مصطفى إنشاصي
يقول المثل: ما بتعرف خيري إلا لما تجرب غيري! والمثل خلاصة تجربتي في المشاركة في تأسيس أحد التنظيمات الفلسطينية (ظل حماس، الذي يستدعى ليكون أمينه العام شرابة خُرج متى اقتضت الضرورة، ويُتجاهل بعد أداء دوره) الذي يظن الكثيرين فيه خيراً بعد الخلافات بين حماس وفتح، علماً أنه الأسوأ من الجميع. وبعد تجربة تعاون إعلامي مع حماس لثمانية سنوات، جلبت علي ومازالت الكثير من المشاكل والمصائب، ولكني عندما بدءوا أول الخطوات العملية باتجاه ما كنت أعلمه فيهم، وأنهم وضعوا أرجلهم على أول طريق التفريط بالثوابت مقابل الكرسي والمنصب (المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي)، بدأت أتحين الفرصة المناسبة لقطع العلاقة معهم، لأني وأنا في سن العشرين من العمر تركت تنظيم فتح وأدركت أن فتح انحرفت عن الثوابت، وقبلت بمعادلة التسوية الدولية والسقف العربي، في وقت كانت الأبواق الإعلامية التي تؤيد حماس الآن، ولا أعلم هي مخدوعة أم مرتزقة، من كتاب وصحف ومفكرين وأسماء كثيرة رنانة، وخاصة ممَنْ يعيش في الغرب ويحتاج مَنْ يُغطي تكاليف ومصاريف حياة الرفاه التي يحياها، كانت تهتف للراحل عرفات ويبررون سياساته في الوقت الذي كنا ننتقده فيه، ونحن نحمل البندقية معه ولا نحيا حياة آمنة مطمئنة!
وبعد أن قطعت العلاقة معهم بعد أحداث غزة في حزيران/يونيو 2007، وما أن بدأت أنتقدهم، ولم أنتقدهم بنفس القسوة التي سبق أن انتقدت بها الراحل أبو عمار، وعندما لم يجدوا ما يبررون به لمَنْ يسأل عن تغير موقفي منهم، لم يتورعوا عن الزعم لهم أني أصبحت من جماعة (محمود عباس)؟!! علماً أني لا من جماعة هذا ولا ذاك ومازلت من جماعة فلسطين ومع فلسطين، والكتابة عندي واجب شرعي ووطني وليست وسيلة للارتزاق، وإلا كنت تظاهرت بأني مازلت مقتنع أنهم مازالوا حركة مقاومة، وليسوا طلاب كرسي ومنصب ولم فرطوا بالثوابت، بدل القعدة البطالة وضيق اليد.
وقد كنت كتبت مقالة في الذكرى الثالثة لرحيل القائد عام 2007، ذكرت فيها بعض ما حدث مني من نقد قاسي له، وعلى الرغم من ذلك لم يلحق بي أذى منه كما لحق بي ممَنْ شاركت معهم في تأسيس ذلك التنظيم، ولا مثل ما لحق بي ممَنْ تعاونت معهم ثمانية سنوات إعلامياً، وقد حاولت فيه إنصافه من خلال تجربة بسيطة معه، وفي المقالة استخدمت في تفسيري لعدم إصابتي بأي أذى ممَنْ كانوا يتربصون بي أيامها، بأن الراحل أدرك أني صادق في نقدي، واستخدمت كلمة الصدق أكثر من مرة وأنا لا أعلم أن تلك الكلمة نفسها كانت هي رده على مَنْ كانوا يحرضونه ضدي، إلا قبل يومين فقط (10/11/2009)، عندما حضر سفيرنا الجديد إلى هذا البلد الطيب، وذهبت لتهنئته بتسلم مهام منصبه، والتعارف عليه، وعندما: أردت أن أعرفه بنفسي، أجاب: أنه يعرفني! فاندهشت وأنا لم أتلتقي به من قبل، ومن خلال الحديث قال:
عندما كان يأتي البعض يطلبون من الرئيس الراحل أبو عمار أن يعطيهم الضوء الأخضر لكسر عنادك، كان يرد عليهم بالقول: هو ليس عنيد ولكنه صادق!. إنها نفس الكلمة التي فسرت بها موقفه مني على شدة نقدي له. لذلك هو يستحق أن يكون زعيم وقائد، وأن يُنصف مني مرة ثانية وثالثة وألف في ظل قيادات من الوزن الخفيف، لا تحترم ماضٍ ولا تاريخ ولا نضال ولا رجولة، لأنها فاقدة لكل مؤهلات المسئولية فما بالك بالقيادة والزعامة؟!. وهذا نص المقالة السابقة:
