أسامة عبد الرحيم
جرت أحداث هذه المحاكمة تحديداً في مكان ما لم يدنسه بشر، إلا أنه ليس في السماء قطعاً كما انه ليس بطبيعة الحال فوق أديم الأرض.
القاعة تعج بالمظلومين نساء ورجال وحتى الأطفال جاءوا من كل لون وعرق من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، الكل جاء يختصم الظلمة عبر العصور ويقتص لحقه، وفي الحقيقة هي ليست قاعة بالمعنى المتعارف عليه، لأنها منعدمة الجدران وبلا سقف..!
فيما عدا ذلك تشعر داخلك بأن شرفاتها وجدرانها تحوطك من كل جهة، وأن ضوء ليس كضوء الشمس يتخللها فيبدد الظلام والوحشة، ويكسوها مهابة ووقاراً، على أي حال هي قاعة وتشعر انك بداخلها وأنها تحتويك.
بصرك يمتد بين أركانها حتى يصل إلى منصة الحكماء ذات الدرج الطويل، مروراً بقفص المجرمين وحوله عشرات الحراس مفتولي العضلات طويلي القامة ذوى لحى طويلة جداً، بيضاء بلون ملابسهم الزاهية، تعلو وجوههم طيبة ممزوجة بصرامة مفرطة..و..
ترتج القاعة بعبارة مهيبة: محكمة..!
يتابع الصوت منادياً بنفس القوة والصرامة: المظلوم الأول..الشهيد سليمان محمد عبد الحميد خاطر..
يتقدم شاب نقشت ملامحه الشمس بسُمرة ملفتة، يرتدي زى عناصر قوات الأمن المركزي المصري..تنتهي خطواته أمام منصة الحكماء يقف انتباه ويؤدي التحية العسكرية..!!
تخيل الحاضرين أن كبير الحكماء يبتسم للشاب بلطف، إلا أن صرامته الممزوجة ببشرته البيضاء الناصعة تحول بينه وبين أن يفعل ذلك..وبصوت رخيم لم تلتقطه إذن الحاضرين لكن شعروا به.. تكلم كبير الحكماء قائلاً: لا يتعين عليك أن تؤدي التحية العسكرية..أنت لست في الخدمة الآن..!!
قال الشاب مندهشاً: هل هذه الآخرة التي تحدث عنها الأنبياء إذن..؟!
تسرب الصوت قائلاً بانفعال: استغفر الله يا بني أن نكون ما تفكر فيه..هذه ليست أرض المحشر ولا هذا بيوم الحساب..!!
وقبل أن يتابع الشاب تساؤلاته قال الحاجب بصوته المهيب: سليمان محمد عبد الحميد خاطر..أحد عناصر قوات الأمن المركزي المصري..كان يؤدي مدة تجنيده على الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة..عندما أصاب سبعة مغتصبين صهاينة فأرداهم قتلى في الخامس من أكتوبر عام 1985م.
أعطى كبير الحكماء إذنه لإرادة الشعب أن تتكلم فقالت: سيدي كبير الحكماء..الشاب الشهيد الماثل أمامكم الآن منحه أبوه اسم سليمان كما منح جده أبوه اسم محمد، وجده هذا اسمه عبد الحميد ووالده اسمه خاطر..وهو من مواليد قرية أكياد في محافظة الشرقية بمصر، وهو أخر عنقود من خمسة أبناء في أسرة بسيطة أنجبت ولدين وبنتين قبل سليمان.
حدقت إرادة الشعب في عين سليمان ووضعت يدها على كتفه قائلة: في طفولته عاين سليمان آثار قصف الصهاينة لمدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة في 8 ابريل سنة 1970..و قام حينها جبناء سلاح الجو الصهيوني باستخدام طائرات فانتوم الأمريكية، قاموا بنسف المدرسة مخلفين 30 شهيدا من الأطفال.
تابعت إرادة الشعب وهى تلتفت إلى الجمهور : و ربما كانت هذه المشاهد يا سادة من أهم ما أثر في بطلنا الذي كان حينها طفلا في التاسعة من عمره ..
