أرشيف - غير مصنف

الرمل والموج مقاربة للتجليات الفكرية والنفسية عند الإنسان العربي الحديث

يا شجر الصفصاف إن ألف غصن من غصونك الكثيفة

 

                                                 تنبت في الصحراء لو سكبت دمعتين

                                                 تصلبني يا شجر الصفصاف لو فكرت

                                                 تصلبني يا شجر الصفصاف لو ذكرت

                                                 تصلبني يا شجر الصفصاف
                                                لو حملت ظلي فوق كتفي وانطلقت

                                                                       صلاح عبد الصبور

 

 

 

“إذا لم يكن الوجود إلا جنة أو جحيما فإنه لن يكون إلا رهانا، وسيكون هذا الرهان بليدا ومضحكا ولا يليق بالإنسان”

                                                                               أدونيس

 

لصلاح عبد الصبور في الشعر الحديث وثبات ، وله في رصد الأفكار والمواقف قفزات، وفي الإفصاح  عن العواطف بينات، وفوق ذلك كله إبراز المكبوت وتعرية اللاشعور ولاشك أن قصيدته “الظل والصليب ” من أجمل قصائد الشعر الحديث ، فهي كما أسميتها في مقال آخر لي ” بورتريه الوجدان العربي ” .

ولسنا بصدد نقد هذه القصيدة وبيان جمالياتها، وتجلية مكنوناتها ، وحسبنا منها الأسطر التي أثبتناها في رأس المقال ومنها استلهمنا العنوان.

أما أدونيس فهو أبو حيان العصر ومن حسن حظ العرب أن لهم شاعرا ومفكرا بحجم أدونيس  ولكن الدوغمائيات العربية نفته حقيقة ومجازا إلى باريس واستعضات عنه بمهرجين ومشعوذين لتواصل الأمة السبات إلى إشعار آخر.

إنه من الواضح لكل من قرأ هذه القصيدة أن الدلالة التي يقف عليها بالنسبة لشجرة الصفصاف هي الجدب أو الخصاء والعقم، وفي المقابل تكون دلالة الخوخ والبرقوق هي الخصب أو الفحولة والإثمار.

إننا- العرب- كغيرنا من شعوب العالم ندخل ألفية جديدة ونستهل قرنا جديدا هو القرن الواحد والعشرون  وإذا كانت شعوب العالم المتمدن قد بطرت من حضارة أتت أكلها ، وأترفت من رفاهية بلغت المدى في الكمال والرقي، وإذا كان هذا القرن هو قرن الانفجار المعلوماتي والتطور المذهل للعلوم والاكتشافات ، خاصة وإنسان اليوم يفكر في غزو المريخ ، ويتلاعب بالشفرة الوراثية ،  ويجرب أشكالا مستحدثة من الدولة لا تقوم على أساس الدم، وإنما على أساس المواطنة، حيث تذوب الفوارق بين الأسود والأبيض وذي الأصول الهندية والإفريقية، وقد أعطت أروبا بنفسها المثل إذ تجاوزت عصر القوميات، ولم يعد هناك ولاء قومي بالمعنى الضيق للكلمة وإنما ولاء لأروبا  بأسرها، على الرغم من تباين ألسنتها وعقدها التاريخية، إن العالم يجرب أشكالا حديثة من الدولة، ويطور مفاهيم الحرية والمواطنة والديمقراطية والدين كعقيدة أو عقيدة وممارسة معا، ويعضد هذا التطور الإنساني تطور مذهل في العلوم والاكتشافات خاصة في مجال الهندسة الوراثية،وبحوث فيزياء الكم، وفي محاولة فهم الكون وسبر أبعاده، وغزو أكبر عدد من أجرامه وأخيرا وليس بآخر هذه الثورة الرهيبة في حقل المعلوماتية والأنظمة الرقمية، حيث غدا العالم قرية بالفعل، ولم يعد هناك ما يخفى وما تتستر عليه الأنظمة والدول، وإننا نشبه هذه الثورة بالسوبرونوفا، هذا الانفجار النجمي الذي يؤدي إلى نمو وتوالد عوالم جديدة، كذلك سوبرونوفا المعلوماتية التي أدت بالفعل إلى تشكيل عالم جديد، حيث نعيش الآن في خضمه، وغني عن البيان أن هذا العالم الجديد الذي صاغته الثورة المعلوماتية يعيد تشكيل البنى التحتية والفوقية للمجتمع، ويدخل عنصرا فعالا في إحداثيات الإنسان والمجتمع ، ولم يخطى خبراء أمريكا ومنظروها وإستراتيجيوها حين وصفوا هذا العالم بالنظام العالمي الجديد، ولما كانت أمريكا هي مصدر ثورة المعلوماتية، وكانت جل البحوث العلمية الثورية والاكتشافات الفريدة أمريكية المولد، كان هذا البلد القارة أو كانت هذه القارة البلد هي سيدة النظام العالمي الجديد، وأغرت هذه الهيمنة الآنية بعض مفكريها خاصة هنتنجتون وفوكوياما، هذا الأخير الذي اعتبر الصعود القوي لأمريكا ، ونهاية الإيديولوجية الماركسية اللينينية نهاية للتاريخ، أي أن هذه الصورة التي نمذجتها أمريكا لنفسها وللعالم هي الصورة النهائية للعالم ولن يعرف التاريخ تناقضات أخرى تؤدي إلى ولادة صور أخرى، وكأن أمريكا صارت بتعبير علماء الفيزياء تحدبا زمكانيا كبيرا يجعل كل الأجرام السياسية والاقتصادية والثقافية لا تنفلت من قبضته، فهي ثقب كبير ماص للحرارة والضوء وكل أشكال الطاقة .

