أرشيف - غير مصنف
مشاهد من حرب الخليج
جميل حسين عـبود
المقدمـة
جيلنا، لم يَع نكبة عام 1948 لأننا كنا أطفالا صغاراً أو في بطون أمّهاتنا، فقد كان ما يصلنا من الغذاء عن طريق الأم مخلوطاً بالهمّ والغمّ والحزن والنكد، وبعد أن خرجنا للحياة غصباً، لم يفرح أحد بقدومنا؛ لأن ما كان عند الناس يكفيهم من نزق الحياة وشظف العيش.
أما نكسة عام 1967 فعشناها شباباً، جعلتنا نبدو أكبر من عُمرنا بكثير، وحرّمنا على أنفسنا زينة الشباب وأصبحنا كباراً في غير الأوان. شخّصنا أمراض الأمة، فوجدناها مُثلثاً مُتساوياً في أضلاعه، المُتمثلة في الفقر والجهل والمرض، فعقدنا العزم على إزالة هذا المثلث الكريه من وجودنا، فإذا لم نستطع سنجعله زاوية أو مستقيماً.
انطلقنا وانتشرنا في كل بقعة من بقاع الوطن العربي الكبير، نحمل شعارنا الأبدي “بلاد العرب أوطاني… من الشام لبغدان”، ولم نكن نسعى وراء المال كما اعتقد البعض، أو أراد الاعتقاد.
ولو أنك أمعنت النظر جيداً، لرأيت أن الشعب الفلسطيني في ذاك الوقت، قد تحوّل في مُعظمه إلى مُدرسين وأطباء وفنيين في جميع المجالات والتخصصات، وليس إلى مُقاولين أو سماسرة أو قطاع طرق.
لوّنا الأرض العربية بالأخضر بعد أن كانت جرداء، واستصلحنا أراضي كانت فيما مضى صحراء، وعززنا الانتماء للأرض وللوطن، وفتحنا المدارس والجامعات والمستشفيات، وأسسنا الشركات التجارية والمصانع والبنوك وشركات الطيران وأنرنا شوارع معتمة بالكهرباء.
والأهم من ذلك أننا غيّرنا قيماً سلبية كانت سائدة، فلم يكن الإنسان العربي لا يحبّ العمل فحسب وإنما يستعيبه، فالفلاحة، مثلاً، عيب في شرع بعض العرب يُعاقب صاحبها بعدم مُصاهرته.
أما المُدرسون منهم، فقد طاردوا الجهل والسحر والخرافة والعصبية والتعصب والإقليمية والطائفية، ونشروا الوعي والتفكير والأخلاق والمساواة والعدل والأنفة والقدوة الحسنة، والتمرد على الواقع أحياناً، إلى أن أصبح لهم أتباع ومُريدون، ونادراً ما تجد قرية في الوطن العربي لم يدخلها مُدرس فلسطيني.
وانقسم العرب حولهم إلى قسمين: قسم يُطالب حكوماته باستحداث مُخيم للفلسطينيين في أيّ مكان يرغبون تطويره، والقسم الآخر يطالبها بإبعاد الفلسطينيين من بلادهم، لأنهم ساعدوا في تطوير الشعوب أكثر مما ينبغي.
النكبة اقتطعت جُزءاً عزيزاً من الأرض العربية، ثم جاءت النكسة وقضمت جزءاً آخر، ولكنهما لم يكسرا قيم المُجتمع. على العكس تماماً، أوجدت مُهاجرين وأنصار، وجعلت للأمة العربية أهدافاً نبيلة مُشتركة.
أما حرب الخليج، فابتلعت الكلّ وليس الجزء، وشتت أهداف الأمة، وأعادت عصر الجاهلية الأولى، وأيقظت المناذرة، والغساسنة، والأوس، والخزرج، والمهاجرين، وبنو قريظة، والأعز، والأذل من قبورهم، وجرفت كل ما كنا قد زرعناه وحلمنا به، واستبدلته كسراً للقيم، ونحراً للأخلاق، واغتصاباً للتربية، وتكذيباً للقدوة وسحب الأوراق منها، وطردها من المجتمع العربي كله ليصبح بلا قدوة.
أكتب لكم ما رأيته بأمّ عيني من مشاهد تسكن في ذاكرتي حتى الآن، لكنها عندما سمعت بقانون الإيجارات الجديد خافت وخرجت لوحدها بدون خلو.
المشهد الأول: خيبة الأمل
المكان: خيطان / الكويت
الزمـــان: فبراير 1991
أثناء عودتي من زيارة صديق لي في منطقة خيطان، وإذا بجندي عراقي يتخذ من شارع فرعي مقرّاً له حتى يبتعد عن أعين الشرطة العسكرية العراقية التي انتشرت في جميع أنحاء الكويت.
عندما أصبحت على مقربة منه أشار إليّ بالتوقف فوقفت، وبادرته بالقول: “خيراً إن شاء الله”، قال: “عيني، أنا من دهوك، وأخذت إجازة، وأريد السفر إلى أهلي، ولا أملك أجرة الطريق، فهل لك أن تساعدني في الوصول إلى بلدي؟” أجبته على الفور: “إن الحرب قد بدأت ولا نعرف نهاية لها، وأنا لا أملك نقوداً تزيد عن حاجتي لكي أعطيك، لكنني أستطيع توصيلك إلى أي مكان في الكويت ترغب في الوصول إليه”.
تغيرت ملامح وجهه، وبشيء من الغضب قال: “شكراً عيني، لقد سئمت الكويت بمن فيها”.
بعد هذا الموقف، صحوت من الحلم الذي صنعته صواريخ صدام الذي أطلقت على “إسرائيل”أثناء الحرب، وإذا بالسراب الذي كان قد أوصلني إلى أرض فلسطين يختفي مرة واحدة أمام جندي يُترك في الكويت عارياً، بلا ماء ولا طعام ولا مواصلات، فكيف له ولأمثاله أن يُحرروا فلسطين.
وفي الحال تذكرت صواريخ عبد الناصر، القاهر والظافر، التي أوصلتنا إلى هذه البلاد، وها هي صواريخ صدام تخرجنا منها إلى المجهول، ونحن الآن بانتظار الجنة التي وعدتنا بها صواريخ القسّام.
جميل حسين عـبود
+ 962 (0) 795 100 661