يبدو الأميركان كالداخل في (حالة اندهاش) أو (صدمة) مما تواجهه شركاتهم من (مواقف غامضة) في السوق العراقية، فهم حكومياً يجدون أنفسهم ليسوا ذوي أفضلية كما كانوا يحسبون، وعلى مستوى السوق، باتوا مقتنعين أنهم يواجهون (كراهية) جعلت سفارتهم في بغداد، تنصح رجال الأعمال في الولايات المتحدة بـ(عدم المجيء الى العراق). كانوا يعتقدون أن احتلالهم للعراق سيعطيهم الأفضلية، فوجدوا كما تقول النيويورك تايمز حتى رئيس الوزراء نوري المالكي يعدل في آخر مؤتمر صحفي له من كلمة (الحلفاء) أو (الأصدقاء الأميركان) إلى لفظة (الاحتلال)، وإن كانت الصحيفة تفسرها على أنها (لحسابات انتخابية).
وحال (الاندهاش) تدفع الأميركان الى التساؤل عن مصير (جبل من الدولارات) أنفقوه على الحرب و(مشاريع إعادة البناء)، والذي يصل الى تريلون دولار، فما الذي جنوه من بلاد يستنزفها الإرهاب والفساد؟. ويرى بعض الخبراء الأميركان أن العراق برغم (الميزانيات الضخمة التي أنفقوها) ما فتئت بنيته التحتية (ميتة) ولم يزل الاقتصاد العراقي برمّته في (غيبوبة). وأكثر ما يثير (سأمهم) هو أن العراق يحاول تجنّب أعمالهم التجارية، والتركيز على تركيا أو إيران، أو فرنسا وروسيا، أو دول أخرى انسحبت قواتها من العراق بعد مشاركتها في الاحتلال. وفي معرض بغداد الدولي، رأى الأميركان أنفسهم (الحضور الأضعف). ولهذا يؤكد الخبراء الاقتصاديون الأميركان أن على حكومتهم وشركاتهم أن تصحو من (غفوتها)، إذ ليس لديهم (أي تميّز) رتّبته عملية الغزو والاحتلال، أو استوجبته –كما يظنون- تلك الأموال الضخمة التي أنفقوها بأي شكل من الأشكال!.
ويقول رود نوردلاند مراسل صحيفة النيويورك تايمز: إن معرض بغداد الدولي (للتجارة) بحسب تعبيره انتهى الثلاثاء الماضي. وبرغم مرور أكثر من 6 سنوات، وإنفاق نحو (تريليون دولار) (1,000,000,000,000) أي ألف مليار دولار، بعد الغزو الذي أسقط نظام الرئيس السابق صدام حسين سنة 2003، فإن العراق دخل –بشكل واضح- في (غيبوبة اقتصادية) ولم يُفق منها حتى الآن.
ويؤكد نوردلاند أنّ (جبل الدولارات) هذا جرى إنفاقه على الغزو، والاحتلال، وأيضاً على تدريب وتجهيز القوات الأمنية العراقية، وعلى ما سُمّي جزافاً (المشاريع الطموحة) لإعادة بناء العراق في كل محافظة في محاولة لإعادة بناء البلد الذي دمّرته الحرب والنزاعات الطائفية، ومن ثم الابتداء من جديد في حركته الاقتصادية.. وهذا ما لم يحصل حتى الآن!.
وإلى الآن، ومنذ أنْ صفـّتْ، أو (كنست) الحكومة العراقية التي أعقبت نظام صدام، جميع مظاهر الحياة التجارية القديمة التي تعتمد على (البناء الذاتي) بحكم ظروف الحصار الاقتصادي السابقة، ودعت الشركات من مختلف دول العالم، لم تكن الولايات المتحدة، كما يؤكد المراسل ضمن ألـ32 دولة، وتلك مسألة يقف عندها المراسل الأميركي!.
ويؤكد أن هناك 396 شركة أجنبية، عرضت سلعها وبضائعها في معرض بغداد الدولي هذه السنة. وطبقاً لذلك يقول هاشم محمد، المدير العام لمؤسسة المعارض العراقية الحكومية: ((هناك ممثلون لشركتين أو ثلاث شركات أميركية، لكنني لا أستطيع أن أتذكر أسماءها)).
