أرشيف - غير مصنف

جولدستون في مختبر العدالة الدولية

زيد يحيى المحبشي

 منذ تشكيل المجلس الدولي لحقوق الإنسان بعثة تقصي الحقائق في 3 نيسان/إبريل 2009 برئاسة القاضي ريتشارد جولدستون للتحقيق في جميع الممارسات المنتهكة لمضامين القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني التي تكون قد ارتكبت أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة خلال الفترة ( 27 كانون الأول/ديسمبر 2008- 18 كانون الثاني/ يناير 2009 ) أو قبلها أو بعدها وحتى لحظة رفع تقرير جولدستون في 15 أيلول/ سبتمبر 2009 واعتماده من قبل المجلس الدولي في 16 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تكشفت الكثير من الحقائق حول مآلات التقرير وتداعياته, وإن كان قد أوحى للوهلة الأولى بأن العالم لا يزال يملك بعضاً من الضمير الانساني,غير أن محاكمة إسرائيل على جرائمها تظل من الآمال البعيدة المنال وسط ما نعانيه من ازدواجية مأساوية في موازين ومعايير العدالة الدولية.

لكن يظل المنتظم الدولي والشرعية الدولية الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين ومصدر من  مصادر قوة الحق الفلسطيني وسط تراجع كل المرجعيات وتضعضع كل التحالفات وانكشاف الحالة العربية والإسلامية بشكل غير مسبوق, وذلك ليس لإعادة الحقوق ومحاكمة القتلة لاسيما وأن تقرير جولدستون مجرد خطوة بسيطة في رحلة الألف ميل, ولكن على الأقل لوقف العدوان والإرهاب الإسرائيلي، وبالتالي وضع إسرائيل وأميركا في مواجهة مع الرأي العام العالمي المتعاطف مع معاناة الشعب الفلسطيني والذي كان له الدور البارز في خروج التقرير ألأممي بالشكل الذي هو عليه رغم ما فيه من ألغام وأفخاخ لكنه في حدوده الدنيا كان كافياً لإثارة ذعر إسرائيل.

 
قراءة في مضامين

صحيح أن التقرير واضح في رصده للظواهر ومعالجتها والنتيجة التي خلص إليها وطبيعة الشخص الذي أعده بما تضمنه من تجريم لإسرائيل بصورة لا تقبل الجدل والتمهيد لمحاكمة جماعية لقادتها, لكنه لم يسلم من محاولات جولدستون لتحوير مسار هذه المحاكمة وآليات الوصول إليها وبالتالي مغايرة التقرير المرفوع في 15 أيلول/ سبتمبر الماضي لما جرى اعتماده في 16 تشرين الأول/ أكتوبر بعد أن تم تخفيف وتحجيم وقائعه بصورة مقصودة باعتراف ابنة جولدستون (نيكول), واعتراف جولدستون نفسه في مقال له نشرته صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية حيث أورد فيه كلاماً هو أقرب إلى التبرير والاعتذار لإسرائيل معتبراً أن واجبه كيهودي مخلص ومدافع طوال حياته عن إسرائيل ” تصحيح إرث من الظلم لإسرائيل في مجلس حقوق الإنسان ” وواضعاً بين يديها وصفة للخلاص والخروج منتصرة من التقرير والظهور بمظهر الدولة الديمقراطية الشفافة ذات القضاء النزيه والعادل من خلال حظها على إجراء تحقيق مستقل كما أوصى التقرير ولها تاريخ حافل في ذلك وستنال تحقيقاتها قبول المجتمع الدولي مهما كانت النتائج لأن تاريخها يشهد لها بالنزاهة.

محمد حسنين هيكل في مقابلة له مع صحيفة المصري اليوم (22 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي) أشار إلى أن التقرير الأصلي الذي كتبه جولدستون في وصف الأحوال موجود لكن  الجزء الفاعل منه لم يعد موجوداً لأن المؤتمر الموسع لمجلس حقوق الإنسان توصل إلى إجراءات غير الإجراءات التنفيذية التي انتهى إليها جولدستون بما في ذلك ضياع (التحديد الزمني) وتأجيل مناقشة التقرير إلى آذار/ مارس المقبل وإسقاط ذكر (المحكمة الجنائية الدولية)، بعد أن كانت النسخة الأصلية تنص على أن بعض أفعال حكومة إسرائيل قد تبرر قيام محكمة مختصة بتقرير أن جرائم ضد الإنسانية قد ارتكبت, واكتفاء النسخة المعدلة بإدانة إسرائيل كقوة احتلال عرقلة مهمة اللجنة في التفتيش والترحيب بما جاء به التقرير وكأن مجلس حقوق الإنسان يقول للجنة التحقيق شكراً,تسلمنا تقريركم ومع السلامة انتهت مهمتكم.