وفي هذا العالم الذي صار قرية وبلغ فيه الرقي مداه والتطور العلمي والتقني غايته، يعيش الناس في المجتمع العربي في حالة سكونية وقد صفحت أجسادهم ضد الحرارة كما قال نزار قباني، حياتهم الاجتماعية تفسخ وتحلل وطبقية جائرة، وحياتهم السياسية استبداد وقمع وتلاعب بالسلطة وإزهاق للحريات واعتداء على حق المواطنة بله والكرامة الآدمية، وحياتهم العلمية مغيبة ، فقد كف العقل عن العمل وقامت مقامه الغريزة ، فالأمة العربية لا تقرأ ولا تكتب ، ومجموع ما يصدره العالم العربي من كتب وما ينشره من ثقافة لا يضاهي دولة أروبية واحدة هي إسبانيا ، وأما الحياة الدينية فقد لحقها المسخ والتشويه والرياء ، فهم الناس من الدين طقوسه و أفرغوه من محتواه وتعلقوا برماده على حساب وهجه وإشعاعه ، فقد غاب الاجتهاد وضعفت الثقة بالنفس إزاء السلف ، وأعدم الحاضر والمستقبل ليعيش الماضي ، وأصبح الشارع العربي مزقا وخرقا بالية من كل لون ومن كل لحمة وسدا جمعت إلى بعضها البعض بشكل قسري وفي عجلة فغدا الأمر هزأة ، لباس أروبي إلى جانب لباس أفغاني وسفور إلى جانب تزمت حجب حتى اليدين والعينين ، وذقون حليقة إلى جانب ذقون مرسلة اللحى ذات إيديولوجيا لا تخفى تستفز وتناور، وقصور مترفة جنبا إلى جنب مع أكواخ معدمة ، ودعارة تجارية تمظهرت في أشكال الغناء المنحطة والقصص المنحلة ، وشبكة تتاجر في الرقيق الأبيض وفي المخدرات ، وعصابات وثيقة الصلة بأنظمة الحكم وبتواطؤ غربي تنهب المال العام تحت مسميات الاستثمار وتدعيم الرساميل الوطنية والتعاون – شمال جنوب – والنزيف يتواصل والثروات الوطنية تستنزف والخبرات العلمية والكفاءات الحقة تواصل نزوحها إلى الغرب هربا من الكذب والرياء والنهب المقنــن .

وفي هذا التناقض الصارخ وفي خضم هذه المأساة يعيش الناس بلا هدف ويلهثون وراء اللاشيء ، وقد ضلوا عن الوسيلة والغاية معا،  وأصبحت الحياة العربية حياة الضرورة أو حياة الغريزة ، يعيش الناس لأجل العيش و أصبح الكدح ينتهي عند الإيفاء بضرورات العيش من مأكل ومشرب وأصبح الطموح المعنوي ضربا من الخبل ، وفي مجتمع كهذا يصبح العمل روتينا مملا ، ويغدو الفرد العربي في كدحه كسيزيف يكدح بلا معنى ، أما الحرية والفن والثقافة وهي مظاهر التميز الإنساني      وغايته فتصبح أشياء عفا عليها الزمن وأدتها ضرورات الحياة .

إن حالة الواقع العربي هي حالة الحطام المفتوح ، فالتخلف ليس قدرا مؤبدا ورجعية الإنسان العربي ليست صورة نهائية له ، وأمام كل واحد منا تحديان أولهما ما وصل إليه الغرب من  تقدم موضوعي ومعنوي إلى الحد الذي تجاوز فينا حاجاتنا ، فإذا كان الاختراع وليد الحاجة، فإننا نغزى باختراعات تخترع فينا حتى الحاجات ولا مناص من الإقرار بخطورة الموقف ولا مخرج من هذه الورطة إلا باعتبار الحضارة الحديثة هي حضارة إنسانية واستفادتنا منها باسم القواسم الإنسانية المشتركة ويكون السلوك الحضاري هو كيفية التعامل مع منتجات الحضارة بشكل عقلاني ومنطقي .

وأما المتحدي الثاني فهو إسرائيل ،إذ أن وجودها في المنطقة العربية هو استفزاز دائم ، وإحساس عارم بالخيبة واليأس، ودعك من مقولات السلام المعسولة التي تتشدق بها أمريكا ، وينافقنا بها حكامنا الذين ضيعوا القضية الفلسطينية ضمانا للسلطة وحفاظا على كراسي الحكم ، وفي وضع كهذا يصبح التضامن العربي واجبا ليس كدعوى سياسية يائسة كتلك التي تتحدث عنها الجامعة العربية ووزارات الخارجية في الدول العربية ، فما هي إلا كلمات جوفاء ، لم تعد تقنع أبسط إنسان في الشارع العربي ، إنما التضامن العربي هو تضامن الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج وتزاوج خفقات القلوب ووحدة التصور ووحدة الوسيلة والغاية معا ، وهذا التضامن يتمظهر في الشراكة الاقتصادية الفاعلة ، والشراكة التربوية والثقافية والعلمية ، لينشأ جيل عربي جديد موحد المشاعر والأفكار والرؤى ، حياته الاجتماعية متجانسة لا أثر للطبقية الجائرة ولا إلى الإيديولوجيات المتناقضة ، ولا أثر لهذا التفسخ والانحلال الأخلاقي والاجتماعي ، والتبعة هنا تقع على المثقفين ، ومما يؤسف له أعمق الأسف أن المثقفين عندنا يهدم الواحد منهم عمل الآخر ، ويشرق أحدهم بينما يغرب الآخر ، وأصبح المواطن العربي حائرا بين دعوة سلفية عبثية أو دعوة تقدمية عدمية ، بين ماض هو السراب ومستقبل هو العدم ، بين دعوة ليبرالية براغماتية تلفيقية إذ وحدت بشكل عبثي بين الرأسمال التجاري والرأسمال الرمزي (الديني والثقافي ) لتري الغرب شكلا يرضى عنه وهذه حداثة واهمة، ودعوة يسارية عفا عليها الزمن احتارت بين الصعود الكاسح للعولمة وقناعاتها الفكرية فأصبحت إما التنديد اليائس بأمريكا وإمبرياليتها وإما التنديد بحمق المواطن العربي ونذالة الحاكم ، ولا تجد هذه الدعوة من بلسم تبلسم به جراحها إلا الشتم والسباب للمجتمع و أعرافه وقيمه وتقاليده .