وأضافت وهى ترفع شئ في يدها يشبه قرص الـCD : لدينا هنا تسجيل مرئي أكدت فيه شقيقته في لقاء مع قناة الجزيرة الفضائية أن سليمان جري بسرعة لمشاهدة ما حدث و عاد مذهولاً بما رأي..
وسط إنصات شديد من الجميع..تابعت إرادة الشعب حديثها : بعدها يا سادة التحق سليمان مثل غيره بالخدمة العسكرية الإجبارية..وكان مجند في وزارة الداخلية بقوات الأمن المركزي..وكما هو معروف كان من الصعب على أحد أن يعرفه لولا ما حدث في أخر أيام خدمته في سيناء المحتلة..
وقفت إرادة الشعب أمام منصة الحكماء ولها وجهت حديثها: القصة يا سادة كما نشرت في جريدة الوفد المصرية أنه وفي يوم 5أكتوبر عام 1985م وأثناء قيام سليمان خاطر بنوبة حراسته المعتادة بمنطقة رأس برقة أو رأس برجة بجنوب سيناء..فوجئ بمجموعة من المغتصبين الصهاينة يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته..فحاول منعهم..وأخبرهم بالانجليزية أن هذه المنطقة ممنوع العبور فيها قائلا: stop no passing ..
أردفت إرادة الشعب: إلا أنهم لم يلتزموا بالتعليمات..وواصلوا سيرهم بجوار نقطة الحراسة التي توجد بها أجهزة وأسلحة خاصة..غير مسموح لأي إنسان الاطلاع عليها..فما كان منه إلا أن أطلق عليهم الرصاص..خاصة أن الشمس كانت قد غربت وأصبح من الصعب عليه تحديد لماذا صعد هؤلاء الأجانب وعددهم 12 شخصا الهضبة..!
تسرب صوت كبير الحكماء هادئاً: معنى هذا أن سليمان نفذ الأوامر التي كانت أعطيت له بأن أطلق النار في الهواء أولا للعمل علي منع أي شخص من دخول المنطقة المحظورة ولو بإطلاق النار عليهم..
أكملت إرادة الشعب: تماماً يا سيدي..إلا انه تمت محاكمته عسكريا..وفي خلال التحقيقات معه أكد سليمان بأن أولئك الصهاينة قد تسللوا إلى داخل الحدود المصرية من غير سابق ترخيص..و أنهم رفضوا الاستجابة للتحذيرات بإطلاق النار..
تخيل الجميع أن كبير الحكماء يومئ برأسه إلا انه لم يفعل ذلك، على الأقل لم يشاهده أحد يحرك رأسه لأنه لا توجد له رأس ولا جسد كما هو الحال مثلنا..
تابعة إرادة الشعب : سلم سليمان خاطر نفسه بعد الحادث طواعية..وبدلا من أن يصدر قرار بمكافئته علي قيامه بعمله..صدر قرار من “كبير الشعب” مستغلا سلطاته بموجب قانون الطوارئ بتحويل الشاب إلي محاكمة عسكرية..بدلا من أن يخضع على أكثر تقدير لمحاكمة مدنية..كما هو الحال مع رجال الشرطة بنص الدستور..
حدقت حشود الحاضرين في القاعة إلى قفص المجرمين حيث انكمش من ينعته أعوانه بـ”كبير الشعب”، حاول أن ينسل هارباً حيث أن القفص بلا سياج أو قضبان، إلا أن نظرة واحدة من أحد الحراس جمدت شيئاً ما في عروقه، فتسمر في مكانه ساكناً باستسلام عجيب..
واصلت إرادة الشعب حديثها: بعد هذا يا سادة..طعن محامي سليمان في القرار الجمهوري..وطلب محاكمته أمام قاضيه الطبيعي..وتم رفض الطعن..وأعطيت الصحف “القومية” التعليمات..فأطلقت ضده حملة محمومة ووصفته بـ”المجنون”..