ويرى مراسل النيويورك تايمز أن المعرض التجاري السنوي الكبير في بغداد، يروي قصة الحقيقة المزعجة التي تقول: إن حرب الأميركان، كانت جيدة للعمل التجاري في العراق، لكنها ليست جيدة بالضرورة للتجارة الأميركية، فشركات الولايات المتحدة لا يكاد يكون لها حضور مرئي في الاستفادة من عمليات الاستثمار في العراق. وبعض الأعمال التجارية الأميركية قد وضعت حساباتها في ضوء الكلفة العالية للقضايا الأمنية، والخوف من تحويل العنف للأرض العراقية الى (منطقة حرام) يصعب الاستثمار فيها. وحتى تلك الشركات الأميركية (المهتمة بقضية الاستثمار في العراق) والتي تريد فعلاً أن تأتي، تجد أن سمعتها كشركات أميركية كبيرة (تعوقها) عن الإقدام على ذلك بسبب (تزايد الطلب في العراق على السلع الرديئة)، الحال التي ازدهرت في السنوات الأولى للاحتلال، إضافة الى التخوّف من (المعيق الآخر) الأكثر خطورة، وهو (الكراهية) الدائمة وواسعة الانتشار في العراق لكل ما هو أميركي.
وبينما تضاعفت تقريباً واردات العراق في سنة 2008، ووصلت الى ما يعادل 43.5 مليار دولار عنها في سنة 2007 نحو 25.67 مليار دولار، فإن الواردات من الشركات الأميركية بقيت عند سطح 2 مليار دولار على مدى الفترة نفسها. ووسط المستثمرين، فإن الإمارات العربية المتحدة تقود هذا الحقل، إذ تستثمر في العراق 31 مليار دولار، معظمها في سنة 2008، مقارنة بـ(فقط) 400 مليون لاستثمارات الشركات الأميركية، بينما كانت حكومة الولايات المتحدة (حصرياً) هي التي تنفق على إعادة البناء في العراق، طبقاً لـ(مستشاري حدود دنيا الاستثمارات) مؤسسة التحليل البارزة للأسواق الدولية. ويقول تقرير حديث لـ(دنيا): ((بعد فترة السيطرة الأولية الأميركية على إعادة البناء، يأتي مستثمرو القطاع الخاص الأميركي كلاعبين تافهين في العراق)).
وفي الحقيقة –يقول نوردلاند- حتى هذه الشركات التي نجحت أثناء الحرب والاحتلال –بما فيها شركات المقاولين العسكريين الكبار- سوف تغادر العراق مع إكمال القوات الأميركية رحيلها عن البلد في بحر السنتين المقبلتين. وكانت شركة KBR من بين المقاولين الذين بكـّروا بالعمل في العراق، ولها عقود بمبلغ 33 مليار دولار لدعم القواعد العسكرية. ولحد الآن لم تحصل على أي عقد مع الحكومة العراقية، لدعم تلك المنشآت عندما يتسلمها العراقيون، أو لبناء أي شيء آخر في البلد!. ويقول الناطق باسم الشركة هيثر براون: ((إنّ KBR تقيم حالياً بيئة العمل في العراق، لكي تتخذ قراراً معلوماتياً يتعلق بفرص التعاقد المحتملة مع الحكومة العراقية)).
ويؤكد المراسل أنّ بضع شركات (متعدّدة الجنسيات) أميركية كبيرة، مثل (بيكتل) مازالت وسط المشاريع طويلة الأجل، كمنشآت الكهرباء، وأعمال المياه، لكن تلك المشاريع عبارة عن تعهدات لخمس أو عشر سنوات، بدأت بمساعدات إعادة البناء الأميركية. والعراق الآن، بصدد إنفاق أموال وارداته النفطية على مشاريعه الكبيرة، والشركات الأميركية –وهي مندهشة من هذا الموقف- لم تتسلم إلا القليل منها؛ ثمة مشروع الرياضية، لبناء منشآت ملعب دولي (ستوديوم) ومشاريع إسكان في البصرة بمبلغ مليون دولار، لاستضافة ألعاب الخليج سنة 2013، كانت قد منحت الى المقاول العراقي علي الجبوري، برغم وجود 60 شركة قدمت عروضها، معظمها أميركية.
ونقل مراسل الصحيفة عن عدي السلطاني، مساعد رئيس الشركة، الذي كان يتحدث بفخر قائلاً: ((لدينا شركتان أميركيتان كمقاولين ثانويين)). ويؤكد أن وزارة النقل عندما رفعت مؤخراً عقود توسعة سكة الحديد بكلفة 30 مليار دولار، أصبحت من حصة شركات جيكية، انكليزية، وإيطالية. وكل تلك الدول كانت جزءاً من التحالف الذي قادته الولايات المتحدة لغزو العراق، لكنها انسحبت من العراق قبل وقت طويل. لكنّ أحد أكبر المستفيدين من أموال العقود العراقية هي تركيا التي لم تسمح للطائرات الحربية الأميركية استخدام القواعد العسكرية التركية خلال الغزو. وتأتي بعدها بالدرجة الثانية إيران.
