شريف سالم
وسائل الإعلام الأمريكية : هل هي سلطة رابعة أم أكثر؟
لا توجد سلطة , ليس في الولايات المتحدة فحسب , وإنما على وجه الأرض أعظم من تلك السلطة التي يتمتع بها حفنة من المتنفذين في وسائل الإعلام في الولايات المتحدة . قد لا تصل السلطة الأمنية بعض المواطنين في بعض الحالات, ولكن أحداً لا يستطيع الفرار من سلطة الإعلام, فهي تدخل كل بيت وعلى مدار الساعة. فمن خلال هذه الوسائل تتم صياغة الأشكال والقوالب الفكرية لكل مواطن هناك , حيث تقوم بتشكيل الرأي العام كيفما تشاء.
تقوم وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة من صحف وتلفزيون وإذاعات ومجلات ….الخ برسم الصورة المراد تقديمها للعالم, ثم تقول للناس كيف يجب أن يتعاملوا مع تلك الصورة. إن كل ما يعرفه المواطن الأمريكي – او يعتقد انه يعرفه – عن العالم من حوله يأتي بشكل أساسي من وسائل الإعلام تلك .
من المؤكد أن وسائل الإعلام تلك تقوم بدور أخطر في حالة الصراع العسكري , فمن مهامها أنها تقوم بتحويل الانكسارات والإخفاقات العسكرية إلى انتصاراتوتقوم كذلك بعرض مشاهد الجنود والطائرات والدبابات وهي تطلق القذائف والأعيرة النارية فقط , أما مشاهد القتلى والجرحى والخسائر المادية فلا يرى منها شيئا بحجةمراعاة مشاعر المشاهدين . من حق المشاهد المستهدف من عمليات الخداع هذه أن يتساءل , أين كانت مشاعر الناس من مشاهد القتل التي اقترفت ضد الإنسان العربي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت الأنقاض وأين كانت مشاعره من وجهة نظر وسائل الإعلام تلك عندما قامت بعرض مشاهد إعدام صدام حسين وصحبه عندما راحت تكرر عرضها على شاشاتها صباح مساء؟
تقول مجلة “الطليعة الوطنية” الأمريكية في تقرير لها صدر سنة 2004 وعلى لسان أحد كتابها كيفن ستورم مايلي: تتعاطى وسائل الإعلام الأمريكية مع أخبار وقضايا الشرق الأوسط على سبيل المثال , بطريقة منحازة وبشكل فاضح . حيث يقوم بعض المحررين او المعلقين, مثلا ً, بزج عبارات التأييد لاسرائيل في سياق كلامهم بشكل سخيف وممجوج , في حين نراهم يلتزمون الحياد عند ذكر الأطراف الأخرى . إنني أجزم انه لا يوجد شخص لديه الجرأة الكافية ليقول للناس أن حكومة الولايات المتحدة تقف في الجانب الخطأ فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي , وليس هناك من لديه الجرأة على البوح بأن أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 خدمت المصالح الاسرئيلية واليهودية في منطقة الشرق الأوسط إضافة إلى بعض المصالح الأمريكية , لذلك تم إرسال قوات إلى العراق لحماية مصالح إسرائيل الحيوية فيالشرق الأوسط . جميع وسائل الإعلام تلك تتحدث بصوت واحد وبسياسة واحدة وكل واحدة تساند الأخرى في صناعة وتوجيه الرأي العام في الولايات المتحدة.
من وحي تجربتي الشخصية, وإثناء وجودي في الولايات المتحدة لعدة سنوات, تسنى لي التعرف عن قرب على فئـات عديدة وشرائح مختلفة من أفراد الشعب الأمريكي. لا أُنكر إنني كنت أتعمد إثارة قضايا محددة مثل الصراع العربي الإسرائيلي, والحرب على العراق, والإسلام والمسلمين ومواقف الإدارة الأمريكية وسياساتـها تجـــاه تلك المسائل. لقد تعرضت لمواقف وأراء مختلفة وعديدة ساهمت فـي صياغة تصور خاص عن الذهنية الأمريكية وأسلوب التفكير لدى أفراد الشعب الأمريكي .
