أرشيف - غير مصنف

المسألة الفلسطينية والقضية اليهودية: المدنية- البرجوازية حين تؤرخ لما قبل النكبة

رشا عبدالله سلامة
 لعل الملمح الأبرز في كتاب “المسألة الفلسطينية والقضية اليهودية” لخالد عبد الرؤوف البيطار، يكاد يكون تفنيد الحقبة الزمنية التي تقلد فيها المفتي أمين الحسيني الزعامة الفلسطينية قبيل النكبة.. تلك الحقبة التي شابتها جدليات متناقضة حتى التطرف؛ بين نفر يخوّن المفتي و يحمله وزر كثير مما آلت إليه المأساة الفلسطينية فيما آخر يمجده ويسبغ عليه هالة القائد المتفاني.
 
المدنية- البرجوازية الفلسطينية حين تؤرخ لحقبة ما قبل النكبة.. لعل ذلك هو التوصيف الأدق لكتاب البيطار الذي تتبع من خلال فصوله ما أطلق عليه “تاريخ ما أهمله التاريخ”، فيما هو في واقع الأمر صب جل جهده و اهتمامه على تحليل تلك المرحلة التي كانت تمسك فيها الفئة المدنية- البرجوازية الفلسطينية بمقاليد الحكم الفلسطيني، تحت ظل العثمانيين، فالانتداب البريطاني.
 
البيطار، الذي اختار لكتابه العنوان الآنف مؤثِراً أن يستخدم مصطلح القضية لليهودية و المسألة للفلسطينية مبررا ذلك بأن الشعب الفلسطيني لديه حقوق مغتصبة و بالتالي فهي مسألة فلسطينية حينها و ليست قضية، جعل من الطابع الشخصي السمة المهيمنة على الكتاب من خلال إفراده صفحات عدة في مقدمة الكتاب و خاتمته لرثاء والده وعمه، ولسوق العتب تارة على تجاهل الموسوعة الفلسطينية لبطولات عائلته والإسهاب تارة أخرى في شرح تلك البطولات والرؤى التي استشرفت مسار القضية الفلسطينية منذ ما قبل النكبة.
 
وفي الوقت الذي دعّم فيه البيطار كتابه بمقالات ووثائق مهمة استقاها من مصادرها إبان رحلة بحثه في القضية الفلسطينية، ولعل من أهمها مقالة الأميركي والتر ت. ستايس المنشورة في العام 1947 في”أتلانتك منثلي” التي جاءت تحت عنوان “الأخدوعة الصهيونية”، فإنه على الطرف النقيض خرج بنتائج لا تعدو كونها انطباعات شخصية بحتة لا تخلو من إجحاف جلي، ولعل منها عبارته “والجدير بالذكر بأن الريف الفلسطيني سيطر على مجريات الأمور منذ العام 1948 فصاعدا وانفرد بسياسته فكان نصيبنا المؤلم من الكوارث والنكبات فادحا”.
 
تلك النتيجة التي خرج بها البيطار تفتح المجال واسعا لتفنيد الادعاء الآنف، ولعل القاعدة الأولى في الرد على ذلك هي الحرص على الوحدة الوطنية لا العزف على أوتار الفرقة التي زرعها الانتداب البريطاني منذ ذلك الحين بين أهالي الريف والمدن الفلسطينية.. اليوم نبحث كفلسطينيين عن عوامل جمع لا تفرقة، فخلافات حركتي فتح وحماس تكفي الشعب الفلسطيني، من غير أن يُنبش على قضية قديمة وهي جدلية الريف- المدينة الذائعة الصيت في المجتمع الفلسطيني. إلى جانب أن من ضاعت فلسطين في عهدهم هم القيادات المدنية لا الريفية التي يرى البيطار أنها جرت النكبات، بل الريفية هي من تسعى حتى اليوم لإصلاح ما اقترفته القيادات المدنية من أخطاء، عدا عن تحملها أعباء المخيمات والثورة والمقاومة المسلحة، فيما جل الشريحة المدنية- البرجوازية الفلسطينية ترقب المأساة عن بعد من قصورها في لندن وجنيف وفينا، معاتبة في الوقت ذاته بأنها لم تعد ممسكة بزمام القرار الفلسطيني كما كان الحال إبان العهد العثماني والانتداب البريطاني !
 