وبالنسبة لتركيا التي يؤكد مراسل النيويورك تايمز أنها لم تكن لها تقريباً تجارة مشروعة مع العراق قبل الحرب، وصلت صادراتها الى العراق السنة الماضية الى نحو 10 مليار دولار، أي خمس مرات أكبر من الولايات المتحدة. ويتوقع وزير التجارة التركي كوردساد توزمان، أن يصل المبلغ الى ثلاثة أضعافه في السنة المقبلة. وكلا الدولتين الجارتين للعراق تركيا وإيران، لهما أجنحة ضخمة في معرض بغداد الدولي، وهما مليئان برجال الأعمال الذين يناقشون عقد صفقات جديدة. وهكذا تفعل فرنسا، والبرازيل، وهما أيضا ليستا دولتين مشاركتين في التحالف العسكري الذي غزا العراق بقيادة الولايات المتحدة.
والشهر الماضي، أعلنت شركة فيداكس FedEx المتخصصة بالنقل السريع للرزم من وإلى العراق منذ سنة 2004، أن عملياتها عُلقت في العراق. والسبب –كما تقول النيويورك تايمز- هو أن المسؤولين العراقيين، أعطوا روسير RusAir، وهي شركة خطوط جوية روسية، الحقوق الحصرية لشحنات الرزم عبر النقل الجوي. وأوضح نوردلاند أن فيداكس كانت واحدة من شركة الأعمال الأميركية القليلة التي غامرت بشجاعة في العمل، ليس فقط في القواعد الجوية الأميركية، ولكن أيضا في المنطقة الحمراء، وكان عمل مثل ذلك فيه مخاطر فادحة. والآن بعدما أصبح الخطر أقل بكثير، تأتي شركة مبتدئة روسية وتختطف عملها. وعلقت الشركة على ذلك بقولها: ((إن شركة فيداكس إكسبرس، لم يكن لها خيار آخر، ولكن بعد استخدام شركة روسير، فإن النتيجة هي أنّ مصداقية خدماتنا ان خفضت في العراق بشكل جوهري)).
وأوضح مراسل صحيفة نيويورك تايمز أن هناك قولاً تؤمن به أوساط العراقيين، تلخصه استطلاعات الرأي بتأكيدهم أن الولايات المتحدة غزت العراق ليس لإسقاط صدام حسين، لكنْ لتستولي على نفط بلادهم. وإذا كان ذلك صحيحاً –يستنتج المراسل- فإن الحرب فشلت، بطرق أكثر من تلك التي يركز عليها النقاد في الولايات المتحدة وأوروبا. وحتى الأسبوع الماضي، كان عقد استغلال الحقل النفطي الكبير الرئيس، قد وُقع مع شركة أجنبية (بريتيش بيتروليوم British Petroleum( في صفقة مشتركة مع مؤسسة النفط الوطنية الصينية الحكومية.
وكانت شركة إكسون موبايل، الشركة الأميركية، قد حصلت صفقة حقل نفطي، وتنتظر الموافقة النهائية من وزارة النفط. أما عملاق النفط الإيطالية Eni، وشريكتها الأصغر أكسيدانتل بيتروليوم، يُتوقّع لهما أن توقعا صفقة مشابهة. وهي –في كل الأحوال- عقود خدمة، ولهذا فإنّ الشركات الأجنبية لا تمتلك أية حقوق خاصة لنفط قد يعثرون عليه.
ويقول المراسل إن أحدث طبعة للدليل التجاري العراقي، والخاص فقط بالأعمال التجارية ليس فيه إعلان واحد من شركة أميركية. والمسؤولون الأميركان الذين تحدثوا للصحيفة بشرط السرية، لأنهم لم يكونوا مخولين للحديث المسجل، عارضوا أن تكون الشركات الأميركية تواجه وقتاً صعباً في الأسواق الحرة العراقية. ويقول أحد هؤلاء المسؤولين: ((أنا لم أقرأ الكثير عن الحضور الأميركي، أو غيابه عن معرض بغداد التجاري الدولي. لهذا أقول إن المستقبل سيكون إيجابياً جداً)).