سألتني سيدة أمريكية ذات يوم, وقد كانت على قدر معقول من المعرفة والثقافة, “…هل شعرت بصدمة الحداثة عند مجيئك إلى هنا ؟” .. الحقيقة إن سؤالها قد استفزني إلى حد ما. …قلت لها ما الذي جعلك تسألين هذا السؤال سيدتي..أجابت بحذر ” إنني أسمع أن الناس في بلادكم لا زالوا يستخدمون الجمال. بعد برهة من الصمت, قلت لها هذا صحيح, نستخدم الجمال والخيل وسائر المخلوقات التي سخرها الله, تماما كما تستخدموها انتم هنا في أمريكيا وكما تستخدمها باقي أمم الأرض في أوروبا واستراليا وغيرها.
شعرت من ابتسامتها المصطنعة بان إجابتي لم تكن ما قصدته من سؤالها فاستطردتُ قائلاً… بالإضافة إلى ذلك فإننا نستخدم الطائرات والسيارات والبواخر وكل وسائل النقل الحضارية الأخرى , وبالمناسبة فان نسبة مستخدمي جهاز الحاسوب (الكمبيوتر) في بلادي تضاهي نسبته هنا إن لم تزيد . فرّدت باستهجان ” هل هذا صحيـح..؟ إنني لم أكن اعرف ذلك على الإطلاق, وأردفت قائلةً…إنني اسحب سؤالي… واعتذر . وقبل أن أغادر المكان قلت لها الحق…الحق أنني شعرت بصدمة عندما جئت إلى هذه البلاد, ولكنها صدمة من نوع أخر ابتسمت ولم تعلق…أظن أنها أدركت مقصدي من ذلك .
تؤكد هذه الحكاية على بساطتها الصورة النمطية في التفكير عند المجتمع الأمريكي بشكل عام , وتدلل على مدى وعي المواطن الأمريكي ومعرفته بالعالم الخارجي . في النهاية , بـتُ على قناعة تامة بأمرين هامين في هذا السياق , أولهما أن الإعلام الأمريكي ومواقف الساسة الأمريكان , وبما يُعرف عنهما , هما المصدران , وربما الوحيدان اللذان يسهمان في تكوين الرأي العام في الولايات المتحدة , وثانيهما أن الشعب الأمريكي يفتقد إلى الدراية والوعي بحقيقة ما يدور في العالم من حوله وان الوقت قد حان لكي يدرك أن العالم ليس الولايات الخمسين فقط , بل هناك شعوبا وحضارات وقارات ودول تعيش على هذا الكوكب تماما كالولايات المتحدة لها نفس الحقوق التي أقرتها قوانين السماء قبل أن تقرها قوانين الأرض
يقول البروفيسور آرثر شلزنجر/ جامعة نيويورك في هذا الصدد , ” لم تكن الولايات المتحدة نظاماً انعزاليا فيما يتعلق بالاقتصاد والتجارة , فالسفن التجارية كانت ولا زالت تذرع عرض البحور السبعة في العالم , ولم تكن نظاماً انعزالياً في الميدان الثقافي والمعرفي ,فالكتَاب والفنانين والمفكرين يجوبون أنحاء الأرض منذ القدم , ولكن التاريخ يؤكد أنها مارست دورا انعزاليا فيما يخص السياسة الخارجية عبر تاريخها منذ حقبة التأسيس وحتى اليوم” .
لا نريد أن نحمّل ما قاله آرثر أكثر مما يحتمل , ولكن من المؤكد أن أي دور انعزالي يمارسه أي نظام سياسي , ينسحب بالضرورة على الإعلام ووسائله المختلفة وهذا ما أظنه يحدث في الولايات المتحدة على وجه الخصوص .
في الحلقة القادة: الجذور التاريخية للنظام العالمي الجديد