أرشيف - غير مصنف
المطبعون الجدد: هالــــة .. والمستخبي!!
بقلم/ د. رفعت سيد أحمد
لا تزال واقعة لقاء الدكتورة هالة مصطفى بالسفير الصهيوني بالقاهرة (شالوم كوهين) أوائل الشهر الماضي (سبتمبر 2009) تثير ردود أفعال، وتساؤلات عديدة، حتى بعد أن تم إحالتها إلى لجنة تحقيق في نقابة الصحفيين تمهيداً (ربما) إلى تحويلها إلى لجنة التأديب بالنقابة لمخالفتها لقرارات الجمعية العمومية التي تحظر التطبيع الشخصي والمؤسسي مع إسرائيل منذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي وحتى اليوم، ويتجدد قرارها مع كل مؤتمر عام للنقابة ومع قدوم كل مجلس جديد لها مما يكسبها مصداقية وحداثة واحترام على العكس مما روج البعض، والملاحظ على ردود الفعل داخل وخارج الجماعة الصحفية، هو الرفض، والإدانة لهذا اللقاء التطبيعي (الحرام)، والمخالف لقرارات ولوائح النقابة، وللروح العامة التي تسود ليس فحسب الوسط الصحفي بل والشعبي بإجمال.
ولم يدافع عن هذا الفعل الفاضح سوى قلة معروفة سلفاً والملفت أن دفاعها جاء ملتوياً وضعيفاً، وغير مقنع حتى لأصحابه.
حول الواقعة وما تلاها وانطلاقاً من اهتمام خاص بملف التطبيع يعود إلى أكثر من ربع قرن، أصدرنا خلاله خمسة كتب ضده، فضلاً عن عشرات المقالات والدراسات مع المشاركة في الفاعليات المقاومة، دعونا نسجل ما يلي عله يفيد وسط السيرك التطبيعي الذي فتحه (الفعل الفاضح) لشالوم كوهين في الأهرام خاصة أن المستخبي فيما اقترفته هالة أكثر من المعلن، طبعاً مع الاعتذار لمسلسل (هالة والمستخبي):
أولاً: في ظني أن الأولى بالمحاكمة وبالتحويل إلى مجلس تأديب عاجل ليس فحسب ( د. هالة مصطفى) بل د. عبد المنعم سعيد، فالأخير إن كنا قد نسينا قد فتح ليس فحسب (الأهرام) لزيارات السفراء الصهاينة وخبراء المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة (السابقين منهم والحاليين) بل ساهم بكتاباته المعادية دائماً لثقافة المقاومة والمروجة لثقافة الاستسلام باسم العقلانية فضلاً عن ممارساته وأدواره التي لعبت دوراً تخريبياً مؤثراً في فتح واختراق الإسرائيليين وثقافتهم للجماعة الوطنية المصرية، فالرجل كان ولا يزال أحد أبرز مؤسسي تحالف كوبنهاجن المشبوه الذي تشكل في تسعينات القرن الماضي مع رجال الموساد الإسرائيليين السابقين (هل تتذكرون مؤتمر فندق ماريوت المشبوه مع الصهاينة) وهو عمل إلى جوار الراحل لطفي الخولي فيما سمي بجمعية القاهرة للسلام، وشارك في احتفالات الكيان الصهيوني بإقامة دولته عدة مرات في تل أبيب والرجل تم تحويله إلى لجنة تأديب هو ولطفي الخولي بسبب اختراقهم لقرارات الجمعية العمومية للنقابة والتطبيع المباشر مع العدو الصهيوني، ثم هو بالإضافة إلى هذه الأدوار التي يرى البعض أنها ـ فضلاً عن علاقاته بدوائر أمريكية مخابراتية وأكاديمية مشبوهة ـ كانت السبب في وصوله إلى مواقعه الرسمية، وليس كفاءته العلمية كما حاول أن يروج هو حواريه في مركز الدراسات بالأهرام، وإذا أضفنا إلى كل هذه الأدوار كتاباته الدائمة والثابتة في أكثر من صحيفة مصرية التي تسفه المقاومة العربية كلها ( من العراق إلى لبنان وفلسطين)، والتي دأب عليها بأسلوب أمريكاني بارد وسافر صار مكشوفاً ومفضوحاً، حيث يوحي لك بالموضوعية والواقعية، ولكنه يقطر سماً وكرهاً لكل ما هو مقاوم، واستمر في لعب هذا الدور قرابة الربع قرن الأمر الذي أسعد الصهاينة والمحتلين الأمريكيين أنفسهم ودفعهم لترشيحه لزيارتهم عدة مرات والإقامة في أحضان مراكزهم البحثية وعقد الندوات معهم والتمويل الواسع لأبحاثه المشتركة ولدينا قائمة تفصيلية لنشاط وتاريخ عبد المنعم سعيد سوف تنشر لاحقاً في الموسوعة التي نعدها تحت عنوان (ثلاثون عاماً من التطبيع: ملفات المسكوت عنه) والتي ستصدر قريباً عن دار الشروق الدولية، وبها ذكر تفاصيل أنشطة وكتابات سعيد التطبيعية مما يضيق به المجال هنا، فالرجل من كثرة ما يكتب، وفي خفه ما يكتبه أضحى ليس بحاجة إلى ذكر، المؤلم هنا هو ذلك الغسيل الواسع لسمعته الوطنية التي انطلقت من صحف وأقلام وطنية مصرية بعد أن صار رئيساً لمجلس إدارة الأهرام طبعاً بترشيح وطلب من جمال مبارك والأمريكان (وربما الإسرائيليين الذي تجمعهم به صداقات شخصية ويزوره سفيرهم في بيته ويتناول معه طعام العشاء حتى أثناء مذابح غزة ولبنان كثيراً)، ففجأة صار الرجل ليبرالي، وديموقراطي وإصلاحي، ووطني، (طيب بأمارة إيه؟ “كما يقول المصريون”) ولماذا يختطف هؤلاء المطبعون الليبرالية والإصلاح من دعاتها الحقيقيين، ولماذا أصبحت الليبرالية في بلادنا قرينة التطبيع والأمركة بمعناه المبتذل؟ ولماذا لا يخرج من بين صفوف الليبرالية المصرية الحقيقية المعادية ـ بطبيعتها ومصالحها ـ لهذا التطبيع ولتلك التبعية من يرد التهمة ويضع أمثال عبد المنعم وهالة في إطارهما الصحيح ويعلن بوضوح أنهما أبناء هذا النظام المشوه وأنهما ليسا من المدرسة الليبرالية المصرية الأصيلة وأنهم وأشباههم من المدرسة التطبيعية الأمريكية الجديدة.
إن المستخبي إذن في قضية (هالة) هو أن الفاعل الرئيسي للتطبيع في (الأهرام) هو عبد المنعم سعيد، وإذا أردنا محاكمتها فمن باب أولى أن نفتح الملف على آخره ونحاكم وبشجاعة ـ ولو صحفياً وإعلامياً ـ عبد المنعم سعيد، وطابور الخبراء والصحفيين الذين جرهم معه إلى لقاء الصهاينة وعقد المؤتمرات معهم طيلة الفترة من (1979 حتى 2009)، أما توجيه طلقات الغضب إلى هالة مصطفى وحدها ـ رغم فداحة جريمتها وضرورة معاقبتها عليها ـ فإن ذلك لا يكفي وهو أقرب إلى دفن الرؤوس في الرمال، فضلاً عن كونه غير عادل وغير أخلاقي لأنه كيل بمكيالين، الأول: لهالة، والثاني: لعبد المنعم!!
* * * * *
ثانياً: من المستخبي في قصة هالة، ذلك الدور الحكومي الخبيث الذي دفع بعض الصحفيين ومن يسمون أنفسهم بخبراء استراتيجيين (وهم في الواقع بلا قيمة ولا وزن ويستمدون احترامهم الأكاديمي فقط من المؤسسة التاريخية التي يعملون بها وليس من كفاءة وقدرة علمية محترمة)، فالنظام ومن خلال التنظيم السري (العلني) الموجود بداخله والمسمى بلجنة السياسات برئاسة السيد جمال مبارك الذي يجهزونه ليصبح وريثاً لحكم مصر (المبتلاة)، يريد أن يرسل عدة رسائل إلى من يتصورون أن بيدهم مسألة التوريث حلاً وربطاً، أول تلك الرسائل وأهمها أن تلك اللجنة (والتي ينتمي إليها عبد المنعم سعيد وهالة وفريق المشتاقين من خبراء وباحثين وصحفيين) مع التطبيع ومع عقد مؤتمرات ولقاءات إسرائيلية ـ مصرية بحضور رجل المخابرات (شالوم كوهين سفير إسرائيل في مصر)، وأنه في عهد هذه اللجنة القادم لحكم مصر لن تتأثر العلاقات مع إسرائيل لا بحصار غزة ولا مذابحها ولن يرى دعاة التطبيع ونظلمهم القادم بقيادة جمال دماء الأطفال تقطر من يد هذا السفير وباحثيه وسياسيه ومن هنا اختارت اللجنة (هالة مصطفى) لتكون بالون الاختبار لإرسال هذه الرسالة، في استهانة واضحة بمشاعر المصريين (صحفيين وغير صحفيين)، تماماً كعادة قيادات وأعضاء هذه اللجنة والحزب والنظام الذي أنتجها، ولقد وضع من اتخذ قرار إرسال الرسالة عبر السيدة هالة كل الاحتمالات وردود الأفعال على طريقته، وهي الطريقة البرجماتية المتوحشة وغير الأخلاقية والصادمة لأبسط مشاعر وقناعات هذا الشعب المبتلى بتلك النخبة الوصولية، لقد حسب كل شيء وقدره، ألا تكون ردود الفعل الإعلامية ـ بل والشعبية ـ بكل هذا العداء والكراهية لفعل السيدة هالة ومن دفعها إليه ومن سبق أن صار عليه سراً أو علناً، لقد فوجئت لجنة المحروس (جمال مبارك) بردود الفعل، وربما ستفاجأ أكثر لو تم تنظيم هذه الردود وتحويلها إلى حركة شعبية حقيقية تطال الأكثر خبثاً من (هالة)، لذلك فشلت مؤقتاً رسالتهم ولم تصل بالشكل اللائق والمطلوب، ورغم ذلك لا يزال (المحروس) وبطانته من عينة الخبير الاستراتيجي رئيس مجلس الإدارة أو أستاذ الجامعة الذي تحول إلى سمسار أفكار ومنظر لسياسات توريث مصر أو أولئك الصحفيين أنصاف الموهبين الذين يتولون رئاسة تحرير العديد من الإصدارات القومية، لا تزل سادرة في غيه وقراراتها ورسائلها، ولننتظر المزيد قريباً إن لم تتحول الجماعة الوطنية المصرية بجدية وبتنظيم وفاعلية أكبر.