يأتي هذا في سياق الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي صاحبت اعتماد التقرير للحيلولة دون حصوله على الأغلبية المطلقة(71 بالمائة) في مجلس حقوق الإنسان كشرط لإحالته مباشرة إلى المحكمة الدولية, رغم نزع مخالبه وأنيابه حيث يعلق هيكل على ذلك ساخراً بقوله ” توصيات التقرير أحضروا لها بَدلة جديدة وتم تنظيفها في غسالة كهربائية فصدرت الإجراءات في حالة كرب, كأنه جرى كيها ولفها بأوراق سوليفان ملونة.. التقرير الأصلي كانت له مخالب وأنياب وارتضينا نحن بخلعها فتسلمناه مؤدباً وانتهى الأمر” قاصداً بالأنياب مجلس الأمن والمخالب المحكمة الدولية ومشيراً إلى أنه حتى لو أوقف التقرير بالفيتو الأميركي سنكون الفائزين وهو ما جعل جلسة مجلس حقوق الإنسان مجرد إخراج مسرحي هزلي لتغطية أزمة لا يستطيع أحد أن يفصل فيها دونما تواطؤ ومع ذلك فإسرائيل غير راضية.

في الإطار العام اكتفى التقرير بمنح إسرائيل والفلسطينيين مهلة 6 أشهر لإجراء تحقيقات ذات مصداقية مع تقدير التقرير تمام التقدير أهمية افتراض (البراءة) في ضوء إشارته في كثير من الحالات إلى عناصر الخطأ ذات الصلة بركن القصد الجنائي!!.

وفي حال تقاعست إسرائيل يتحتم على مجلس الأمن إحالة موضوع غزة إلى مدعي المحكمة الدولية في لاهاي وهنا سيكون الفيتو الأميركي بالمرصاد وبالتالي حصره آلية التنفيذ على مجلس الأمن والجمعية العامة.

 

رهانات مفتوحة

ماذا بعد انتهاء مسرحية اعتماد التقرير؟ سؤال يبحث عن جواب فيما الغموض لا يزال سيد الموقف حتى الآن وسط  ارتفاع أسهم بازار المساومات والمقايضات.

إسرائيلياً: تحول التقرير إلى ورقة مساومة لتصفية الحسابات السياسية والحزبية الداخلية وبالتالي انقسام المشهد إلى فريقين الأول يدعو إلى إنشاء لجنة تحقيقات مستقلة سطحية, ويؤيد ذلك السلطة القضائية ووزير المخابرات  كخطوة أولى نحو إزالة التقرير من الأجندة الدولية وهو أمر ينسجم مع رغبة عدد من زعماء أوربا بجعل الموضوع داخل إسرائيل.

في الاتجاه الآخر يصر قادة الجيش ووزير الدفاع على رفض تشكيل اللجنة والاكتفاء بالتحقيقات التي أجراها جيش الاحتلال لأن ذلك من شأنه نزع الثقة عن الجيش وإدخال الكيان في منحدر زلق يمكن معرفة كيفية دخوله لكن لا أحد يمكنه التكهن بكيفية الخروج منه, كما أنه قد يضع سلوك الجيش موضع استفهام وإحراج داخلياً ودولياً.

 يأتي هذا التباين رغم أن تشكيل اللجنة سيصب لصالح الاحتلال بالدرجة الأولى, لسبب بسيط هو انسجامها مع (مبدأ الإتمام) وهو أحد أهم (التسويات) التي جاءت في نظام روما, الذي أدرج كمحاولة للحفاظ على السيادة, وبموجبه يقتصر عمل المحكمة الدولية على إتمام عمل الأجهزة القضائية المحلية, وخطوة كهذه حتماً ستلقى ترحيباً ومصداقية وإن لم تتضمن أية إدانة.

ومع ذلك يبدو أن هناك شبه توافق داخل إسرائيل على قيادة معركة طويلة النفس لتحويل التقرير إلى مجرد حبر على ورق, كما هي عادة الاحتلال في مواجهته تقارير الإدانة الدولية الصادرة بحقه والتي تكللت في جميعها بالنجاح يساعده في ذلك قدرة الحلفاء على إجهاض القرارات الدولية والبراعة في كسر الإجماع الدولي وآخرها النجاح في تغيير القوانين المحلية في العديد من الدول الأوربية والتي كانت ستُعرض قادة الاحتلال للملاحقات القضائية, والتهديد بوقف عملية السلام ونزع الشرعية عن أية جهة تحاول نزع الشرعية عن إسرائيل وتوفير الحماية الكاملة لضباطها ومسئوليها من الدعاوي القضائية التي قد تُقدم ضدهم في المحاكم الدولية، وقد شكل الاحتلال لذلك وحدة خاصة تابعة لوزارة الخارجية مهمتها محاربة التقرير دولياً.