ضبابية اعترت محاولة تحليل القارئ لموقف البيطار من المقاومة والثورة؛ فتارة هو يقول بأن الانفعالية جرت على الفلسطينيين المآسي، ملمحا بذلك للمواجهات المسلحة التي يراها بأنها غير متكافئة، فيما هو في مواقع أخرى في كتابه يمتدح الثائر عز الدين القسام الذي يعد واحدا من أبرز أعلام المقاومة والثورة، إلا إذا كان امتداحه مسخّرا لانتقاد منهجية المفتي أمين الحسيني، حين دعاه القسام للثورة فآثر أن يظل على وفاق مع البريطانيين حفاظا على منصبه.
 
كذلك في إسهاب البيطار في جلد الذات الفلسطينية لعدم تحليها بحسب وصفه بقواعد الدبلوماسية المفترضة سياسيا مع الغرب، فيما هو في مواقع كثيرة في الكتاب ينتقد المفتي أمين الحسيني لتعويله على ألمانيا ومدّه صلات معها إبان الحرب العالمية الثانية، معتبرا أن تعويل العرب عامة على الغرب والأمم المتحدة هو من عوامل مأساتهم سياسيا.
 
برغم التحفظات الآنفة على كتاب البيطار، إلا إنه يعد قيما من نواح عدة؛ أولها تسليطه الضوء على حقبة الحكم العثماني التي يرى بأنها ظُلِمت كثيرا من قِبل العرب، على الرغم من كون هذه النقطة تحديدا تستدعي التنويه إلى تحيز كثير من أبناء الطبقة المدنية – البرجوازية الفلسطينية للعثمانيين لأنهم عززوا من ثراء وتسلط الأغنياء والإقطاعيين على أبناء الريف، إلى جانب كونه ساق للقارئ مقالاته التي كان كتبها في أعقاب النكبة والنكسة وغيرها من المراحل المفصلية في المسيرة الفلسطينية، مبرهنا من خلالها على رؤيته الثاقبة واستشرافه للمستقبل الذي ستؤول إليه السياسة الفلسطينية فيما بعد، إضافة لكونه أعاد الصوت المدني- البرجوازي الفلسطيني إلى الحضور فكريا وإعلاميا بعد اعتكاف دام لأبناء هذه الطبقة منذ النكبة، ما يخلق تنوعا كان مفتقدا نوعا ما في الروايات الفلسطينية التي تتحدث عن المؤامرة الدولية وما أعقبها من فصول لجوء ومجازر ومباحثات سلام وغيرها والتي تعد جلها روايات بحنجرة ريفية -كادحة انخرطت في مأساة المخيمات والكفاح المسلح ومن ثم محاولة بناء الدولة في أعقاب اتفاق أوسلو، ما خوّلها عن أحقية لتصدر المشهد السياسي والفكري على الرغم من وجود حالات استثنائية ظهرت منها إدوارد سعيد وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد وفيصل الحسيني وحنان عشراوي.
 
كتاب البيطار، تماما كما مؤلفات فلسطينية وعربية وعالمية عدة تتناول مسار القضية الفلسطينية، يفرض مناداة حتمية بضرورة تولي جهات تكنوقراطية حيادية وإعلامية مهنية الإشراف العام على تجميع المادة التاريخية الواردة فيها بصورة مهنية بحتة وتوثيقها في مجلدات ضخمة من شأنها توحيد المرجعية وإفساح المجال للأطراف كلها للمساهمة في الرواية الفلسطينية تاريخيا وسياسيا وفكريا تحت مظلة وطنية موحدة، وتحت شعار: لا طبقية ولا فصائلية ولا نرجسية.

زر الذهاب إلى الأعلى