العمل والمال والتمثل الحضاري فكريا بالمنتصر الغربي بينما لا تزال الثقافة الإسلامية العربية تحفظ قدرة الفلسطيني على مقاومة الهزيمة المعنوية والنفسية .
النظام المصري كما فاروق حسني ذهبا بعيدا في أمالهما بحتمية نيل الرضى الغربي لمجرد إستسلامهما الكامل للمعايير الغربية والإسرائيلية في المجال الثقافي فنالا صفعة وعقابا، ولم يحصلا إلا على الخيبة فهل سيتعظ من عليه الإتعاظ ؟
مصر العربية ونظام الرئيس حسني مبارك لا مصلحة لهما في حصار غزة ، ولا مصلحة لهما في الحرب التي تشنها الديبلوماسية المصرية والأجهزة الأمنية المصرية على حماس وعلى حركة الجهاد وعلى حزب الله وعلى سوريا وعلى المقاومة العراقية وعلى إيران، والنظام المصري حتما لا مصلحة له في قمع الدعم الشعبي المصري للقضايا العربية لأن ترك الشعب المصري وحرية التعبير عن غضبه تسهلان على النظام فرض بعض السياسات المتعلقة بمستقبله ، كما أن إستخدام النظام المصري لتيار التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية يسهل على الرئيس مبارك فرض وريثه – وأبنه كرئيس مقبل لمصر بشرعية شعبية كبيرة سينالها كل من يرفع شعار الدفاع عن فلسطين ولو نفاقا .
النظام المصري يعتقد بشغف أن التحالف مع إسرائيل والعمل على إرضائها يضمن وصول السيد جمال مبارك إلى رئاسة مصر، وهذا أمر لم تظهر واقعيته في نطاق التعامل الأميركي مع مصر حتى الآن، لا حبا بالديمقراطية، بل لوجود بدائل قد تضمن بشكل أفضل إستقرارا للنظام المصري الحالي ، وهو إستقرار يشكل مصلحة أميركية .
وما فشل الوزير فاروق حسني في إنتخابات رئاسة اليونسكو إلا مثال عن شكل الدعم الأميركي الذي سيناله السيد جمال مبارك حين يسعى لرئاسة مصر إن لم يكن لأميركا مصلحة في إيصاله.
فاروق حسني تخلى عن كل منطق كان يتمتع به من خلال تصرفات إعتبرها الكثيرون أنها وقحة في ممالأتها لإسرائيل و قد خسر الوزير ماء وجهه وبعض الإحترام الذي كان يتمتع به في عيون المصريين بسبب تلك التنازلات وعاد بالخيبة والخسران ، فهل ما حصل في الثقافة سيحصل في التوريث…؟
سُنة القوي المستكبر مع المهزوم هي الفرض والإكراه وليس الإسترضاء، وما فعلته الولايات المتحدة من إعادة إعمار لليابان ولألمانيا لم تتكرر في مصر، ولن تتكرر في العراق، لأن لا ثقة للمؤسسة الرسمية الأميركية بأي نظام يحكم شعبا إسلاميا ، وذلك خوفا من الشعب لا من النظام، وخوفا من أي تغيير محتمل قد تحمله السنين لا يكون قادته من طينة تعجب الأميركيين.
هنا يكمن سر التعاطي الأميركي السلبي مع المشروع النووي الباكستاني، وهنا يكمن سر تفضيل أميركا وإسرائيل للتحالف مع الهند على صداقة باكستان.
وما تحاول إسرائيل فرضه على تركيا من تخل عن دورها الوسيط في المفاوضات الغير مباشرة بينها وبين سوريا، كما التعاطي الأميركي السلبي مع النفوذ التركي في أوساط السنة العراقيين ، أمران لا يخرجان في خلفيتهما عن النظرة الأميركية المتوجسة من أي دولة إسلامية . ذاك الخوف تعمد بالتجربة مع الثورة الإيرانية التي جعلت من إنتظار خميني تركي أمرا لا يغيب عن بال المخططين الأميركيين، على الرغم من الأرث التركي العلماني المعادي للإسلام ، وعلى الرغم من التغلغل العلماني العميق في أوساط العسكريتاريا التركية المتحالفة مع إسرائيل ومع الأميركيين.
ليس للأمر علاقة بالمعطيات الآنية لدول حليفة لأميركا، بل هي قناعة ثقافية عقائدية بقدرة الإسلام على إثارة القلاقل والإضطرابات في وجه أعداء الشعوب التي تعتنقه. (*) وقد عبرت عن ذلك أول دراسة أميركية صدرت بعد إنتصار أميركا على ألمانيا واليابان، وهي التي وضعتها المخابرات العسكرية الأميركية – ( صنفت سرية في الرابع عشر من شباط فبراير العام 1946 وكشف النقاب عنها لمرور الزمن في السابع عشر من مايو 1979 ).
