باتريك مارتين، المحلل السياسي ومراسل صحيفة ذي كلوب أند ميل الكندية، ربما يكون الصحفي الأجنبي الوحيد الذي دخل الموصل من دون أن ترافقه القوات الأميركية. لم يكن برفقته إلا سائق السيارة التي تنقل بها من مكان خطر إلى مكان خطر آخر في شمالي البلد، إضافة الى المترجم. لم يكن مارتين جديداً على الحال العراقية، أو من قبلها على “الحال العربية”. كانت بدايته مع الشرق الأوسط قبل 20 سنة، عندما اعتلى متن دراجة بخارية، أمضى بها رحلة مسافات طويلة، عبر الكثير من أراضي دول شمال أفريقيا. ومنذ ذلك الوقت، وهو مفتون بسحر تاريخ المنطقة العربية، ومنشدّ إلى متابعة سياساتها، وتحولات مجتمعاتها، مما يعني في هذه الخلفية التي تفضي بها الصحيفة أن الرجل عارف بشؤون الشرق الأوسط. ويشغل مارتين الآن مدير مكتب الشرق الأوسط لصحيفة ذي كلوب أند ميل، وزيارته الحالية للعراق هي الرابعة، بعد زيارته الأولى سنة 2004، ليكتب سلسلة تقارير، يمكن أن تسفر في النهاية عن كتاب جديد له ربما يحمل عنواناً، يشير هو إليه في ثنايا تقريره هذا الذي كتبه من الموصل “بلد خارج من الحرب”. قال للسائق: ((نحن الآن بأمان، كما أظن))..فأجابه: ((أستطيع من هنا أنْ أرى علمنا))..ألوان الأحمر، والأبيض، والأخضر، وبشمس صفراء برّاقة في الوسط. كان ظهور العلم –كما يقول مراسل الصحيفة الكندية- أشبه بحملة إغاثة ضخمة لاحت للسائق الكردي، وللمترجم شيرزاد. ويشير مارتين الى أن الموصل –وكان مرافقاه الكرديان يذكرانه دائما- هي المكان الأكثر خطورة في العراق حتى الآن. وفي نهاية مطاف سيرنا الطويل جعلناها الآن خلف ظهورنا. وعندما كانت الموصل ذات يوم مركزاً ثقافياً وتجارياً لكامل المنطقة، كان المفترض أن تكون جزءاً من سوريا الحديثة (سوريا اليوم) لكن البريطانيين غيّروا الخريطة، وتسلموا مسؤولية المدينة سنة 1918، كجزء من قرار عصبة الأمم انتداب “بريطانيا العظمى” آنذاك على بلاد ما بين النهرين. أما اليوم فإن أحياءها الجميلة المنتمية بطراز أبنيتها الى حقب سحيقة في القدم، والتي كانت تحمل عبق التاريخ والحضارات العراقية المتناسلة، باتت مشاهد يومية لتفجيرات متلاحقة، ولعمليات اغتيال، وقتل، ومداهمات، وتهجير، وتهديد دائم بانفجار التوتر بين سكانها العرب السنة وبين أقليتها الكردية التي تدعمها قوات أمنية، وميليشيات البيشمركة القويّة. يقول مارتين: ما إنْ اقتربنا من المدينة التي جئناها من الشرق، حتى كان الشيخ الذي خططنا لزيارته قد أحضر شاحنة بيشمركة (مسلحو الميليشيات الكردية التقليدية) لمرافقتنا خلال بقية الطريق الذي يأخذ مساره بموازاة الطريق السريع. وكانت صفارات الإنذار وفلاشات الضوء تنذر بخطورة الاقتراب منّا، كأننا في موكب رسمي، إذ كل من حولنا يجارينا في إفساح الطريق، وكانت الشاحنة البيشمركية قد أجبرت السواق الآخرين –بحسب تعبير الصحفي الكندي- الى التحرك نحو جادة الطريق اليمنى، وترك هذا الزائر “المهم” وحاشيته القوية يمرّون!!. وفي نهاية المطاف –يتابع باتريك مارتين حديثه- اعتقدت لأول وهلة أننا جميعاً سنقتل في حادثة مرور، بدلاً من قنبلة طريق، أو هجوم مسلح بالبنادق. ولكننا نهبنا الأرض نهباً لمسافة 20 كيلومتراً قطعناها في زمن قياسي. وبسبب شاحنة البيشمركة التي ترافقنا، لم يكن لزاماً علينا أن نصطف مع المصطفين في نقاط التفتيش، وبقينا على هذا المنوال “كبطات ساكنات” طوال الطريق!. ويشدّد مارتين على القول: أنا دائماً أكره قيادة السيارة برفقة حراس مسلحين أو عسكريين، وأتجنب أن أعمل ذلك، أو أقبل به أينما أكون. لكنهم أقنعوني بقولهم ((من أجل أن نحميك))..