أرشيف - غير مصنف

لبنــان والفهم المختل للديمقراطية

د. محمد احمد النابلسي
رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية
بداية الفهم المختل والعلاقات الخطيرة مع المنطق في لبنـان تنطلق من سذاجة المطابقة بين الديمقراطية والانتخابات. ويتضاعف إختلال الفهم عندما تنسب الانتخابات اللبنانية الى الديمقراطية وينسب النظام اللبناني بدوره اليها. فهذا النظام هو علانية نظام توافقي ويمكن لفئة الأقليات المختلفة فيه تعطيل عجلته السياسية ان هي نبذت حراكه السياسي. وعليه فان الفهم المختل وحده هو الذي يتحدث عن أكثرية وأقلية في ظل مثل هذا النظام. أما الانتخابات ونتائجها وأكثريتها فهي مجرد ممارسة سياسيةز وهي في لبنان ليست مجرد ممارسة من هذا النوع لان محركاتها لا علاقة لها بالسياسة البتة.
فمنذ العام 2005 ،ولا ننسى ما قبله، كانت العوامل الموصلة الى اللوحة الزرقاء هي خليط من توازنات العامل الخارجي والمال السياسي والرشوة والتسويق الإعلامي وتوزيع الدوائر. واضيف اليها بدءاً من 2005 شرط الخضوع الكلي لمشيئة الجهة المتبنية الترشيح ومعه الشحن الطائفي والمذهبي والشحن المضاد.
البعض يقول ان انتخابات 2009 اسوأ الانتخابات في تاريخ لبنان ونصر على كون انتخابات 2005 أسوأ منها. ويكفينا ما وصل اليه البلد للدلالة على ذلك.
هذه المقدمة قد تساعد على فهم صعوبات التشكيل والتأليف وعلى التذكير بان الدمقراطية التوافقية ليست ديمقراطية أكثرية اذا ما أصرينا على تسميتها ديمقراطية.
وبالعودة لتشكيل الحكومة نذكر ان رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري لدى اعتذاره الاول برر اعتذاره بما سماه ‘رفض الابتزاز’ من الفريق الخاسر الذي يريد أن يفرض إرادته على الفريق الذي فاز في الانتخابات. وهذه مقولة أكثر من تكرارها أعضاء تحالف ‘الأغلبية’ في البرلمان اللبناني، بمن فيهم وليد جنبلاط قبل أن يكفر بدوره بهذه الأغلبية. ولم يقصر في ترداد المقولة منوبون مستبعدون يهمه تأكيد العلاقة بين السياسة وانتخابات فازوا فيها يوم أمطرت السماء دماً وفضة.
وجاء التكليف الثاني ومعه موقف جنبلاط العائد لممارسة الحنين الى الأصول ورئيس مكلف أقل قابلية للحرد في فرنسا وعواطف وطنية بتسهيل التشكيل لتجنيب البلد الفراغ الحكومي. وعواطف من نوع آخر لدى البعض ومنهم شخصية “صوفيا” صديقة السنيورة في “أربت تنحل”. وهؤلاء يرديون حكومة لأسباب أخرى أهمها الخلاص من ضرائب وفذلكات ووطنية السنيورة. ليبقى جعجع رمزاً لفئة القادة اللبنانيين ممن يرون أن العملية الديمقراطية تعني إطلاق يد الفائز ليتبنى ما شاء من السياسات دون الرجوع إلى مرجعية أخرى. وهذا الأمر يصح إلا في الديمقراطيات المستقرة، لأن معظم مواضيع الخلاف الكبرى تكون قد حسمت سلفاً. ولكن حتى هنا فإن ‘الفريق الفائز’ لا يسعه أن يتجاهل تماماً موقف ومصالح الآخرين، وإلا لما واجه باراك أوباما الذي انتخب بأغلبية كاسحة وسند شعبي كبير، إضافة إلى سيطرة حزبه الكاملة على مجلسي الكونغرس، ما يواجه اليوم من صعوبات في تمرير برنامجه لإعادة صياغة نظام التأمين الصحي.