في القسم الخاص بالعالم الإسلامي– الذي كانت أغلب شعوبه في تلك السنة ترزح تحت نير الإحتلال الأجنبي والإستعمار – كتب معدو التقرير الإستراتيجي السري يقولون :
” يعتبر الإسلام مصدرا محتملا بقوة لتوليد الثورات والإضطرابات في المناطق التي يتواجد فيها مسلمين ، لذا يجب وضع تصور يراعي التحالف مع غير المسلمين في تلك المناطق لدرء الخطر الذي قد تشكله الثورات الإسلامية على النفوذ الأميركي العالمي. “
وما كتبه الأدميرال مايك مولن رئيس هيئة الاركان المشتركة في البنتاغون في العدد الأخير من فصلية عسكرية تصدرها الجامعة الوطنية للدفاع هي ” جوينت فورس كورترلي” (*) يؤكد أن هناك نظرة عقائدية داخل المؤسسة الحاكمة في أميركا تتعامل بدونية مع المسلمين، حيث كتب الأدميرال يستنكر إستراتيجية الإدارات الأميركية المعنية بحرب الأفكار ضد المتطرفين الإسلاميين مبينا أن : ” أميركا لا تخسر حرب الأفكار بسبب سوء التواصل مع المسلمين بل بسبب التعاطي الأميركي المتسم بالسخرية والتهاون مع عقول المسلمين الذين يعتبرون – برأيه- أن لا مصداقية للوعود الأميركية التي لا تتحقق أبدا. ”
لقد بنت أميركا بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية مواقع حليفة لها في أوروبا وفي أسيا لتخفف عن نفسها عبء مواجهة الصين والإتحاد السوفياتي ، أما في مصر تحديدا فأي ضعف مصري – بعيدا عمن يحكم مصر- هو مصلحة إسرائيلية أكيدة ، وأي قوة لمصر – بعيدا عمن يحكم مصر- هي خطر على إسرائيل لن تقبل به أميركا ، ويندرج في مصادر القوة المصرية تلك خروج مصر من موقع التسول السنوي من الأميركيين وتطوير بنيتها الزراعية والصناعية بما يؤهلها للإستغناء عن المساعدات الأميركية ، ومن مصادر القوة أيضا تبوء مصري لمركز دولي بأهمية إدارة ” اليونسكو ” بعد إنحرافين عن الرغبات الأميركية تورط بهما مصريين لا يقلان إنفتاحا على الغرب عن فاروق حسني هما محمد البرادعي وبطرس غالي اللذان تمردا على الأوامر الأميركية في موضوعي مجزرة قانا (1996 بطرس غالي ) وفي موضوع الإفتراء على إيران (2009 البرادعي)
الإستسلام ليس خيارا جيدا للأنظمة العربية، أما المواجهة والممانعة فتعطي نتائج أجزل حتى لمن يسعون لنيل الجوائز والعطايا من الأميركيين .
إن دعم مصر للشعب الفلسطيني – ولو لأسباب مصلحية ستعطي النظام المصري أوراق قوة تجبر الإسرائيليين والأميركيين على إسترضائه ، وأما التخلي عن كل قوة في يده وانتظار جوائز الترضية من الصهاينة ومن الأميركيين بالتمني والرجاء فهو أمر نتيجته ستكون أقسى على النظام من هزيمة فاروق حسني.
الطريق إلى التوريث يمر بنصرة غزة و بنصرة الفلسطينيين في القدس العربية .
ووقوف مصر مع الحق الفلسطيني – وفتح المعابر مع غزة ودعم الحق الفلسطيني في القدس العربية المحتلة وتصعيد التحركات الشعبية المصرية ضد إسرائيل وأميركا بتغاض من النظام ، وترك مهربي السلاح والغذاء والدواء إلى الغزاويين وشأنهم في سيناء – هو الأمر الوحيد الذي يجبر إسرائيل وأميركا على القبول بما يريده النظام المصري، ولو فعل لنال ما يحب ويرضى ولأصبح خيار جمال هو الخيار المفضل لشعب مصر – بعد عمر طويل- .
(*)Harper’s Magazine, 0017789X, Oct 2002, Vol. 305, Issue 1829 ديك تشيني
(*) وثيقة المخابرات العسكريةhttp://www.danielpipes.org/rr/3370.pdf
(*)مقال الأدميرال كولن http://www.nytimes.com/2009/08/28/world/28military.html