ودعوة أخرى أصولية سلفية أو سلفية علمية أوما شئت من المسميات وهي دعوة إلى دفن الرأس في أجداث الماضي ، واطراح العقل والاستعاضة عنه بالحواشي والمتون والتميز عن العالم  بشكل من اللباس يزعم أنه الدين الحق ، والوجود الإسرائيلي وعربدته في المنطقة العربية يعطي لهذا الاتجاه شرعية الوجود ، باعتباره يمتلك إيديولوجيا الكفاح ويتمظهر في فلسطين في حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس وحزب الله في لبنان ، وفي أفغانستان في حركة طالبان الرافضة للوجود الأمريكي وإمبرياليته وفي الخليج العربي في جماعات مسلحة تندد بالوجود الأمريكي والمجازر الإسرائيلية ومن حين لآخر تقوم بأعمال مسلحة تحظى باحترام المواطن العربي وتقديره .

ويمكن إدراج  دعوة أخرى في هذا الاتجاه هي دعوة التصوف التي يحلو للكثيرين منا ترويجها على أنها حقيقة الإنسان والوجود والدرة التي لا يلتقطها إلا كل غواص في غياهب الفكر وأعماق الوجدان وإذا كانت الدنيا دار خسار وتباب أو غفوة والموت هو الصحوة والحياة الأخرى هي الحق والمبتغى فإن العاقل هو الذي يدير ظهره لدنياه مقبلا على آخرته مجاهدا جائعا حافيا في رحلة التطهر والعرفان لنيل المراد ولهم في ذلك مصطلحات هي أشبه بالطلاسم : الوجد ، العرفان ، المقام ، المريد …الخ

ويذهب أصحاب هذه الدعوة إلى نقد الحياة الغربية وبيان ما فيها من نزعة مادية طاغية غيبت الروح ووأدت الوجدان ، وما يميز هذه الحياة من تفسخ وتحلل وأمراض نفسية وقلق وإحساس بالتخمة مع فقدان شهية الحياة، وإذا كان بعض مفكري أروبا قد نشدوا الراحة في إعلان إسلامهم، أو لاذوا بمذاهب إشراقية أو تيارات روحية هندية وحذا حذوهم جمع كبير من الناس، فإن أروبا إن تصوفت برمتها فلها أساطيل تحمي حريتها وتدافع بها عن كرامتها، ولها مصانع لا تكف عن الإنتاج وعقول لا تتوقف عن الإبداع، لقد اجتازت أروبا مرحلة المنعطفات منذ العصر الصناعي وقيام الثورة الفرنسية .

أما نحن فإن التصوف هو أفيون يديم غفوتنا ويزيد من عمر الأزمة ونحن مازلنا في مرحلة المنعطفات الكبرى، وهذا الاتجاه عبث وإذاعة للجهد وهدر للوقت.

إن الجهود الثقافية يجب أن تتوحد لتصب في مجرى واحد هو مجرى العقلانية والتفكير العلمي الصحيح الذي يستأصل الكهنوت والدجل والشعوذة، ويعيد للإنسان العربي ثقته بنفسه واطمئنانه إلى ملكاته لا يتزعزع أمام الماضي أو يخجل من نفسه، ومن شأن الفكر العلمي إذا شاع في الأمة العربية أن يحررها من الخوف من المغامرة ومن التبعية للماضي، ويذكي فيها روح البحث والتفكير ويدمر فيها روح الجمود والتقليد والاجترار، وستدرك الأمة أن كثيرا من تراثها يجب أن يختفي غير مأسوف عليه لأنه لا يضيف جديدا إلى المضمون الحضاري بل يعرقل ويدجن ويضلل.

ومن شأن الفكر العلمي إذا ساد في الأمة أن تتعلمن السياسة(أي تصبح علما) تقوم على المعرفة الأكاديمية والخبرة السليمة وكذا دراسة الواقع الاجتماعي بله والتاريخ العربي ليدرك الذين يريدون العودة إلى مجتمع السلف أن ذلك ضرب من الوهم، لأن الإسلام ودولته أي كما تمظهر في مجتمع النبي والخلفاء الراشدين لم يكن مجتمعا طوباويا أويوتوبيا إسلامية، فهو مجتمع له عثراته وتجربة محكومة بظروفها التاريخية والسياسية. ومن العبث محاولة إحيائها اليوم لأن ذلك بمثابة وضع العربة أمام الحصان كما يقول الفرنسيون.

وأما الصراع العربي الإسرائيلي فهو مظهر من مظاهر الخيبة العربية ويأس النخبة، وهو التحدي الخطير لنا جميعا.