إنهم في الحقيقة وبشكل غير متعمد يعزلونني عن أولئك الناس، وتلك الأماكن التي جئت من أجل أن أكتب تقاريري الصحفية على لسانهم أو عما أراه في الأماكن التي أمر بها على الطبيعة. وليس ذلك فقط، إنما حسبت أنهم بهذه الطريقة سيجعلونني “علماً في رأسه نار” يؤشر من بعيد لأولئك الذين ينتظرون قتل مثلي أو اختطافه. لكن الحال بالمواصفات التي أتحدث عنها، لا تمنحني أية فرصة للاختيار. سائقي والمترجم، وهما كرديان مجرّبان جديران بالثقة، قالا إنهما لا يرغبان بأخذي الى الموصل، ما لم أكن قد قبلت اتباع الإرشادات التي أسداها لي رجل كنا ذاهبين لمقابلته!. لقد عزمت على المجيء الى الموصل –يقول مارتين- لأكتشف بنفسي، ما تكون عليه الحال فيها. لقد عرفنا من قبل أن القوات الكردية قد احتلت جزءاً من المدينة، أو أجزاء من المحافظة منذ سنة 2003 في أعقاب انهيار نظام الرئيس السابق صدام حسين. لكنّ الأكراد يزعمون الآن أن الكثير من محافظة نينوى جزء من كردستان، وأن الأغلبية العربية في الموصل، انتخبت حكومة محلية على نطاق المحافظة، والتي طلبت من الأكراد الخروج من المدينة. وقد عرفنا أيضا أن هناك نحو 100 شخص يقتلون شهرياً. وقد حدث هذا في الموصل على مدى الأشهر الثلاثة الماضية. ولسوء الحظ، فإن الشيخ الذي قصدت زيارته، والموجود في مكان محمي بكثافة في الموصل، كان يبعد عنا بما يساوي المسافة التي قطعناها في يوم رحلتنا. الرجل الذي كان يقود جنود البيشمركة، رفض السماح لنا الانطلاق بسيارتنا لوحدنا في هذه المدينة (التي تعتبر إغاثة لميران وشيرزاد) السائق والمترجم، بل إنه رفض أن يصاحبنا أي من رجاله. وكان رأيه واضحاً، بأنه سيوقفني بالقوة، إذا ما حاولت دخول المدينة لوحدي. وحذر قائلاً: ((إنها خطرة جداً وبشكل كامل)). وأضاف: ((البارحة فقط، جرى اغتيال ثلاثة أشخاص))، ثم سحب وثيقة تلخص عملية مقتل جندي بقنبلة طريق، وإعدام شرطي، وإمام جامع. وشدّد على القول: ((أنت لا تستطيع أن تثق حتى بالشرطة العراقية، أو بجنود الجيش العراقي)) قال ذلك، مصراً على أن الكثيرين منهم كانت لهم روابط بالعصابات أو مجموعات الإرهاب، حسب تعبيره!. وتابع مسؤول البيشمركة تحذيراته المشوبة بـ”تفظيع الموقف” قائلاً: ((سيوقفونك في نقطة تفتيش؛ ثم يعلمون الآخرين أنك في الطريق إليهم)). أي أنّ الجنود أو أفراد الشرطة التابعين للحكومة سيبيعون الصحفي الكندي، أو يهدون رقبته للإرهابيين. وكان في حسابي أن الاحتمالات يمكن أن تكون أقل مستوى من أنْ أهاجم على الرغم من أنني لابد أن أعترف أنني كنت قد سمعت في اليوم السابق أن 4 أشخاص قتلوا في كركوك على مبعدة ساعة من مكاننا. وبضمن الأربعة صحفي عراقي، مصور لفضائية محلية. لقد قُتل بإطلاقات من مسدس كاتم صوت، ولم يكن ذلك بالطبع عملاً لعناصر “غير ناضجة” أي أنه إما نتاج أفعال عصابات، أو عناصر مجموعة إرهابية. وثمة صحفي آخر رأيته في جانب من طريق سعيي للقاء بشيخ الموصل، قال إنه تعرّض ثلاث مرات للقتل من قبل أشخاص لا يعرفهم خلال السنتين الماضيتين. وفقط الله وحدة أنقذه من الموت، متجهاً بالإيماء الى السماء. ونصحني قائلاً: ((لا تفعلها، وتذهب))!. ولهذا بعد لقاء توصيات طويل عريض، بشأن الانتشار ووجهات النظر السياسية، دعانا الشيخ الى غداء فاخر، وأمر من يرافقنا، لنعود من حيث جئنا. وفي هذا الوقت أرسل سيارته الشخصية محملة بالبيشمركة، فيما ركب أحد المسلحين معنا. ولم نسمع في هذه المرة صفير إنذار المارّة، ولا تلك الفلاشات المحذرة، ولم نكن نمضي في طريقنا بالسرعة نفسها، ونحن ندلف الى مدينة الموصل، وفي الحال وجدنا أنفسنا، متراصفين وسط نضيد من السيارات في نقطة التفتيش. ثم رأينا أحد أفراد البيشمركة ينزلون من سيارة كانت أمامنا، ويلوّحون بأذرعهم وبنادقهم في ما حولنا إلى أن كانت السيارات التي تسبقنا قد أخذت جانب اليمين، فاسحة الطريقة. وبدا لنا أن رجال البيشمركة لم يكونوا أهدافاً سهلة. وإذا وصلنا الى نقطة التفتيش الذي كان العلم الكردي يرفرف أمامها مرحباً بعلمنا الكردي –بتعبير مارتين- سألنا جندي في البيشمركة من أي مكان جئنا. أجابه ميران ((من الموصل)) واختلطت نبرته بتلميح بالفخر. لكن الجندي سألنا غير مصدق ((أحقاً ذلك؟)). قال ميران: ((نعم من الموصل)).