التقطت إرادة الشعب أنفاسها قائلة: الأمر لم ينتهي عند هذا الحد يا سادة..حيث قادت صحف المعارضة حملة..من اجل تحويله إلى محكمة الجنايات بدلا من المحكمة العسكرية..وأقيمت مؤتمرات وندوات..وقدمت بيانات والتماسات إلى رئيس الجمهورية..ولكن عبثاً لم يتم الاستجابة لها..
تابعت إرادة الشعب حديثها بألم وحسرة شديدة: بعد هذا يا سيدي صدر تقرير نفسي بعد فحص سليمان بعد الحادث ادعى أن سليمان “مختل نوعا ما “..وأكد التقرير المزعوم أن السبب في إطلاقه النار أن”الظلام كان يحول مخاوفه إلي أشكال أسطورية خرافية مرعبة تجعله يقفز من الفراش في فزع، وكان الظلام يجعله يتصور أن الأشباح تعيش في قاع الترعة وأنها تخبط الماء بقوة في الليل وهي في طريقها إليه”..!!
صرخ أحد الحاضرين في القاعة: يسقط الطاغية..يسقط العميل..!!
للمرة الثانية يخيل لهم أن كبير الحكماء يتبسم، إلا انه وكما أكدنا لكم قبل ذلك لم يفعل، لأن أحداً لم يشاهده يفعل،لأنه ليس له فم ولا رأس ولا جسد، إلا أن الجميع يقسم يقيناً أنه فعل ذلك..ونحن نقسم معهم انه فعل..!!
أطلق الهتاف الحماس في إرادة الشعب فتابعت : وبناء على رأى أطباء وضباط وقضاة الحكومة، عوقب سليمان لأنهم أثبتوا أن الأشباح التي تخيفه في الظلام اسمها “الصهيونية”..!!
الصوت مرة ثانية: تسقط تسقط إسرائيل..
التفت الجميع دفعة واحدة تجاه كبير الحكماء ظناً منهم أنهم سيشاهدون ابتسامته، إلا أنه خيب ظنهم ولم يفعل هذه المرة ، لأنه وكما أكدنا قبل ذلك ليس له فم أو رأس أو حتى جسد..
تسرب صوت كبير الحكماء هادئاً ومقتضباً: لا أحد يتكلم في القاعة بدون إذن..
ثم أمر إرادة الشعب أن تتابع فأومأت برأسها قائلة:وبعد أن تمت محاكمة سليمان خاطر عسكريا يا سادة، صدر الحكم عليه في 28 ديسمبر عام 1985م بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة 25 عاما ، وتم ترحيله إلي السجن الحربي بمدينة نصر بالقاهرة..
تسرب صوت كبير الحكماء هادئاً ومقتضباً: وماذا تم بعد ذلك..؟!
ضربت إرادة الشعب قبضتها في الهواء قائلة: بعد أن صدر الحكم علي خاطر يا سيدي نقل إلي السجن ومنه إلى مستشفي السجن بدعوي معالجته من البلهارسيا..!
حاولت إرادة الشعب أن تحبس عبراتها..وبصوت مسكون بالألم تابعت: وهناك يا سيدي وفي اليوم التاسع لحبسه..وتحديدا في 7يناير 1986أعلنت الإذاعة ونشرت الصحف خبر.. انتحار..الجندي..سليمان..خاطر..في..ظروف..غامضة!!
خيم الصمت على الحاضرين في القاعة، وتشتت النظرات ما بين منصة الحكماء وبين قفص المجرمين، حيث بذل “كبير الشعب”محاولات مستميتة للإفلات من قبضة الحراس ذوى اللحى البيضاء الطويلة، إلا أنهم ومن فرط قوتهم لم يشعروا مطلقاً بمحاولاته البائسة، ولو كان للخوف قميصاً فان “كبير الشعب”قد ارتدى هذا القميص في هذه اللحظة من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، حتى خيل إليه انه يبول على نفسه ولم يكن يفعل ذلك بالفعل، لأنه ببساطة غير مسموح لمجرم أن يبول على نفسه بدون إذن..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وللقصة بقية نكملها إن شاء الله)
—
أسامة عبد الرحيم
صحفي مصري
Osama Abdul-Rahim
Egyptian Journalist
0020105276035