رشا عبدالله سلامة
مثلت الجدلية التي ما تزال محتدمة بين تياريّ الثورة الفلسطينية المسلحة من جهة واتفاق أوسلو الذي تبنى السلام من جهة أخرى، مثلت حجر الرحى ليس في جل اقتتالات البيت الفلسطيني فحسب، بل و في الفيلم الروائي الفلسطيني “المر والرمان” لمخرجته نجوى النجار.
تلك الجدلية لم تكن حاضرة فقط من خلال نقاشات الزوج الأسير الذي يرفض التوقيع والتنازل للمحتل الإسرائيلي وبين الزوجة التي تسعى لإقناعه بالتوقيع كي يتواجد على ما تبقى من أرضه، بل هي انسحبت على حيثيات وتفاصيل عدة منها المباشرة وأخرى الرمزية، كالنزاع بين مدرب الرقصات الشعبية التقليدية والآخر الذي يسعى لإدخال حركات حديثة على لوحات الرقص الفلسطيني، وكذلك في ارتداء ممثلات العمل تصاميما واسعة من الثوب الفلسطيني المطرز، لتطرأ على الفور تصاميم غربية بحتة باتت دارجة في المجتمع الفلسطيني والعربي عموما.
ولعل مُشاهِد “المر والرمان” يلحظ مدى براعة المخرجة في التقاط التفاصيل الداعمة لسيرورة الأحداث، منها اختيار المخرجة لعائلة مسيحية؛ ما منحها مساحة ومرونة أكبر في إيراد تفاصيل حياة الأفراد بعيدا عن البصمات التي لابد من التطرق إليها عند تصوير العائلة المسلمة، كذلك هو الحال في جعل منبت بطل الفيلم مدينة رام الله، فيما البطلة من القدس، ما يرمز ضمنيا للتعايش المفروض على مناطق القدس والأراضي المحتلة في
العام 1948 وهو ما يقود بشكل أسهل لتقبل طروحات أوسلو والتعايش السلمي، بعكس المنخرطين في أجواء فلسطينية خالصة من حيث المناطق القابعة تحت حكم السلطة الفلسطينية (و لو صوريا فقط).
كذلك هو الحال في الأزياء والأطباق والطقوس الاحتفالية والاجتماعية الفلسطينية التي أسهمت أيما إسهام في خلق عمل فلسطيني واقعي يتقارب حتى التطابق مع حيوات جل العائلات الفلسطينية في الوطن المحتل والمنفى.
الواقعية الآنفة ظهرت جلية أيضا من خلال تبني المخرجة لمنهجية الروائي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، في النقاط التالية: فلسطين الأرض هي ذاتها فلسطين الإنسان بخيباته وانكساراته و إحباطاته وآماله وآلامه وعلائقه المتشابكة، وهو ما انسحب على حياة أبطال الفيلم كلهم ومن أبرزهم البطل والبطلة. كذلك الحال في إنزال الإنسان الفلسطيني من برجه العاجي الذي لطالما حشرته به الصورة النمطية الدارجة؛ إذ تمكنت النجار من رصد لحظات الضعف والانزلاق والانحدار لدى الفلسطيني تماما كما لحظات سموه وفرحه وانفعاله، ومن أبرز من تمثل بهم هذا المحور البطلة التي مالت بعواطفها نحو مدرب الرقص بعد أن طالت مدة اعتقال زوجها. ارتكزت كذلك النجار على تأكيد حقيقة أن الشعب الفلسطيني برمته ضحية؛ ففلسطينيو الثورة ضحايا تماما كما أوسلو والمنفى وحتى أولئك الذين لم يولدوا بعد، كل منهم ضحية على طريقته الخاصة، وبحسب ترجمته لحب فلسطين والنضال من أجلها. ثمة مقطع في هذا السياق اقتربت فيه النجار كثيرا من رواية “رجال في الشمس” لكنفاني، عندما صورت حتى تلك السيدة التي لا تملك قيما أخلاقية واضحة (صاحبة المطعم في رام الله) صوّرتها هي الأخرى بالضحية مثل عموم شعبها، لاسيما عندما تنطحت لجنود الاحتلال أثناء اجتياحهم رام الله وحصارهم الفلسطينيين هناك، ومن خلال تخصيص عبارة لها تعد الأهم تقريبا في الفيلم، عندما قالت لجندي الاحتلال “إحكي عربي تحكيش عبري، إنت هون برام الله مش بتل أبيب”، في تلميح واضح لتهافت اتفاقية أوسلو التي قضت بإنشاء دولة فلسطينية غير أنها لم تكن سوى جنين مشوه لا تُراعى له حرمة ولا ينال الاعتراف حتى من قِبل من وقعوا له بذلك.