إن وضعنا الحالي هو مجتمع ذو شكل بلانكثوني ( بتعبير علماء الأحياء) لقد صرنا مثل تلك الكائنات الدقيقة المجهرية (البلانكثون ) ويبدو أن إسرائيل هي السمك الذي يتغذى على تلك الكائنات في ظل نهاية الإيديولوجيا الاشتراكية والمد الكاسح للعولمة في طبعتها الأمريكية وضعفنا وشللنا الإبداعي وعطالتنا الفكرية، ويأخذ هذا التصور دلالته في سقوط بغداد إن ذلك يعني سقوط ورقة التوت عن أجسادنا فظهرنا للعالم عراة- على حقيقتنا- سلمنا بغداد إلى جنكيزخان فعاث فيها فسادا ذبح أبناءها واستحيا نساءها وألقى بتراثها الحضاري ذي الثلاثة آلاف سنة في نهر دجلة تماما كما فعل سلفه في الزحف المغولي، ولم ينطق حكامنا ببنت شفة ولو تنديدا بالجرائم الأمريكية- بتوجيه إسرائيلي لا يخفى في ضرورة تدمير هذا البلد العربي- لقد تحولت الأنظمة العربية الفاقدة الشرف والعذرية إلى عشيقات رخيصات للبيت الأبيض، وكان كل همها في هذه النكبة- وهي حقا نكبة ثانية بعد نكبة فلسطين عام 1948 م- كان كل همها مواصلة التضليل وخداع الناس بتسليط الضوء على حزب البعث في العراق وجرائم الديكتاتور- وكأنها هي أنظمة ديمقراطية ، وكأن أمريكا على حق في احتلالها العراق لإزالة البعثيين وإزالة الديكتاتور- ضاربة الصفح عن واجبها في مقاومة هذا الظلم الأمريكي وجرائم البيت الأبيض وزبانيته من المارينز، وتواصل الأنظمة العربية تشدقها بعبارات السلام، وهي حقا كما وصفها نزار قباني بالمهرولة، وأي سلام مع دولة عنصرية تستند في وجودها إلى خرافات قديمة وأباطيل توراتية، تغتصب الأرض وتبيد الإنسان؟ إن السلام الآن عبث والحديث عنه حديث عن السراب بسبب اختلال موازين القوة والعرب في حالة وهن وضعف، ولا مخرج من هذا الضعف إلا بتقدير العلم ( أقول العلم بالمفهوم الكونتي) وإشاعته في المجتمع العربي وإقامة مراكز البحوث العلمية وزيادة حجم الإنفاق عليها، كما ينبغي دمقرطة الحياة السياسية بأن تكون السياسة علما وخبرة والأجدر هو الذي يكون مسؤولا ، لا الاعتبارات القبلية والعشائرية،ولا يخفى على أحد أن الحكم العربي يستند إما إلى الدعوة القريشية(القرب من آل الرسول) أو إلى المدفع

( الحكم العسكري ذي البزة المدنية).

ويلف هذا الحكم نفسه بدوائر من التكتلات العسكرية والمالية والبيروقراطية لتبادل المصلحة، وهي أشبه بالطحالب التي تنتشر أمام المنبع .وتسير الدولة وفق هذا الواقع على التضليل والتنكر للأزمة والمناورة وضرب المعارضة بعضها بالبعض الآخر، وإشاعة الخوف بين الناس بالقمع والسجن والقتل أحيانا. إنها دولة غريزية لا دولة عقلانية، مازالت في طور الحيوانية لم ترتق إلى المرحلة الآدمية ومن شأن الفكر العلمي إذا ساد أن يقوى الاتجاه الرشدي( نسبة إلى ابن رشد) وينكمش اتجاه الغزالي، إن العقل هو أثمن ما في الإنسان وهو قسمة عادلة بين الناس في كل زمان ومكان، والعقل الحر المرن الخلاق لا يقبل تقليدا ولا أسطرة تنزل منزلة الحقيقة الموضوعية والعلمية، إن أهم ما جاء به الإسلام هو الدعوة إلى التفكير وإعمال العقل، وفوق ذلك فانه يعطي المعنى للوجود الإنساني ، فالله خالق الكون، والإنسان خليفته وقد حمله الخالق أمانة هي العقل ، وقد امتدح القرآن المفكرين وذم المقلدين ، وقصر خشيته على العلماء ، وشهد أنه لا إله إلا هو وملائكته وأولو العلم قائما بالقسط ، وهذه المفاهيم الثورية في تاريخ الأمة العربية من شأنها أن تذكي روح البحث وتحرك الوجدان نحو المغامرة، وتغري العقل بالتفكير وإيجاد الحلول والبدائل للمآزق الراهنة، لا قصر الإسلام على امتداح السلف والاجترار من الكتب القديمة، وإشاعة نوع من اللباس للرجل والمرأة زاد في تشويه صورة الإسلام عند الآخرين، إن الفكر العلمي يجعل الاجتهاد ضربا من النشاط العقلي الفردي، دون المرور بالمراتب الكهنوتية ورجال الإكليروس، والخطأ ليس نهاية العالم بل تجربة تعقبها محاولة عقلية أخرى سعيا نحو الحقيقة ونشدانا للتوافق بين النظرية والواقع.

وأمام الأنظمة العربية والمجتمات العربية ككل تحدي خطير، هو اللاتجانس في المجتمع العربي، فإذا كان التجانس هو ميزة الغرب فالإنسان الفرنسي في باريس هو الإنسان الفرنسي في قرية فرنسية، تفكيرهما واحد بالتقريب( أي الاحتكام لنتائج الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان، فضلا عن كونهما ينعمان بالتساوي بثمرات الحضارة وطيبات المدنية .