وأشار مسؤول آخر الى أن مؤتمر الاستثمار العراقي-الأميركي الأخير الذي عقد في واشنطن، أثار اهتماماً كبيراً في أوساط الشركات الأميركية. وأوضح قوله: ((كان علينا أن نمنع نحو مائة شركة أرادت أن تشارك في المعرض)). وأكد أن السفارة في بغداد، تتحقق من أشياء كثيرة من الشركات التي تروم الحضور الى العراق. ولهذا فإن اهتمام الشركات الذي أشرنا إليه لم يترجم الى عمل حتى الآن.
ويقول مايك بولين، المحامي في شركة DLA Piper البريطانية-الأميركية، والذي يعمل في العراق: ((بعد المؤتمر في واشنطن، فاجأني أن المرء يستطيع أن يركب طائرة إلى هنا ليفكر في كل الفرص المتاحة)). وأوضح قوله: ((إنه لمن الخطأ القول إننا لا نستطيع المجيء بشركات أكثر. إنْ لم يأتوا سيخسرون الفرص، ويتركونها للشركات التركية والروسية وغيرها)).
ونقلت الصحيفة عن المدير التنفيذي لشركة (عراقيا)، وهي شركة بناء عراقية بارزة، وتعمل غالباً مع الأتراك: ((إن الشركات التركية، مقبولة لمختلف المجموعات الإثنية في العراق، لأنهم ليسوا محتلين، ولهذا يستطيعون تنفيذ الكثير جداً من مشاريع البناء، بكلف منخفضة)). وبيّنت الصحيفة أنه لم يشأ التعريف بنفسه، خوفاً من انتقام زبائن أميركان مؤذين.
وحتى الأكراد العراقيين، فإن الكثيرين منهم، برغم خلافهم مع تركيا، يبدون حريصين على أن يكونوا عمليين مع الأتراك، عندما يتعلق الأمر بالصفقات التجارية. وفي هذا الصدد يقول إيرن بالامير، المسؤول عن الجناح التركي في معرض بغداد الدولي: ((إن الشركات التركية لا تخاف أن تتولى أية أعمال في العراق)).
وشدّدت الصحيفة على أن الكلفة العالية لتوفير الأمن –وهي الكلفة التي لا تمتلكها الكثير شركات الأعمال الإقليمية- حذرت الكثير من الشركات الأميركية من المجيء الى العراق؛ وبعض عقود إعادة البناء، أنفقت ما مقداره 25 بالمائة من ميزانيتها الأمنية على قضايا توفير الأمن للأعمال التي تقوم بها.
ويقول نوردلاند إن الأمن ليس العائق الوحيد. وبالطبع أن الظهور بوجه المحتل، لا يجعل الأمر جيداً بالنسبة للعمل. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة –كحديث قانوني- لم تكن قوة محتلة منذ أن أنهى مجلس الأمن الدولي الاحتلال بشكل رسمي في حزيران 2004، فإن الكثيرين ينظرون بهذا الاتجاه. وحتى رئيس الوزراء نوري المالكي –تقول الصحيفة- يصف الأميركان بالمحتلين، لتعزيز موقفه الانتخابي.
وثمة سفير أوروبي –تحدث بشرط السرية، بسبب متطلبات سياسة حكومته- يقول إن فرص تجارة بلده تزايدت بشكل كبير في العراق، بعد أن سحبت بلاده آخر قواتها منذ أكثر من سنة. وأضاف: ((أن نعدّ محتلين في العراق، كان أمراً يعطـّل مصالحنا تماماً. بقدر ما نبتعد عن هذه الصفة، فإن شركاتنا، يمكن أن تكون مقبولة، طبقاً لاستحقاقاتها)).
ويقول مارك زيبفات من مؤسسة البحث الوطنية في نيوجرسي، والمتخصص في السوق العراقية للمستثمرين المؤسساتيين: ((كشركة أميركية، فأنك تجد مصاعب تواجهك، قبل أن تخطو خطوة واحدة في مطار بغداد)). وأضاف إن الحكومة والشركات الأميركية، يجب أنْ تنهض، لتدرك أنها ليست في وضع مميّز أكثر من غيرها)).
وأكد زيبفات قوله: ((حتى الاستشاريين المختصين في الخارجية الأميركية، لا يساعدون أيضاً)). ويشدّد على القول: ((إنهم في الحقيقة ينصحون رجال الأعمال الأميركان بأنْ لا يأتوا الى العراق)).