* * * * *
ثالثاً: يتبقى في ملف (المستخبي) في واقعة (هالة وشالوم) هو ذلك الإدعاء الفج بأن ثمة علاقات طبيعية بين مصر والعدو الصهيوني وبالتالي فإن عقد المؤتمرات وبناء علاقات ثقافية أو إعلامية يعد أمراً طبيعياً، ففضلاً عن تهافت هذا الادعاء وعدم صموده أمام المناقشة الموضوعية الهادئة، فهو أيضاً ادعاء وقح لا يتحدث به إلا الانتهازيين من الساسة والمثقفين (والخبراء الاستراتيجيين) الذين ابتلينا بهم في عهد هذا النظام، وفي الرد على هذه الحجة نقول ببساطة أنه إذا كان للحكومات (ومنها حكومتنا الغراء) ضروراتها السياسية والتي نرفضها أصلاً، فإن للمثقف ـ المحترم طبعاً ـ (اختياراته) ومواقفه، وشروطه التي لا يصح أن يخضعها لاعتبارات النظام وسياساته، فالمثقف من المفترض أنه ضمير، والضمير (بالذات ذلك الذي لم تعطبه المناصب والطموحات) يعلم أن هذا التطبيع الحكومي مع إسرائيل لا يلزمنا، بل هو قيد على حريتنا، وأنه مفروض فرضاً على هذا الشعب المُبتلى بنظامه، وأنه لم يستفتي فيه، وهو مرفوض شعبياً وتاريخياً، وممارسات إسرائيل وعدوانه وإجرامها ضد شعبنا العربي وبخاصة الفلسطيني واللبناني (والمصري طبعاً) تكفي لمن في قلبه ذرة احترام لهذا البلد ولأمنه القومي، أن يرفض التطبيع عبر عقد اللقاءات والمؤتمرات والزيارات (كما هو حال قصة هالة وشالوم) والتي تدعي زوراً أن هدفها معرفة العدو (أو الخصم على حد تعبيرهم)، وهنا أيضاً يرد عليهم بأن أساتذتنا د. حامد ربيع ـ ود. جمال حمدان ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ محمود عوض ـ عليهم رحمة الله وغيرهم عشرات من كبار العلماء والمفكرين والخبراء الاستراتيجيين الحقيقيين (وليس المزيفين مثل أصحاب بزنس التطبيع) عرفوا وتعلموا وعلمونا الكثير عن هذا العدو دون أن يرتكبوا هذا الفعل الفاضح المسمى بالتطبيع، إن الأمر إذن من ألفه إلى يائه ليس أمر معرفة، وليس أمر طلب من الدولة أو من وزير خارجيتها، لكي تطبع هالة أو عبد المنعم أو لطفي مع إسرائيل، إن الأمر أمر انتهازية سياسية وثقافية قصيرة النظر، مفضوحة الهدف، وهو أمر رسائل أراد البعض إرسالها لتل أبيب وواشنطن في غيبة من الحركة الوطنية المصرية، فشاء الله أن تكون سبباً في فضحهم ـ جميعاً ـ وفي إيقاظ تلك الحركة ولو عبر الإعلام مؤقتاً تمهيداً لأن تستيقظ عبر السياسة، لتسقط، وهي في فجرها الوطني المرتقب، ليس فحسب تلك الشريحة الانتهازية من مثقفي الصدفة، بل وبالأساس ذلك الاستبداد السياسي الذي أفرخهم لنا، فصاروا نجوماً في زمن شديد الرداءة صار فيه مصافحة العدو، المجرم، شجاعة أدبية.. ورحم الله أمل ونقل حين قال ذات يوم في رائعته لا تصالح: (كيف تنظر في يد من صافحوك فلا تبصر الدم .. في كل كف).
E-mail: [email protected]