أما عندنا فاللاتجانس هو ميزتنا فالقصر الباذخ إلى جانب الكوخ الحقير، والسيارة الأنيقة إلى جانب الحمار، والبزة الغالية إلى جانب الأسمال البالية، والفكر العلمي بين أخلاط من الفكر الصوفي والفقهي والأسطوري والتغريبي والسلفي…وهلم جرا.

وحياة اجتماعية ميزتها الطبقية الجائرة، أناس من السلطة والمتصلين بها يمتلكون الثروات الطائلة- بغير وجه حق- والخصاصة للآخرين وأناس لا يجدون لقمة يتبلغون بها، ونساء يمارسن الدعارة جلبا للقوت، وشباب عاطل عن العمل يمتهن السرقة ويغرق مأساته في السكر والمخدرات والجريمة، ويفكر ويسعى ويكدح في سبيل الهروب إلى الغرب حيث الرزق والرفاهية.

ومنظومات تربوية مستهلكة لم تنشأ جيلا عربيا هو المنشود إنها مجرد منظومات هرمية للتدجين وملأ القاعات الدراسية بجحافل الشباب ضمانا لهم من التسكع في الشوارع ولو إلى حين .

إن هذه الصورة القاتمة تستدعي تفكيرا وحلا جذريا يخرج بنا من الظلمات إلى النور، ودفعة قوية تجاوز بنا المنعطف إلى الخط المستقيم حيث الأفق ظاهر، أو تخرج بنا من النفق المظلم إلى نور الشمس، ويمكن اعتبار الآية الكريمة ” إن الله لا يغيرما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” هي المنطلق وحجر الزاوية في التغيير المنشود، الذي ينبغي أن يصيب كل واحد فينا، فالفرد هو المجتمع، والفرد العربي الحالي هو صيغة مشوهة ونسخة يكثر فيها الحشو والشطب، وجهودنا ينبغي أن تتوجه إلى تكوين إنسان جديد وإعلان ميلاده والتفاؤل ببشارته هو إنسان عربي يساهم في الحضارة الإنسانية بقدر ما يستفيد منها بلا عقدة أو تنكر للواجب وهذا الفرد ينبغي أن يتطهر من أمراض تحول دون تقدمه ومواطنته بله وإنسانيته ويمكن إجمالها في النقاط التالية:

العقل العربي ذو بنية ميتافيزيقية :

لم يستطع العقل العربي أن يتحرر من ميتافيزيقيته على مر العصور وكر الدهور فهو يخلط بين الدنيوي والأخروي والمادي والروحي ، أو عالم الغيب وعالم الشهادة وإذا كانت الطبيعة التي يحيا فيها الإنسان خاضعة لنواميس قابلة للفهم والإدراك ويمكن ردها في النهاية إلى صيغ رياضية ، فإن العقل العربي يأبى في صلف هذه الحقيقة ، ويظل يرد قوانين الطبيعة إلى قوى غيبية ، وهو بذلك يتنكر لواجبه في كد الذهن واحترام المنهجية السليمة في البحث وملاحظة ظواهر الطبيعة بحياد وأمانة وفهم آلية عملها ومن ثمة إدراك قوانينها وهذا ما يقود حتما إلى الانتفاع بذلك الفهم في اختراع ما ييسر حياتنا ويقوينا على جبروت الطبيعة ، ويذلل قواها لصالحنا .

حقا إن الله خالق الكون وهو لم يخلقه سدى ولا تركه للصدفة العمياء بل أسلمه إلى قوانين صارمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهو بذلك يشعرنا أن هذا الكون مهندس بإحكام مقنن بإتقان ، وهذا ما نجده في نصوص القرآن الكريم 

” والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون “. أو قوله ” الشمس والقمر بحسبان ” …الخ .

” إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لقوم يوقنون ” وهذه آيات داعية إلى النظر الحر والتفكير المتزن ، وهي آيات تثير فينا الحماسة على التحلي بروح المغامرة وتذوق بهجة الاكتشاف ، غير أن العقل العربي لا يتحرر من سلطة النص فهو ينظر إلى الطبيعة وإلى ظواهرها لمطابقتها مع النصوص القرآنية ، اطمئنانا على سلامة النص وصدق مضمونه وغني عن البيان أن هذا ليس بالفكر العلمي ولا بالتفكير الحر ، إنما هو استمرار لتفكير العصر الوسيط ، وإصرار على تعويم العقل في هيولى الميتافيزيقا ، وهي حلقة مفرغة تجعل خط سير التاريخ بالنسبة إلينا خطا دائريا مغلقا ينتهي حيث يبدأ ، ومما زاد الطين بلة ظهور فئة من الكتاب متخصصة فيما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن تكتب الكتب وتلقي المحاضرات وتعقد الندوات وتقارن بين نظريات العلم ونصوص القرآن ، وتؤكد مطابقة تلك الاكتشافات لآيات القرآن ،وهكذا تجد عند هؤلاء الباحثين يقينا أن القرآن يحتوي على نظرية النسبية ونظرية الكم ، وعلم الذرة وعلم الزلازل والبراكين ، والكيمياء والبيولوجيا ، والفلك …إلخ