كان حريصاً على وحدة الوطن
في ذكرى رحيل القائد أو الزعيم أو الرمز ياسر عرفات الثالثة، ولا أقول الرئيس هذه المرة، لأنه ليس كل رئيس يمكن أن يكون قائداً أو رمزاً أو زعيماً، ولا كل أمين عام لتنظيم أو حزب يمكن أن يكون كذلك، فالبعض قد تُهيئ لهم الأقدار بعض الأسباب التي توصله إلى أعلى منصب في الدولة أو الحركة أو التنظيم، وقد يسميه معظم المخدعين به من أنصاره أو المستفيدين من وجوده أو المتعصبين تعصباً أعمى بألقاب ليس له منها نصيب؛ لكن ذلك لا يُغير من حقيقته شيء، لأن الزعامة لها صفات شخصية قد تكون فطرية أو مُكتسبة، وأخلاقيات وممارسة وهمة عالية لا تتوفر في كثيرين ممن يُلقبون بتلك الألقاب.
في ذكرى رحيل القائد الرمز وفي ظل الظروف التي تعصف بأهلنا في فلسطين وبمستقبل القضية المركزية للأمة؛ تلك الظروف التي لم يشهد التاريخ الفلسطيني الحديث وخاصة منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 لها مثيل، قد يحتار الكاتب المستقل تحديداً فيما يكتب عن صاحب هذه الذكرى، هل يكتب تاريخ مجرد؟ أو يسجل مواقف شخصية كانت بينه وبين صاحب الذكرى؟ هل يستغل الذكرى لتمجيد تنظيم صاحب الذكرى على حساب تنظيم أو تنظيمات أخرى؟ هل يستغل الذكرى لتأييد سياسة ما أو التعريض بسياسة أخرى؟ هل…؟ وهل … كثير، دون أن أجد البداية أو أُحدد ما سأكتبه!!. يؤلمني جداً ما يحدث من البعض الذي بدلاً من أن يشفقوا على مستقبل الوطن وأهله والقضية في مرحلة حساسة من تاريخه كهذه المرحلة، وبدل أن يستغلوا الذكرى للبحث في حياة صاحبها عن مواقف وممارسات وأقوال وأفعال تحيي في النفوس روح الوحدة واللقاء والتآخي، وتعيد إلى أبناء الوطن روابط الود والمودة والتواصل البناء، وتنزع من النفوس مشاعر البغض والشحناء والبغضاء، وتقطع الطريق على دعاة الفرقة والتمزق والشتات، نجدهم يصبون الزيت على النار من أجل أن يرضى عنهم هذا أو ذاك، وليذهب الوطن وأهله إلى الجحيم، إن ما يحدث من البعض تصرفات غير مسئولة.
في حياة الراحل ياسر عرفات كثير من المواقف التي يمكن أن تجمع ولا تُفرق، ويمكنها أن تُقرب ولا تباعد، ويمكنها أن تؤكد على التمسك بالثوابت لا التفريط فيها، ويمكنها أن تُلين النفوس وتُذهب غيض القلوب، فالراحل كان قائداً ورجلاً يُشهد له، وإن كنا انتقدناه في حياته فلم يكن من منطلق العداء أو الكراهية الشخصية أو التخوين له والخروج من دائرة الوطنية، ولكن من منطلق الحرص على الثوابت والمصلحة الوطنية، وكان يمكن لمن لم يدرك ما كان عليه الرجل من حرص على الوحدة الوطنية حتى وهو يصارع خصومه بالاعتقال أو الإقامة الجبرية أو غيرها أن يدرك أو يُفسر ذلك أنه كان من منطلق الحرص عليهم أو الحفاظ على وحدة الصف في مرحلة يرى فيها أن خصومه من أبناء وطنه لم يدركوا مقاصده وهو لا يستطيع أن يصرح لهم بما في داخله. وقد سبق أن ذكرت هنا ما قاله أحد الكتاب الأمريكيين بعد أحداث غزة عن محاولته التوسط لأحد أصدقائه من مسئولي وقادة أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية الذي نبذه الراحل عرفات وألزمه بيته، وكان رده عليه بغضب: أنه تجاوز الخطوط الحمر، إنه أمر بإطلاق النار على مظاهرة لحماس!!
