أسامة عبد الرحيم
– أخذ الجميع أماكنهم ثانية في سرعة عجيبة..
لا يعرف احد كيف جاءوا أو من استدعاهم..
كل ما تمكنوا من معرفته أنهم في قاعة محكمة شيدتها يد الرهبة..
كيف تشكلت..لا أحد يعلم..
ومن أذن لها بمحاسبة المجرمين..
أيضاً لا أحد يعلم..
المهم أن الكل موجود في هذه القاعة..
التى لا سقف لها ولا جدران..
وليست فوق وسادة الأرض ولا تحت غطاء السماء..
ترتج القاعة مرة أخرى بعبارة مهيبة: محكمة..!
يتابع الصوت بنفس القوة والصرامة : الحكماء ينظرون قضية الشهيد سليمان محمد عبد الحميد خاطر..ضد “كبير الشعب”..
سكت قليلاً ثم قال : تأمر هيئة الحكماء الشاهدة (أم عاصم) شقيقة الشهيد بصعود منصة الشهادة..
يتلفت الحضور بحثاً عن شقيقة الشهيد.. إلى أن خرجت من بين الحاضرين سيدة في عقدها الثالث متشحة بالحداد..وصعدت الدرج المؤدي إلى منصة الشهود ..
نظرت أم عاصم تجاه الحكماء قائلة: أقسم بالله العظيم أن أقول الحق..!
ربما ابتسم كبير الحكماء بطريقته أو لم يفعل إلا أن صوته تسرب هادئاً: يا بنيتي لا احد هنا يملك إلا قول الحق..!
تدخلت إرادة الشعب قائلة: سيدتي..تعلمين أن أخيك أطلق الرصاص على الإسرائيليين أثناء خدمته في سيناء..وكنا قد سمعنا انه تأثر كثيراً بحادثة قصف العدو لمدرسة بحر البقر..
ثم استطردت: بودنا أن نسمع شيئاً عن اثر هذه الحادثة في حياة الشهيد..
نظرت أم عاصم إلى أخيها وسالت دمعة حارقة على خديها وهى تقول: سليمان كان على جهاز استطلاع واستخبار..
التفتت إلى الحاضرين موضحة: جهاز مهم وكبير في البلد فكان ما ينفعش أن الإسرائيليين يطلعوا ويتجسسوا أو يشوفوا الجهاز اللي سليمان قاعد عليه، هذا اللي استفز سليمان..
قاطعتها إرادة الشعب : ليس عن هذا نستفسر بل على رؤية أخيك لحادثة مدرسة بحر البقر..أتذكرينها..؟!
قالت أم عاصم بتلقائية : ايوة فاكراها كويس..
تابعت إرادة الشعب: إذن حديثنا عنها من فضلك..
تأملت أم عاصم أخيها واسترجعت صفحات الذاكرة قائلة: أول ما الضرب حصل في مدرسة بحر البقر كنا أطفالا فجئنا أنا وسليمان..
تابعت: سليمان سبقني أنا رجعت علشان أنا بنت وسليمان وصل لمدرسة بحر البقر وشاف الأطفال..
التفتت إلى إرادة الشعب وقالت: أولاد أخوال أمي من هناك من المنطقة اللي فيها المدرسة..
ثم التفتت إلى أخيها وسكبت دمعة : سليمان شاف الأطفال كان يعني حينهبل قعد يمكن أسبوع ما ينامش..رغم أن كنا أطفالا كنا في المدرسة بس سليمان تأثر بمدرسة بحر البقر جامد..
أضافت أم عاصم بنبرة حزينة: كان بيشوف الإسرائيليين بيعدوا..وواحدة دخلت أسكرت صاحبه أو جندي في الموقع وأخذت السلاح بتاعه، وده ما عجبوش.
يتسرب صوت كبير الحكماء هادئاً: إذن لماذا استسلم سليمان لطغيان “كبير الشعب”..ووثق فيه حتى حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة..؟!
أجابته إرادة الشعب بثقة: كان على يقين يا سيدي بأن قرارا بالإفراج عنه سيصدر عاجلا أو آجلا..