وفي ظل هذا الانفتاح الإعلامي وتعدد القنوات الفضائية نصادف كل يوم بحاثة جديدا متخصصا في هذا العلم الجديد يجلب إليه الأنظار ويضم حوله الأشياع والمعجبين ، ومما يؤسف له أعمق الأسف أن هذا يسمى عالما جهبذا وما يقوم به هو العلم المحض والفكر العلمي الرشيد ومنذ أن انتبه هؤلاء العلماء – علماء الإعجاز– إلى هذا الحقل الجديد من التخصص لنا أن نسأل ونقيم تلك التجربة ماذا أضافت إلينا ؟ 

وهل نقلتنا من أمة متخلفة إلى أمة متقدمة؟ وهل صار العقل العربي باحثا؟ أم لا يزال معطلا مشلولا يعيش عالة على عقول الآخرين؟

ولن نجيب على هذه الأسئلة لأنها تحصيل حاصل، وهذا ما يؤكد زيف هذا التفكير ، وعرقلته للفكر العلمي الصحيح، وإصرار على عطالة العقل وشلله وقد أصبغ العقل ذو البنية الميتافيزيقيه خاصيته هذه على الماضي والحاضر على السواء فدخل حلقة المقدس وظل يدور فيها، فالحواشي مقدسة وكذا كلام السلف، ودمج العقل الميتافيزيقي بين كلام الله وكلام المفسرين فتقدسا كلاهما وتقدس الماضي وتقدست حتى القبة السماوية ، وأدى هذا إلى تكون سياج دوغمائي ضرب حول العقل والوجدان العربيين فحال دون التجديد والخلق والإبداع ، وجعلنا في النهاية أمة الأقوال لا أمة الأفعال ، وأمة الماضي لا أمة الحاضر ، وأمة التقليد لا أمة الإبداع وأمة الحواشي والمتون لا أمة الدوال والمعادلات .

وقد انتبه حكامنا إلى خاصية العقل هذه فوظفوها لصالحهم فالحاكم هو خليفة الله وظله في الأرض ، وإذا تصادفت زيارته إلى منطقة ما مع سقوط المطر كان هذا رضا ربانيا عنه ، ومباركة لمسعاه وقد سمعنا هذا بالفعل من تلفزيوناتنا العربية ، ووجه الخطر في هذا هو الدمج بين المضمون الديني والسياسي، فاختلط الحابل بالنابل وأصبحنا لا نفرق بين ما هو ديني وما هو علمي وما هو سياسي والفصل بينهما هو البداية الصحيحة والمنطق السليم .

العقل العربي ذو بنية فراغية  :

يجب أن نلفت الانتباه إلى أن العقل ليس شيئا ثابتا جاهزا للوهلة الأولى بل إن العقل متطور وهو يرتكز على انجازات عقول تاريخية ، وهذا يقودنا حتما إلى القول بتاريخية العقل والشيء الثابت في العقل الإنساني هو تلك البديهيات التي تقوم عليها الرياضيات كالكل أكبر من الجزء ، والطرفان المتساويان إذا أضيف إليهما ثابت بقيا متساويين وهلم جرا وهي مفاهيم قارة في العقل الإنساني على اختلاف الزمان والمكان سرمدية متعالية على التحريف والتبديل واحدة عند كل إنسان مهما كان لونه ولسانه وجنسه .

أما القول بتاريخية العقل فهو أمر لا مراء فيه ، ويكفي إثباتا لذلك ضرب هذا المثل من تاريخ العلم ذاته، فأينشتين بعقله الفذ وتفكيره العلمي قد انتهى إلى القول بنسبية الزمان والمكان في النسبية العامة وإلى القول بتحول المادة إلى طاقة في نسبيته الخاصة وهي مفاهيم علمية جديدة خلاقة وثورية ،إن عقل هذا العالم الفذ ما كان ليصل إلى هذه الأفكار العلمية الجديدة والتي تعتبر من مسلمات العلم الحديث لولا الاستنارة بعقول جاليليو و نيوتنن، مورلي وميكلسون وإرنست ماخ في تطورها التاريخي من عصر ما بعد النهضة إلى نهاية القرن التاسع عشر .

وهكذا فالعقل الغربي هو عقل ذو بنية متصلة(كموج البحر) ينظر إلى حقائق الطبيعة ويتعامل مع معطيات الحياة والواقع وفق هذا المنظور المتطور المستند إلى انجازات العقول السابقة  ، أما العقل العربي فهو عقل أشبه بالأرخبيل لا أثر للتاريخية فيه (كحبات الرمل على الشاطئ)، مفاهيم حديثة مع أخلاط من المفاهيم القديمة الدينية واللاعلمية والمتناقضة والعجائبية

والأسطورية ، وكأن هذا العقل تسرطنت مفاهيمه فتحولت إلى مفاهيم سرطانية تنهش بعضها بعضا ، وتعادي بعضها البعض ، وهذا يقود إلى القول بتهافت العقل العربي وبطلانه وزيف مفاهيمه وقد انتهى بنا هذا كله إلى الجدب والخصاء

الفكري ، فلم نضف جديدا إلى العلم ، وفي تاريخنا العلمي من الانجازات الحضارية والاكتشافات العلمية ما كان يدفعنا إلى وصل هذه الحلقة بإنجازاتنا نحن ، لرأب الصدع ، وملأ الفراغ ،ووصل النقاط ببعضها البعض ليتشكل الخط ويسير التاريخ ممتدا نحو الأفق وفق خط مستقيم ، بدل أن يلف حول نفسه وليعود إلى المنطلق وفق دائرة .