لقد كان يتشدد في إجراءاته ومواقفه في مواجهة خصومه السياسيين ولكن دون أن يصل الأمر إلى أن يقتل الفلسطيني الفلسطيني، لأن ذلك خطاً أحمر سقط بعد أن ترجل الفارس…!!! ذلك ما كان يجب أن ينطلق منه الجميع في إحياء ذكرى رحيله وليس الهجوم على هذا أو ذاك، أو التحيز إلى هذا أو ذاك. إن أمثال من يقومون بذلك ليس لهم من فلسطين إلا الاسم، ومن الوطنية إلا الادعاء.
كان رجل يحترم الرجال
فهو إلى جانب معرفته بالرجال على الرغم من تقريبه ورفع شأن كثير ممن لا يستحقون ذلك، كان يحترم الرجال عندما يجد فيهم صدق، مهما اختلف معهم أو سمع منهم من نقد، لأنه كان يقدر أن نقدهم من منطلق الحرص على المصلحة وليس انتهازية أو من أجل المساومة على المناصب والرتب والمال. وقد سبق أن ذكرت أنني انتقدته نحو خمس مرات وأسمعته ما لم يجرؤ أحد في ذلك الوقت لا من داخل الإطار ولا خارجه على نقده به، وكانت المرة الأولى عام 1985 في الجزائر، حيث حضر إلى المعسكر التابع لمنظمة التحرير في الجزائر بولاية تبسة لتخريج دورة الأشبال ذلك العام، وقد كان يوم جمعة، وعندما سمع الأذان حضر إلى الصلاة، وقد كنت خطيب المسجد، وقد كنت أُشرف على تدريب بعض مجموعات الأشبال، وتأخرت يومها عن موعد الصلاة قليلاً، فصعد أحد الإخوة لخطبة الجمعة، وكانت خطبته جيدة، إلى أن دخل الأخ أبو عمار فألان القول قليلاً. وقد خشيت أن يقول بعض المغرضين الذين يبحثون لي عن موقف ينقضون به عليّ تشهيراً وإساءة بين شباب المعسكر، ليفرقوهم من حولي ويُضعفون كلمتي وموقفي وسطهم، ويهزون صورتي وهيبتي في نفوسهم، ويقولوا: أنه جبان، أو خاف عندما حضر أبو عمار، ولم يجرؤ على أن يقول له كلمة مما يُسمعه لنا ليل نهار، لذلك تخلف عن خطبة الجمعة عمداًً.
لذلك ما أن انتهت الصلاة حتى وقفت مسرعاً قبل أن يغادر المسجد، لأنه رحمه الله كان سريع الحركة وعادته النهوض والخروج مسرعاً بعد الصلاة، وقلت: أخ أبو عمار أرجو أن تبقى جالساً عندي كلام أريدك أن تسمعه. وقد انتقدت جميع التراجعات التي حدثت في فتح ومنظمة التحرير، إلى درجة أن قلت له: أن الدماء التي سالت في الأردن وبيروت وطرابلس وغيرها، لم تسيل من أجل فلسطين، ولكن من أجل أن يبقى رمزاً وقائداً. ولم تأخذه يومها ولا بعدها العزة بالإثم ولكنه قام امتدحني وعلق بمنتهى الأدب يومها وبرر ما فعل بما كان يرجوه، وهو ما سمموه قبل أن يحققوه له، وقضى إلى ربه وهو ما زال يرجوه، الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشريف. علمت في اليوم التالي أنه طلب ملف كامل عن حياتي وعلاقاتي وأفكاري، وبالتأكيد أنه استشف منه أني لست ممن يباع أو يُشترى، ولا تُغريني الرتب ولا المناصب ولا يُزغلل عيني بريق المال ولا الكرسي، ولست ساعي لِما يسعى إليه كثيرين. لذلك لم يأمر لا بسجني ولا بمحاولة مساومتي وشرائي. وكان كلما حضر إلى المعسكر وكان يوم الجمعة كان يحضر للصلاة، وكنت أنتقد نهجه السياسي، والفساد وغيرها، ويخرج ولا يمسني سوء بعد سفره. ما يدل على أنه بكل تأكيد قد يكون حذر مَنْ كانوا يتملقونه بنية فعل ذلك، وهذا دليل على أنه كان يحترم الرجال عندما يجد فيهم صدق.