كذلك في مصارحة النجار مجتمعها الفلسطيني بكثير من عيوبه وتناقضاته والتي من أهمها انتقاده القيود التي يفرضها الاحتلال فيما هو ذاته (المجتمع الفلسطيني) يتفنن في اختلاق قيود تسربل حياة أفراده على النطاق الاجتماعي والعاطفي والجسدي الذي رمزت إليه بالرقص.
في الفيلم دعوة سلمية مبطنة للبيت الفلسطيني الذي افترقت فصائله إلى حد صوب فيه كل منهم فوهة بندقيته نحو الآخر؛ إذ لم تكتف النجار بالترافع عن كلا الطرفين بنفس اللهجة وبنفس الحيز الزمني الذي أفردته لكل منهما، بل من خلال التشديد أيضا على كون كل منهما ضحية للاحتلال وتبعاته القميئة منذ ما يزيد على الستين عاما.. في هذا النطاق تحديدا ثمة عبارات كثيرة قوية طبعت في ذاكرة المشاهد، لعل من أهمها حوار الزوجة وزوجها الأسير، عندما سعت لإقناعه بضرورة التوقيع للتواجد على ما تبقى من أرضه التي صادرها الاحتلال عنوة، ليس استسلاما ولكن يأسا من القرارات الدولية التي ما زال الفلسطينيون يعولون عليها، فيما هو يجيبها بأنه سيخرج من الاعتقال لا محالة ومهما طال الأمد، لكنه لن يقبل بأن يورد التاريخ اسمه كموقع ومتنازل عن أي شبر من الأرض.
النهاية المفتوحة التي ختمت بها النجار فيلمها كانت عندما التقى كلا التيارين (أوسلو والثورة) في نقطة مشتركة بينهما هي حب فلسطين والنضال من أجلها كل على طريقته، مع إعادة تيار المنفى تواجده في الحياة الفلسطينية من خلال قيس الذي عاد ليشغل مدينة الملاهي القديمة التي تركها والده وراءه عند قيام نكبة العام 1948 وهجرتهم إلى لبنان.
“المر والرمان” يستحق كما باقي الأفلام الفلسطينية أن تُفتح له أبواب السينما العربية؛ إذ إن أفلاما ملتزمة ووطنية عميقة كهذه تستحق الأولوية عوضا عن إيلاء الربح المادي الاهتمام الأكبر، إلى جانب كونها خير أداة سينمائية وفنية في يد العرب للترافع عن حقهم في المحافل العالمية، لاسيما مع اكتساح الأفلام الهوليودية والعربية المسمومة للساحة السينمائية ودور العرض عربيا وعالميا واختلاط الغث بالسمين في عقلية المشاهد العربي الذي إما أن يجافي السينما العالمية فلا يعلم مدى خطورتها و لا حجم الدور السلبي الذي أثرت به على القضية الفلسطينية، أو هو يتابعها بنهم من دون التنبه لحقيقة ما يدور في كواليس حواراتها وأحداثها المسمومة، فيغدو عن قصد أو غير قصد داعما لسينما تقف ضد الحق الفلسطيني.
فيلم بميزانية محدودة وقدرات بشرية هائلة ك “المر والرمان” يبرهن للمرة الألف بأن النضال كل لا يتجزأ؛ فالبندقية تتصدى لجبهة، والحجر يتصدى لأخرى، وكذلك الأدب الرفيع والفن المشغول بعناية وبضمير فلسطيني حقيقي.. علّ ذلك كله يتفتق عن خيط نور وسط الظلام الدامس الذي ما يزال يلف مصير الفلسطينيين جميعا، أو كما عبرت عنه النجار عندما آخت بين المر والرمان.