أرشيف - غير مصنف

فيلم “إحكي يا شهرزاد”: التيار النسوي الفني بين الانطلاق والتعثر

رشا عبدالله سلامة
تنهيدة عميقة تزفرها الروح بينما تتوالى مشاهد الفيلم المصري الجديد “إحكي يا شهرزاد”.. تنهيدة تستحضر معها روايات سحر خليفة وأحلام مستغانمي وقصص فيرجينيا وولف و غيرهن كثيرات ممن أخذن على عاتقهن حمل أجندة المرأة وتدشين التيار النسوي رسميا في المجتمع والسياسة وكذلك الأدب والفن.
 
الممثلة المصرية منى زكي مع حشد من الوجوه الفنية القديرة كسوسن بدر ومحمود قابيل و الجديدة كرحاب الجمل وسناء عكرود، تمكنوا جميعا من تقديم عمل ذا فرادة خاصة في الموسم السينمائي الحالي، برغم بعض الهنات والهفوات التي شابت الفيلم.
 
قصص ثلاث تنقّل بينها المشاهد، أثناء الفيلم، تطوّقها جميعا قصة المذيعة التي هي لربما أكثر من يستحق تسليط الضوء على مشكلتها مع زوجها الذي يسعى لرئاسة تحرير إحدى الصحف القومية المصرية، بيد أن حلقة تطرقت فيها زوجته لوزير أوقع طبيبة أسنان في شباكه أدت لامتعاض السلطات الأمنية منه، وبالتالي إقصائه عن المركز الذي يحلم به، ولتكون الزوجة المذيعة حينها هي الضحية إلى حد أدمى فيه رأسها، ما جعلها تفرد حلقة خاصة تكاشف فيها جمهورها بحجم الظلم الواقع عليها.
 
منى زكي لعبت دور المذيعة المتصدية للقضايا النسوية في برنامجها الذي يحمل اسما رمزيا “نهاية المساء بداية الصباح”، برغم كون الفيلم لم يأت على ذكر نقطة التحول التي غيرت مسارها نحو القضايا النسوية الجادة بعد سبرها أغوار عوالم التجميل، إلى جانب كونها لم تظهر كشخصية متصالحة مع ذاتها في ثنايا الفيلم، تماما كما هي على أرض الواقع؛ ففي الوقت الذي لا ينفك فيه التيار النسوي ينادي بعدم حصر المرأة في خانة الجسد فقط، وهو ما تمثل مبطنا في دعوات منى زكي من خلال برنامجها، إلا إنها في الوقت ذاته لم تركز في فيلم على الملابس المكشوفة ومفاتن الجسد بالقدر الذي ركزت فيه في فيلمها هذا !!
استعرض الفيلم نماذجا نسوية عدة؛ الشقيقات المسحوقات اجتماعيا وماديا واللواتي يغرر بهن الثلاثة خادمهن المدين لوالدهن بمعروف وإحسان كبير، ما دفع الكبيرة منهن لقتله وبالتالي ضياع مستقبلها وأخواتها.
 
فيما الفئة الثانية تعرضت للنسوة المثقفات والمنفتحات على العالم الوظيفي والاستقلال المادي بتميز ومسؤولية، ما يتركهن عرضة لنماذج من العرسان الطامعين في الاستئثار بمزايا وضعهن الاجتماعي مع وضعهم شروطا مسبقة لقولبتهن كيفما يشاؤون بذريعة وصولهن لعمر حرج من دون زواج، وهو ما تمثل في قصة سوسن بدر التي آثرت العيش في مصحة نفسية بعيدا عن اعتبارات العالم الخارجي التي تنظر إليها بعين الانتقاص برغم تميزها الفكري والوظيفي.
 
الشريحة الثالثة كانت تلك البرجوازية المنتمية لعلية القوم، والتي تستقطب معاناة نسوية من نوع خاص؛ إذ تقع طبيبة الأسنان ابنة العائلة الثرية ضحية لخبير اقتصادي ينكر نسب طفله منها بعد أن أقنعها بأن “كتب الكتاب” يعد زواجا رسميا، لتلجأ نحو خيار الإجهاض ومواجهة ابتزاز العريس النصاب الذي بات يطالب عائلتها بملايين نظير الستر على ابنتهم.
 
إحدى القصص التي تطرق إليها الفيلم أيضا، مع بترها كيلا تضاف لقائمة القصص الكاملة التي تم عرضها في الفيلم بإسهاب، هي قصة الفتاة التي تقضي جل نهارها بين أفخر ماركات التجميل النسائية وبكامل حلتها، بيد أنها عندما تعود مساء لمنطقتها الشعبية ترتدي الحجاب، الذي ألمح الفيلم لاشتراط أرباب العمل على الموظفة خلعه، ولتمشي في طريق عودتها بين أكوام النفايات المحترقة بدلا من العطور الباريسية، ما يرمز لحجم التناقص والانفصام الذي يفرضه المجتمع على المرأة.
 
