د. أسامة عثمان
برنامج “الاتجاه المعاكس” من أنجح البرامج الحوارية, في حدود ما أعلم, وألحظ؛ إذ يحظى بمتابعة, لا تَفْتُر , على مر السنين التي قطعها, من شرائح متعددة, ومن ذوي التوجهات الفكرية المختلفة.
وربما نتلمس أسبابا لهذه الظاهرة التلفزيونية, منها الموضوعات الجدلية التي يحسن اختيارها الدكتور فيصل القاسم, بوعي مُواكِب, وحسٍّ صحفي دقيق. ويضاف إليها الهامش الواسع من الحرية الذي يمنح للبرنامج؛ فضلا عن طبيعة الإدارة التثويرية التي ينهجها القاسم, بل, والاستفزازية, أو الاستعدائية, أحيانا.
غير أنه, كأي جهد إنساني, لا ينجو من مآخذ, بالرغم من كون بعض المنتقدين، لا يعجبهم طابع البرنامج من حيث الأساس. والآخرون يبدون ملحوظات عليه.
وأما طبيعة البرنامج ذات الوتيرة التثويرية، فهي جزء من تكوينه, ومسوِّغ يميز شخصيته. وهو بذلك يختلف عن برامج حوارية بثتها “الجزيرة” من مثل “أكثر من رأي” و”حوار مفتوح”, ولكن الجرعات الزائدة من الإثارة والصخب, قد تفضي إلى التنفير, أو تعوق الغاية؛ فلا تصل الفكرة, وهذا ما لا يريده، بالقطع مُعِدُّ البرنامج, ومقدمه.
ومثل هذا البرنامج، بما يحظى به من نسبة مشاهدة عالية، قد يسهم، مع غيره، في تعزيز سلوكات الحوار الخاطئة, وهي على أية حال موجودة, قبله, بل راسخة في وعي العامة؛ وتعكس الأمثالُ الشعبية بعض تلك الملامح العقلية الجمعية, كما يقال:” خذوهم بالصوت لا يغلبوكم”
وهذه السمات الحوارية القائمة على الشغب, والشخصنة, والتهكم بالمحاور الآخر, والانتقال إلى موضوع آخر؛ لإحراج الزميل المحاور, كل ذلك, يشي بانخفاض المستوى الفكري, لدى من يلجأ إليها, أو عجزه عن إقامة الحجة, واستمالة الجمهور بالدلائل, والإشارات الملموسة, والمعلومات العلمية الموثقة. أو أن مثل تلك الأساليب تنطوي على اتهام غير مباشر للمستمعين بالسطحية والغوغائية, وكأن اللائذ بها يزعم التماهي بالجمهور العربي؛ فيلجأ إلى اللغة التي يفهمها, والأساليب التي يتفاعل معها.
وهو لو قال ذلك؛ لما كان مغاليا, أو مدعيا, في الجمهور صفات ليست فيه؛ إذ كثير من العرب، كذلك, تستهويهم العواطف, ويحبون الصراخ, وتستثيرهم النعرات الوطنية والقطرية, فهذه السمات العقلية والشعورية الحوارية قد ابتلي بها المحاورون والمشاهدون. طباقا لدراسة علمية أظهرت أن أكثر من 70 بالمئة من العرب لا يتحلون بآداب المقاطعة والحوار خلال البرامج الحوارية التلفزيونية. وبين مُعِدُّ الدراسة الكاتب الكويتي محمد النغيمش الأثر السلبي الذي ينتج عن كثرة المقاطعات والفوضى في البرامج الحوارية التلفزيونية؛ حين ينصرف المشاهد نحو فضائيات أكثر جاذبية في الحوار. كما تناولت الدراسة بعض المسبِّبات التي تؤدي إلى مشكلة الحوار؛ إذ قالت إن “مشكلة الحوار تبدأ من المنزل والمدرسة ثم نجد نتائجها السلبية في العمل وعلى شاشات التلفزة”.
وإذا جاز لنا أن نلتفت إلى تراثنا الأدبي؛ لنفيد مما أسسه أدباؤنا، من آداب الحوار الرفيع؛ فثمة حزمة ضوء منها: 1- احترام المُناظر خصمه, والمستمعين معا؛ فلا يتعرض لحياة ذلك الخصم, ولا ينبو لسانه؛ فيجرح مشاعره, أو مشاعر المستمعين.
2- وضع ترتيبات مسبقة يتفق الطرفان على التزامها؛ تتضمن عدم مقاطعة طرف لآخر؛ فلا يتكلم الثاني، حتى يُتِّمَ الأول.
3- ومنها كذلك عدم التحول بالمناظرة إلى منافرة, أي عدم تحويلها إلى تهجم شخصي على المُناظر.
ويذكر الراغب الأصفهاني أنَّ مُتكلمين اجتمعا؛ فقال أحدهما:” هل لك في المناظرة: فقال: على شرائط؛ أن لا تغضب, ولا تَعْجب, [ أي لا تظهر الإعجاب بالنفس] ولا تَشْغَب, ولا تحكم,
[ أي لا تحكم أنت على قولي بالصحة, أو الخطأ, وإنما تترك ذلك للجمهور] و لا تُقبِل على غيري، وأنا أكلمك… وعلى أن تُؤْثِر التصادق, وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلا منا تبنى مناظرته على أن الحق ضالته, والرشد غايته” .
وما زالت هذه – في تقديري- آدابا لزماننا صالحة, بل نحن أحوج إليها, في هذا العالم العربي الذي يعاني فائضا في العنف, وفائضا في التوتر, وفائضا في الكراهية, والاحتقان.
فهل يكون برنامج “الاتجاه المعاكس” هو المبادر إلى ترشيد جرعات التثوير؛ وهو المعوَّل عليه ؛ بفضل قدراته التأثيرية, في التأسيس لحالة حوارية فكرية راقية.