تجدر الإشارة إلى أن العقل الإسلامي في عصر الزاهر وبالرغم من العراقيل الدينية كسلطة الفقهاء وهيمنة الأرثوذكسية النصية ، وتزييف المتصوفة ، وبالرغم من العوائق السياسية المتمثلة في قهر الفكر وإلجام روح الإبداع والابتكار بتعاون وثيق بين الحاكم والفقيه وفق قاعدة تقسيم الريع وتبادل المنافع ، أقول رغم كل هذه العراقيل فقد أضاف العقل المسلم إضافات رائعة إلى العقل الإنساني ككل ولم يكتف باستهلاك ثقافة الهند أو الفرس أو الروم واليونان ، ولنا في انجازات ابن الهيثم والبيروني وابن سينا والرازي والخوارزمي والجاحظ والتوحيدي وابن رشد وابن خلدون خير دليل على صحة ما نذهب إليه من رأي ،غير أن مبادرة وصل هذه المحطات الحضارية بعضها ببعض قد انتقلت إلى الغربيين بدلنا وقد أخذ زمام المبادرة كوبرنيكوس ، كبلر ، جاليليو ونيوتن ، بيكون ديدرو وفولتير  وغيرهم .

أما نحن فقد انكفأنا على أنفسنا وتحولنا إلى كائنات طفيلية تعيش على استهلاك الحواشي والمتون مغمضة أعينها عن نور الشمس ، حارمة خلاياها من التجدد في رحاب الطبيعة والزمان .

العقـــل العـــربي عقل متـناقـض : 

إن العقل العربي يتميز بالتناقض وهدم نفسه بنفسه من خلال إثبات الفكرة ونفيها في ذات الوقت بشكل يدعو إلى العجب والدهشة ، بل أنه ليرفض أحيانا الحقيقة حتى البديهيات ويقبل بالخرفات ناهيك عن حقائق العلم ووقائع التاريخ ، ومازلت أذكر ذلك الأستاذ الذي يشتغل أستاذا للبيولوجيا حدثنا مرة عن الزلزال الذي ضرب تركيا بأنه عقوبة إلهية جزاء وفاقا لعلمانيتها وتفسخها وتحللها الأخلاقي واشتد بي العجب ولم أنبس ببنت شفة وتذكرت للتو قول أبي الطيب :

                    وليس يصح في الأفهـام شـيء           
                    إذا احــــتاج النهـار إلى دليــل

وماذا سيكون رد هذا الأستاذ – الذي يشتغل أستاذا لمادة علمية هي البيولوجيا – لو أني ذكرته بتحللنا نحن وطبقيتنا الجائرة وميوعتنا الأخلاقية ،ألا نستحق زلزالا عقوبة لنا ؟  أعوذ بالله أن أكون كمن قال فيهم القرآن ذاكرا طلبهم الغريب ” ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ” ..

إن ميزة التناقض هذه قد جعلت العقل العربي يؤمن بالفكرة وبنقيضها في ذات الوقت ، فهو يؤمن بفكرة علمية ثبتت صحتها وقامت الأدلة العقلية أو التجريبية تؤكد سلامتها ثم ينقضها بفكرة سحرية أو أسطورية لا معقولة  تهدم العقل من أساسه وتنقض أسسه وركائزه .

وما أكثر ما نستمع إلى العالم الجهبذ والأستاذ القدير في محاضراته أو في مقالاته ومؤلفاته فنصدم بتناقضه بين ثنايا الكتاب ، على أن ميزة التناقض هذه قد أخذت منحى خطيرا يسفه الكاتب وما كتب فهو يبدأ داعية إلى التعقل ويشيد بالفكر العلمي، ويمدح التقدم العلمي الحاصل في الغرب، ويؤكد أن ذلك ثمرة المرحلة الوضعية جنتها أروبا  حلوة ناضجة سائغة الشراب جزاء العقلانية والممارسة العلمية الواعية، ثم ينقلب في نهاية عمره درويشا أو متصوفا ينحى باللائمة على أروبا ويندد بماديتها الصارخة، ويتحمس للروحانيات ويؤثر روحانيتنا على ماديتهم ، ويحمد الله أن عصمنا من هذا المد المادي الصارخ ، ولا تفسير لهذه الردة في أرذل  العمر التي تشبه توبة الفنانين والفنانات إلا التسليم بأن ذلك مرده إلى الخوف اللاشعوري من الموت ومن عالمه الجديد المحجوب عن أبصارنا المتعالي عن مداركنا ، وفي وعينا ولا وعينا ترسبات لأشكال العذاب والرعب والقمع والعقاب المتجلية في النصوص الدينية ، والتي تصيب الإنسان في آخر عمره بالنكوص والتردد والقلق والخوف الغريزي ويكون المخرج من هذا المأزق الوجودي والمعادل الموضوعي هو الردة والتنكر للمسار الفكري الشخصي ضمانا للإفلات من العقاب والعذاب الإلهي.

العقل العربي في حالة عطالة :

 وأما القول بعطالة العقل العربي فهو أمر لا مفر، منه لقد ضمر العقل عندنا بتعطل نشاطيه المتمثلين  في التحليل والتركيب، واكتفى الإنسان عندنا بالتقليد والتسليم حينا واللامبالاة أحيانا أخرى وإذا كان المخرج في اللغة العربية من تباين حركة الإعراب على أواخر الكلمات  هو تلك القاعدة العملية الذهبية “سكن تسلم”  والتي لا تخلو من مآزق وفخاخ فقد استعرنا هذه القاعدة اللغوية وجعلناها قاعدة  عامة  “لاتفكر تسلم” وهي استمرار لهيمنة اتجاه ديني تاريخي هو الغزالية على حساب  الرشدية ( نسبة لأبي حامد الغزالي وابن رشد ) لقد صارت هذه العبارات ” من تمنطق فقد تزندق” و” إلجام العوام  عن علم الكلام” و”من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء” أقول لقد صارت هذه العبارات أشبه بمسلمات إقليدس أو قوانين جاليليو  في الحركة ، يسمعها الواحد منا فتنزل بردا وسلاما على قلبه ويتولى السجع المتجلي في تلك العبارات شل العقل وإبهار الذات وأفينة الفكر.

