لم تأتِ أفكار ورؤى البروفيسور الفلسطيني الدكتور مخلص صوان بأقل مما يشي به اسمه الأول..بمزاوجة لافتة بين نمطيّ الشخصية الشرقي والغربي، وبين التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية والدعوة في الوقت ذاته إلى الانفتاح على الغرب.. بين هذا وذاك، كان حديث صوان، الأكاديمي المقدسي، الذي لاينفك ينسج علاقات بين الوضع السياسي في الأرض المحتلة وذلك التكنولوجي والفكري والاجتماعي.. لتكون المحصلة: رؤية ذات فرادة خاصة لفلسطين، بعيون أحد علمائها الذي بات يشار إليه بالبنان في المحافل التكنولوجية العالمية وتحديدا في حقل ما يسمى بــ «النانو تكنولوجي».
يرفض تسمية الضفة الغربية عند تصنيف مختبر «النانو تكنولوجي» الذي أسسه قبل ثلاثة أعوام، مستبدلا الاسم بفلسطين عند قوله «بل هو الأول لدى العرب في فلسطين».
حرية مطلقة في حقل البحث العلمي هي تلك التي تلقاها صوان من رئيس جامعة القدس في القدس الشرقية، الجامعة العربية الوحيدة في محيط مدينة القدس، الدكتور سري نسيبة. بيد أن تلك الحرية لم تطل الجانب التمويلي؛ إذ بدأ صوان من الصفر في تأسيسه المختبر الأول في ظل عدم توافر الدعم المادي من قِبل الجامعة لقسوة الظروف في ظل الاحتلال، ولا من قِبل دول عربية أخرى..
بالإصرار، وبكتابة أبحاث أرسلها إلى دول غربية لبرهنة استحقاق الدعم المالي، تم لصوان ما أراد؛ إذ منحته ألمانيا وفرنسا تمويلا لإنشاء النواة الأولى لمختبره الذي بات يوازي تجهيزات مختبرات «النانو تكنولوجي» الإسرائيلية والعالمية، كما غدا ملتقى لكفاءات أجنبية تأتي للاطلاع على التجربة عن كثب.
صوان، الذي تلقى تعليمه الجامعي في الأردن متبعا إياه بدرجة الدكتوراه من الجامعة العبرية في القدس، يشرع أبواب مختبره لكل من يود الاستزادة من تجربة «النانو تكنولوجي» الفلسطينية، وهو العلم المعني بدراسة خواص المواد على مستوى متناهي الصغر هو النانو متر، سواء كان المهتمون من جهات علمية وأكاديمية أو إعلامية أو من العامة، مانحا وقتا وجهدا وافرا للشرح عن أهمية التجربة.. تماما كما هو يواظب على كتابة مقالات صحفية عدة يسهب فيها بالحديث عن ريادة التجربة برغم كل المعيقات التي يزرعها الاحتلال الإسرائيلي، كالتضييق على إدخال المعدات اللازمة للمختبر أو منع إدخالها في بعض الأحيان.
ولا يقف صوان، الذي تتصدر أبحاثه أغلفة مطبوعات بحثية عالمية منها «نيتشر ماتيريلز»، لا يقف عند قسوة الاحتلال الإسرائيلي على المسيرة العلمية الفلسطينية وحسب؛ بل يضع إصبعه على مواقع اعتلال كثيرة في الجسد الفلسطيني العلمي، متحدثا عن غياب ثقافة البحث العلمي لدى الطلبة على الرغم من «خامتهم الممتازة»، إلا أن «المنهج التلقيني» الذي يسم دراستهم يسهم من وجهة نظر صوان في إعاقة «عملية التفكير والتساؤل» المفترض تواجدها كبذرة لمسيرة البحث.
كذلك هي الحال في غياب مرحلة «ما بعد درجة الدكتوراه»، التي هي وفق صوان مرحلة غاية في الأهمية لــ «بلورة الأفكار العلمية التي تمت دراستها في الدكتوراه»، مقترحا جعل هذه المرحلة إلزامية لتعيين الأكاديميين في الجامعات الفلسطينية والعربية، عوضا عن ما هو حاصل حاليا من «تسابق كثير من الأكاديميين على المناصب الإدارية وسقوطهم في فخ البيروقراطية»، وفقا لما يقول.