 ويبقى الرهان الوحيد في توسيع الحملة الدولية ضد إسرائيل والذي من شأنه مع مرور الزمن إسقاط الخطوط الحمراء التي حصنت بها سياساتها وجرائمها لاسيما مع تنامي الشعور الإسرائيلي بأن قدرة واشنطن على حمايتها قد تراجعت وان المجتمع الدولي بات يستطيع العمل ضد الرغبات الأميركية والأهم من هذا كشف تقرير جولدستون حقيقة وجود شقاق بين إسرائيل وأبرز الرموز اليهودية في العالم مما يهدد زعم إسرائيل بأنها تمثل يهود العالم جميعاً.

فلسطينياً : هناك طرفان أحدهما أسير في رام الله والثاني سجين في غزة وما بينهما كيف تكون الإرادة وكيف يمكنها التعبير عن نفسها لاسيما وان أصحاب الدور الحقيقي وهم الدول العربية لا زالت حتى الآن غائبة أو مُغيبة وكأن الأمر لا يعنيها, رغم أن تقرير جولدستون كان يُفترض أن يكون فرصة لتلاقيها والتفافها حول تحريك مسار القضية الفلسطينية، وإنهاء النزاع ورفض التفاوض من أجل التفاوض حسب هيكل.

وهنا تكمن مشكلة تعطيل آلية تنفيذ تقرير جولدستون – رغم تقدم المجموعة العربية بطلب إلى الجمعية العامة لمناقشته وإحالته لمجلس الأمن – وتحديداً فيما يتعلق بالطرف الفلسطيني الذي يتعين عليه إجراء التحقيقات الخاصة خصوصاً وأن التقرير ترك هذا الأمر غامضاً، إذ رغم إعلان حماس استعدادها لذلك، لكنها في المنظور الدولي لا تزال غير معترف بها وبحكومتها المقالة عكس السلطة الفلسطينية في رام الله والضفة، وبما أن الطرفين لا يقران بشرعية بعضهما البعض على خلفية الأجواء القاتمة المحيطة بالمصالحة الوطنية المتعثرة منذ حزيران/ يونيو 2007م, فالمتوقع أن يظل جواب السؤال حول الطرف الذي يتعين عليه إجراء التحقيقات التي طلبها مجلس حقوق الإنسان مفتوحاً على كل الاحتمال, تبعاً للاتجاهات والضغوطات وبوصلة مخرجات حقيبة المساومات والتسويات ، ما يعني في خاتمة المطاف إلقاء اللوم على الفلسطينيين حصرياً، وهو ما أراده جولدستون من وراء فخ لجان التحقيق المستقلة قبل عرض التقرير على الأمم المتحدة وبذلك يكون قد ضمن سلفاً استمرار الخلافات حول التقرير على كافة الأصعدة تمهيداً لإلغائه وشطبه نهائياً.

ولذا يرى هيكل أن الحل الوحيد كامن في ضرورة الاعتراف بأن ما فات كان فشلاً وهذا ليس عيب أن نتعامل حسب مواردنا وإمكاناتنا وإراداتنا, والاعتراف بأنه لا سلام دون قوة, ونحن لدينا قوة الموقع وقوة البشر لكننا نضيعهما بسبب أننا خائفون طوال الوقت، ما يستدعي ألا نكون مرعوبين من إسرائيل كل هذا الرعب الذي نحن عليه، والاعتراف بأن أميركا ليست الحل لعدم وجود ما يسمى مبادرة أوباما بخصوص عملية السلام.

 ومعروف أن أوباما الذي أعلن من على منبر القاهرة عن سلة الحلول الشاملة للصراع الإقليمي بات اليوم على قناعة تامة بأن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أمر لا يمكن تحقيقه ما لم تكن هناك معجزة سماوية, وسط رغبة جامحة لتجزئة سلة الحلول الشاملة واستبدالها بمشاريع فرض الحلول المرحلية والمؤقتة ما نجد مداليله في تمييع المطالب السابقة بتجميد البناء الاستيطاني والتراجع عن ربط التجميد باستئناف عملية السلام وصولاً إلى تسويق مقايضة الاستيطان بتقرير جولدستون بما يضمن في خاتمة المطاف جعل العرب يدفعون ثمن تفخيخ التقرير عبر إنهائه مقابل وقف مؤقت للاستيطان كحل وسط وبالتالي يندثر بعد أن فجر علاقات الفصائل الفلسطينية لنخسر مرتين مرة من دماء أرواح ضحايا محرقة غزة، ومرة عندما يكون بلا ثمن.

زر الذهاب إلى الأعلى