ثم وجهت حديثها إلى الحاضرين بالقول: خانه ظنه بأن سلطة “كبير الشعب” لن تسكت وسوف يخرج وأن سجنه عبارة عن خدعة وحيطلع من السجن بعد بس الهيصة ما تخلص وبعد ما إسرائيل تحس أنه أتحاكم ..
ثم أردفت: ولآخر لحظة كان يقول لأمه وأخواته مردداً “الكبير يامّه مش ممكن يسيبني في السجن”..!
وتابعت بحزن بالغ: وفي اليوم السادس من شهر يناير عام 1986 أعلنت السلطات المصرية نبأ انتحار سليمان خاطر في محبسه..
استطردت إرادة الشعب: سيدي كبير الحكماء لدينا شاهد ثان للتأكيد على أن رواية انتحار خاطر محض كذب من أعوان “كبير الشعب”..فهل تسمح له بالشهادة..؟!
أومأ كبير الحكماء أو هكذا ظن الحاضرين أنه فعل..فتقدم فلاح بسيط بخطوات واسعة والقي على “كبير الشعب” نظرة نارية جعلته ينكمش رعباً وسط حراسه..قبل أن يعتلي درج المنصة..
وجهت إرادة الشعب سؤالها: الأخ أحمد أبو عاصم..ما رأيك في رواية أعوان “كبير الشعب” بأن خاطر قد انتحر..؟!
هتف أحمد أبو عاصم غاضباً: استحالة..
واستطرد وقد احتد صوته الجهوري: استحالة يكون سليمان خاطر انتحر استحالة من سابع المستحيلات..إحنا رتب لنا زيارة سليمان قبل استشهاده بيوم..طلب مني معجون أسنان..كتب في القانون..بدلة صوف..
ثم قال ساخراً بغضب: من التفكير المنطقي أن واحد حينتحر عايز كتب القانون قبلها بيوم ليه؟!
قاطعته إرادة الشعب: أنت رأيت جثمان الشهيد بعد مقتله..هل تستطيع أن تعطينا فكرة عما شاهدته..؟!
أجاب أحمد أبو عاصم مستغرباً: سليمان لو انتحر صحيح يبقا لازم يكون فيه علامات..بيئولوا شنق نفسه..طب الرجل اللي اتعلق من رقبته بيكون له صفة تشريحية معينة..أكيد لازم ذراعه يبقى مدلدل أكيد لازم يبقى مثلا عينيه بارزة أكيد لازم لسانه يبقى له شكل معين..
استطرد غاضباً: سليمان خاطر لما دخلنا المشرحة..ولقينا سليمان علشان نشوف الجثة وضعها إيه..لقينا ظوافر سليمان مكسرة نتيجة مقاومة..
انخرط في بكاء بالرغم عنه وهو يقول: سليمان كان بيقاوم الجلادين علشان يعيش..مش بيستسلم علشان ينتحر ويموت..سليمان عاش بيقاوم عشان مصر ومات وهو بيقاوم طواغيت مصر..
خيم صمت قصير على القاعة..قطعته إرادة الشعب حينما التفتت إلى منصة الحكماء قائلة: طويت صفحة سليمان خاطر يا سيدي على المستوى الرسمي برواية انتحار كاذبة وملفقة.. ولكن مصر حفرت اسمه كشهيد دافع عن تراب وطنه..
نظرت إرادة الشعب لأول مرة في عين “كبير الشعب” بغضب جمده في مكانه قائلة: مات جسد سليمان بعد أن انهار أمام كلاب التعذيب وهى تنهش لحمه..ولكن روحه ستظل تحيى في صدر كل مقاوم يؤمن بأن إسرائيل ستبقى العدو رقم واحد للمصريين والعرب والمسلمين..
خيم الصمت على القاعة مرة أخري ..حتى تسرب صوت كبير الحكماء هادئاً ومقتضباً: ترفع الجلسة على أن تنعقد قريباً بإذن الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون..
“انتهت”
—
أسامة عبد الرحيم
صحفي مصري
Osama Abdul-Rahim
Egyptian Journalist
0020105276035