خطة مدروسة لمشروع «النانو تكنولوجي» العربي، هي ما ينادي به صوان حاليا على هيئة ما يقترح تسميته بــ «المبادرة العربية للنانو تكنولوجي»، على غرار تلك الأميركية والأوروبية والإسرائيلية المدشنة في هذا القطاع العلمي. يوضح «لا بد من ترسيم خارطة طريق عربية في النانو تكنولوجي تتم فيها صياغة الأولويات والأهداف مع إعطاء سقف زمني مدته عشرة أعوام لتحقيق ذلك، وإلا فستبقى مجرد مبادرات فردية لا أكثر». ويلفت صوان إلى ضرورة التكامل والتعاون بين الدول العربية التي يتوافر لديها التمويل مع غياب للكوادر، فيما أخرى ينقصها التمويل وتتوافر فيها الكوادر، بينما ثالثة تفتقر للشقين الآنفين معا.
شجون كثيرة تعتمل في صدر صوان في هذا السياق؛ إذ يقول «العربي لا يعطي الأولوية لشقيقه العربي، بل الغربي»، على الرغم من كون عطاء العربي سيفوق الغربي في جل الحالات، وفق صوان الذي يبرر اعتقاده قائلا «لست ضد الاستثمار مع الغربي، بيد أن الأساس هو الاستثمار مع ابن الوطن والأقطار العربية؛ ذلك أن الغربي قلما يمنح البحث العلمي سنوات طويلة من الاغتراب في الدول العربية، بعكس الشقيق العربي، ما سينعكس حتما على جودة المُخرَج العلمي».
ويعدد صوان في هذا السياق أولويات عدة لابد وأن تتبادر لأذهان القائمين على مشاريع «النانو تكنولوجي» في العالم العربي، ومنها تلك المتعلقة بحقول الطاقة والبيئة وتنقية مياه الشرب والصيدلة والمجسات، ليحذو العالم العربي بعدها حذو الغربي الذي طالت تطبيقاته في «النانو تكنولوجي» مجالات مبتكرة كثيرة منها الكيماويات والإلكترونيات وحتى صناعة السينما، وفقا لصوان.
وكان صوان قد حصل على براءة اختراع لاحقا، بعد تطويره جسيمات لأجل دراستها ومن ثم استخدامها في تطبيقات كعلاج السرطان، عن طريق تحميلها بأدوية قادرة على قتل الخلايا السرطانية وتدميرها وحدها دونا عن باقي الخلايا، إلى جانب تصنيع مجسات بيولوجية متناهية الصغر. وينوه في هذا المقام إلى الفرق بين علاج السرطان وبين العمل على تطوير نظام علمي من شأنه الإسهام في علاج السرطان، وهو ما عمل ولايزال عليه صوان وفريق بحثه الذي تخرج منه عشرة طلبة، فيما اثنان منهم يعكفان حاليا على دراسة الدكتوراه في حقل «النانو تكنولوجي»، مع استيعاب مزيد من الطلبة الجدد تباعا.
صوان، الذي رفض عروضا عدة للعمل في الغرب؛ كي يتفرغ لإرساء قواعد علم «النانو تكنولوجي» لشعبه الفلسطيني، يملك فلسفة خاصة لمفهوم الوطنية؛ إذ هو في الوقت الذي يصب فيه جل جهده ووقته لتقوية الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما في المجالات التكنولوجية وعلى رأسها «النانو تكنولوجي»، فإنه في الوقت ذاته كثيرا ما يستأجر مختبرات في الجامعات الإسرائيلية لإجراء تجاربه هناك وللتدرب على تلك الأجهزة العلمية الموجودة لديهم، ليكون قادرا بالتالي على تدريب طلبته عليها وتلقينهم خلاصة ما وصل إليه الإسرائيليون في هذا الحقل.
انفعالات متضاربة أحيانا ترتسم على محيا صوان، الذي توفي والده بينما كان عمره ثلاثة عشر ربيعا لتكمل والدته مسيرة تنشئته وإخوته الستة، تتضارب بين عاطفة جياشة حيال كل ما هو مرتبط بفلسطين من بحرها إلى نهرها ومن جليلها إلى نقبها، وبين منهجه العلمي والعقلاني البحت الذي لا يلبث أن يطرأ في تعاطيه الاجتماعي والمهني مع من حوله، مؤثِرا حتى ألا يتوغل في أي مشهد وداعي يفصل بين الوطن المحتل والمنفى البعيد.. رغم جدلية الأخيرين في تحديد مساره المهني الذي اجترحه منذ تأسيسه مختبر «النانو تكنولوجي» الأول فلسطينيا، وربما عربيا أيضا.