عندما استعرض الفيلم النماذج الآنفة وقع في مطبات عدة رغم تميز القصص وتعريجها على جل الشرائح الاجتماعية، بيد أن قطعا كاملا كان يتم بين كل قصة وأخرى ما ترك المشاهد في قالب هو أقرب لحلقات المسلسل منه لوحدة الفيلم الروائي. إلى جانب أن الفيلم لم يترك حيزا ولو واحدا للتحليل وتعدد التفسيرات، بل كانت القصص ونتائجها وأبعادها واضحة ومباشرة إلى حد الفجاجة في فرض الرؤية الواحدة على المشاهد.
 
كذلك الحال في الإسهاب غير المبرر في اللقطات الحميمة من غير وجود مبرر درامي مقنع سوى الرغبة في مغازلة شباك التذاكر لحصد مزيد من الإيرادات، ولعل المفارقة تكمن في هذا المقام في أن الفيلم ينتقد نظرة المجتمع للمرأة وجسدها، فيما هو يقع في المطب نفسه.
 
المؤلف وحيد حامد والمخرج يسري نصر الله وكذلك منى زكي، التي بات يظهر جليا أنها انضمت للتيار الفكري الذي تتزعمه المخرجة إيناس الدغيدي والإعلامية هالة سرحان، ركزوا بإصرار على نقطة بعينها، بل وجعلوها قاسما مشتركا للقصص كلها تقريبا، وهي الكبت الجنسي وجدليته في المجتمعات الشرقية من غير أن يطرحوا حلولا إلا إذا كانت النقطة الخفية التي خشي القائمون على الفيلم التصريح بها هي الدعوة لفتح الباب على مصراعيه أمام العلاقات الجنسية، كيلا تقع المرأة في براثن غبن الرجل لها واضطهادها تحت ضغط الحاجة لعلاقة ما، وهو ما يعد طرحا متهورا لابد من إخضاعه لقيود ومناقشات عدة قبل التعجّل في إلقائه على المشاهد العربي.
 
الفيلم كذلك جعل من الكبت والقمع متوالية تبدأ من السياسة وعلاقة الشعوب العربية مع أنظمتها وليس انتهاء بالجانب الاجتماعي والجنسي لاسيما على صعيد المرأة. هذه النقطة تحديدا كان لابد من الوقوف لديها مليا لمناقشتها وإيضاح أبعادها للمشاهد العادي؛ بدلا من التعريج عليها بسرعة خاطفة جعلتها في أعين كثيرين نقطة مُقحَمة على الفيلم رغم محوريتها لدى كثير من منظري التيار النسوي في العالم بأسره.
 
استطاع الفيلم تجنب منطقة جدلية عادة ما تلتقي لديها شرائح واسعة من المجتمع، وهي ردة الفعل الحساسة حيال أي مناقشة سينمائية للنظرة الدينية لقضايا المرأة؛ بل على النقيض تماما تعمدت سوسن بدر تبرير جملتها التي تفسر من خلالها كثيرا من أوضاع المرأة المزرية بأن مصر الآن ارتدت الحجاب، فسرتها على الفور بأنها لا تقصد غطاء الرأس بل حجاب العقل. هذا التجنب لم ينأى بالفيلم عن عواصف الانتقادات الدينية المعتادة فحسب، بل هو سمى به في عيون الجمهور عن حركة سينمائية باتت مكشوفة في جل الأفلام الحديثة وهي الزج بجزئية دينية في العمل تضمن له “فرقعة” جماهيرية تصب في نهاية المطاف في رفع إيراداته والإقبال الجماهيري على اكتشاف محتواه.
 
عوالم الصحافة والإعلام كانت محورية في الفيلم، وهو ما بات دارجا في جل الأفلام المصرية الجديدة، استجابة ربما أو تماهيا مع الدعوات الأميركية المتناقضة التي لا تنفك تنادي بضرورة منح الإعلام العربي مزيدا من الحرية والمساحة في التعبير عن الرأي، وفي الوقت ذاته قمع أي طروحات مغايرة للمزاج السياسي السائد أو على الأقل إقصاء تلك الأصوات التي تغرد خارج السرب، أو حتى تلك التي تفكر في ذلك أو يتم التوهم بأنها تنوي ذلك، إقصائها عن الحقل الإعلامي وتهميشها مقابل تلميع الأصوات المجنّدة في جوقة الأنظمة العربية.
 
يشفع لأخطاء الفيلم الآنفة جودة الفكرة وجديتها، وتطرقه لقضية إنسانية طالت الغفلة عن مناقشتها جديا في العالم الثالث تحديدا وفي العالم برمته وهي القضية النسوية بكل ما يندرج تحتها من بنود وتفصيلات.
 
رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.. ولعل “إحكي يا شهرزاد” ومن قبله “تيمور وشفيقة” وغيرها من الأفلام التي تتطرق للجانب النسوي هي بداية الألف ميل نحو أعمال تجمع في متنها الفكرة الجادة والعمق الإنساني والسوية السينمائية العالية، دونما تفريط في أي منها.

زر الذهاب إلى الأعلى