ولبنان كما هو مؤكد لا يحسب على الديمقراطيات المستقرة، وهو فوق ذلك ديمقراطية توافقية تتمتع فيها فئات عدة بحق الفيتو على سياسات الدولة. وبهذا المنطق فإنه لا بد من استرضاء كافة الأطراف المعنية عند اتخاذ القرارات الكبرى وإلا اختل التوازن وإستحال التأليف الحكومي.
ولعل لبنان البلد الوحيد في هذا العالم الذي تصل توفقيته الى حدود التحديد المسبق لطوائف الرؤساء الثلاثة. كما لا توجد في العالم ديمقراطية يكون فيها رئيس الوزراء المكلف فيها أجنبي الجنسية والولاء والموطن. ومجرد حامل لجنسية البلد.
إذن الحديث عن ‘إلغاء نتيجة الانتخابات’ عبر التوافق والقبول بمطالب الأطراف السياسية الأخرى يغفل تماماً أن الانتخابات في لبنان لا تقدم ولا تؤخر، ونتيجتها ملغاة مسبقاً بالاشتراطات الطائفية. ولا يمكن أن يصر رئيس وزراء سمي لأنه سني من قبل رئيس لابد أن يكون مارونياً على رفض اشتراطات الطائفة الشيعية بحجة أنها افتئات على الديمقراطية وقلب لنتيجة الانتخابات!.
إنها المحاصصة الطائفية بل وداخل الطائفية ومعها برلمان لا يجد أسوا منه سوى لبرلمان الذي سبقه. وهي وقائع تفرض على الجميع الاعتراف بالواقع القائم والتعامل معه، وهو واقع المحاصصة الطائفية. فإذا ما أحس الرئيس المكلف بضآلة حصته واضطراره للتنازل فعليه ان يتذكر ان العيب ليس في الطائفة السنية ولا في الطائف أو الدستور او التدخلات الاقليمية. فبمراجعة رؤساء الوزراء السابقين نجد انهم كانوا بعيدين كل البعد عن هذه الشكاوى باستثناء المتسللين من باب المال السياسي أو من باب خيانة طائفتهم في أجواء محاصصة طائفية.
الرئيس المكلف هو الذي أطلق عبر منوبيه وباوامر خارجية مسبقة سراح قاتل الزعيم السني النادر رشيد كرامي. وها هو يدفع اليوم ثمن ذلك حيث القاتل يشكل العقدة الرئيسية امام التأليف. والرئيس المكلف هو الذي إنقاد لنصيحة استبعاد وجهاء الطائفة وزعاماتها عن تقبل التعازي بوالده الفقيد. واستعاض عنهم بمن لم يمهله حتى لابتلاع انفاسه. وكافأ منظمي المهرجان البديل للجنازة مكافآت تراوحت ما بين سندويش البهبرغر والمقعد النيابي وبينهم مكافآت الفساد التي ستدفع الطائفة أثمانها لاحقاً.
وفي غياب شروط الديمقراطية واهمها التوافق المسبق بين أطياف الأمة حول الثوابت، فإن الأمر في لبنان لا يتعلق بأمة أو دولة، بل ب ‘طوائف متحدة’ تنظم أمورها بحسب مفاوضات تشبه المفاوضات بين الدول المستقلة. وذلك من ميثاق 1943 حتى اتفاق الدوحة مروراً باتفاق الطائف.
بناء على ما تقدم فان النصيحة الممكنة للرئيس المكلف هي العودة الى طائفته والخلاص من ادران ممارسات وانتخابات ما بعد اغتيال والده. وعندها فقط يمكنه محاولة التأليف. فالحكومة التي قد ينتجها في الظروف الحالية قد تجعله رئيس حكومة سابق ولا شيء غير ذلك.
 

زر الذهاب إلى الأعلى