ومرة عندما بلغه أن قائد قوات الثورة الفلسطينية في شمال إفريقيا حاول منعي من خطبة الجمعة لأن صدره يضيق من نقدي للثورة ونهجها السياسي والفساد المستشري فيها، علمت أنه اتصل به وأسمعه كلاماً قاسياً جداً مستنكراً عليه ذلك. وعندما حرضوا نائب رئيس القضاء الثوري ـ أبو عرب ـ ضدي في إحدى محاكماته لي بأني رفضت الالتزام بالأوامر العسكرية لذلك القائد والتوقف عن خطبة الجمعة، واعتبرها دليل ضدي ليوقع بي أشد العقوبة. وقد رددت عليه يومها: اعلم أنه لولا ديني وعقيدتي ما وجدتني في هذه الثورة ولا أقف أمامك هذا الموقف. وكان عليك أن تعتبر ذلك دليل على تعسف قائد القوات وظلمه وعدم صحة اتهاماته. فقال: ولكنك عسكري وعليك إطاعة الأوامر. فقلت: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد رُفعت الجلسة لتناول طعام الغداء والمداولة، وكان أثناء المداولة شاب قَلَ أمثاله، لم يكن الموقف الذي سأذكره له الوحيد الذي وقفه مدافعاً فيه عني في غيبتي دون أن يخشى من سلبيته عليه، ولا أعلم به إلا بعد فترة طويلة، عندما شعر أن نائب رئيس القضاء الثوري الذي كان يرأس فريق القُضاة الذي حضر لاستئناف الحكم الذي قدمته يريد أن يستخدم ذلك الموقف ضدي، قال له بلهجة التهديد والوعيد: اظلمه في الحكم، ولك عليّ أن أخرج من قاعة المحكمة وأوصل الأمر للأخ أبو عمار وأنت تعلم ماذا سيحدث لك بعدها، وقبل أن تعود إلى تونس؟! فارتعد ذلك القاضي من مجرد أن علم أن الأمر ممكن أن يصل للأخ أبو عمار وتراجع عن الحكم الظالم الذي كان سيحكم به عليّ إرضاء لقائد المعسكر، لينتقم له مني ويشفي له به غليل حقده مما فعلته به طوال السنوات الماضية، ورفضي وتمردي على كل أوامره العسكرية التي كان يصدرها لي، ويحاول من خلالها كسر أنفتي وإسكات لساني وكتم صوتي.
والحديث يطول في ذكراه عن مواقف له كان يجب أن تُستغل في لأم الجرح الفلسطيني لا نكأه، ونزع فتيل الفتنة لا زيادة اشتعالها، وفي جمع الصف لا تمزيقه، وفي توحيد الموقف لا تفريقه، وفي … وفي …، ولكن من يعي أو يسمع؟! فأنت لو ناديت حياً …… ولكن لا حياة لمن تنادي!!.
لذلك وغيره كثير يستحق لقب الزعيم لأن للزعامة صفاتها وواجباتها، ويستحق لقب القائد لأن القيادة مسئولية وللمسئولية واجباتها وأخلاقها، ويستحق لقب الرمز، نعم ويستحق لقب الرمز، بعد أن فقدنا البوصلة بعده ويستحق … ويستحق …