وإذا كان العقل العربي في حالة عطالة وشلل تام وقصور عن أداء مهامه ففي تاريخنا سوابق من ذلك ، إذ كلما هبت شرذمة من المفكرين تفكر في حرية هب التيار الدوغمائي ممثلا في الإكليروس الديني وبطانة السلطان وحاشيته لإلجام الفكر الحر وقمعه حفاظا على الريع أو السلطة ، فالحلاج صلب جزاء تفكيره في الممنوع وخروجه على ثقافة القطيع وممارساته وكذلك السهروردي وصالح بن عبد القدوس  ويوم قرر المعري – شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء – أن يكون نباتيا وأن يصدع بنباتيته في لزومياته :

                    غدوت مريض الدين والعقل فالقني    

                    لتسمـع  أنبــاء الأمــور الصحائـح

                    فلا تأكلن ما أخرج الماء ظـالمـــــا   

                    ولا تبغ قوتـا من غــريض الذبائـح

                    وأبيض أمات أرادت صـريـــحــه    

                    لأطفالها دون الغواني الصرائـــح

               مسحت يدي من كل هـذا فليتــــني     

              أبهت لـشـأني قبل شيب المسائـــــح

تصدى له داعي الدعاة بالوكالة عن رجال الدين ماسكا بخناقه يريده أن يقر على نفسه بالكفر والمروق لأنه حرم على نفسه طيبات الحياة الدنيا ، ولم يدر داعي  الدعاة أنه يعتدي على الحرية الشخصية ويحول بين المرء  ورغائبه  وقناعاته .

وكأن داعي الدعاة لم ينقرض فاستنسل دعاة آخرون على شاكلته من رحم التاريخ وما أكثرهم بين ظهرانينا اليوم . ولولا أن المعري كان يوشك أن يودع الحياة ، وقد اصطلحت على بدنه الأضداد وقهره الكبر لما تركها تمر من غير أن يجادل داعي الدعاة بلا خوف أو رياء.

غير أن التيار الدوغمائي نجح في إلصاق التهمة بأبي العلاء فوصمه بالزندقة والإلحاد ،فقد ورد في القول المأثور :

زنادقة الإسلام ثلاثة :”المعري ، وابن الراوندي ، والتوحيدي “، والأخير أخطر لأنه جمجم ولم يصرح.

و يأخذ العجب كل من عرف التوحيدي ونزعته الإنسانية وأخلاقه المثالية كما تجلت في ” الإمتاع والمؤانسة ” و”المقابسات ” و”مثالب الوزيرين” وهو صاحب الكلمة الجامعةالمانعة “الإنسان أشكل عليه الإنسان” وهي تلخص مأساة الإنسان منذ شريعة الغاب إلى اليوم. فكيف يرمى مفكر مثل هذا بالمروق ؟

ومن مآسي العصر الحديث مالا يحصى ولا يعد من النكبات التي تؤكد عطالة العقل واستمرار فلسفة التدجين، فتوفيق الحكيم جوبه بمعارضة شديدة ممثلة في الشيخ الشعراوي يوم شرع في كتابة مقالات في الأهرام تحت عنوان “حديث مع الله” واضطر تحت وطأة التنديد أن يغيره إلى “حديث إلى الله” .

ولازلت أذكر أنني سمعت بأذني الشيخ الغزالي يقول عن نجيب محفوظ أنه كاتب النتن الاجتماعي وعن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين أعمى البصر والبصيرة !!

واتهم زكي نجيب محمود بالكفر وكذا محمد أركون وفؤاد زكريا وندد بكتاب ” دليل المسلم الحزين ” لحسين أحمد أمين و” القصص الفني في القرآن ” لمحمد أحمد خلف الله وقتل حسين مروة صاحب  “النزعات المادية في اٌٌلإسلام ” كما قتل فرج فودة، وحكمت المحكمة في مصر على نصر حامد أبي زيد بتطليق زوجته لأنه مرتد أو مارق لولا أن لاذ بجامعة ليدن في هولندا هربا من القمع والتدخل في الشؤون الشخصية والحيلولة بين المرء وما يعتقده .

إن هذه الأمثلة تؤكد استمرار المأساة منذ العصر الأموي مرورا بالعباسي وعصر الضعف وانتهاء بالعصر الحديث، ويبدو أن إحدى الدول الخليجية وعن طريق قنواتها الفضائية تواصل عملية التدجين وإلجام الفكر الحر خاصة وقنواتها في كل بيت عربي، يشاهدها ملايين العرب ممن لا يحسنون تفكيرا حرا ولا استدلالا عقليا، وفي لاوعيهم جميعا ترسبات للخوف إلى درجة الفوبيا وكبت لا تقوى على حمله الراسيات الشم . إن هذه البنية العقلية للإنسان العربي تجعل المجتمع العربي من محيطه إلى خليجه في حالة سديمية وكأن صاحب الجلالة – الزمن – لم يقو على خلخلة هذا السديم ليلف حول نفسه بادئا سلسلة من التفاعلات الداخلية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تشكيل عوالم جديدة باعثة للضوء والحرارة والإشعاع تماما كما يحدثنا علماء الكم والفيزياء الفلكية عن الآلية التي تتشكل وفقها النجوم الشابة الجديدة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى