أرشيف - غير مصنف

الطاقة الكامنة في الشرعية الجماعية

سوسن البرغوتي
 بعد فترة قصيرة من بزوغ رسالة الإسلام لم تتجاوز الثلاثين عاماً، والمجتمع العربي يعاني أزمة توافق بين الشرع ومصطلحاته وبين مناهج الإدارة السياسية وأساليبها. فقد استعيض عن المبادئ التي حضت عليها تعاليم الشريعة الإسلامية، وكرستها في عهد الرسول الأعظم والخلافة الراشدة، والمتمثلة في سيادة نظام الشورى، بتطبيق النظام الإداري البيزنطي منذ عهد الدولة الأموية.
لقد غابت الشورى، كممارسة شرعنت المشاركة الشعبية في صناعة القرار وبناء أسس الدولة، وكمنهج في اختيار الحاكم ومحاسبته، وحلت مكانها سيادة قانون المركزية، المعتمد على الإقصاء والإستفراد بالسلطة وإصدار القرارات المصيرية، دون الرجوع إلى الشعب.
 
رغم محاولات جنينية في العصر الحديث، للتفاعل مع نتاج الفكر الإنساني، وحصيلة إبداعات الثورات التي بدأت ملامحها في التشكل منذ النصف الأول للقرن السابع عشر، وعبرت عنها بوضوح الثورة الفرنسية وغيرها، وبروز الدساتير، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لكن تلك المحاولات فشلت في مواجهة المحتل فشلاً ذريعاً. وكانت اتفاقيات سايكس- بيكو، وصدور وعد بلفور هما التجسيد العملي لعجز القوى السياسية التي اضطلعت بمشروع التغيير عن الوفاء بالتزاماتها. ولا شك أن ضعف هياكلها الإجتماعية، وعدم انبثاق تجربتها من واقعها الخاص، وافتتنانها بالقوى المهيمنة التي سادت عصرها، أدت بها إلى تحقيق تحالفات مع تلك القوى، وبذات الوقت شهدت انتكاسة تجربة التحديث في شكل الدولة والمجتمع.
 
ومنذ بداية الخمسينيات، ومع الإنقلابات المتتالية التي انطلقت من بلاد الشام، وانتقلت لعدد من البلدان العربية، حل نظام العسكر وفئة تصدرت السلطة. كانت أبزر خصائص هذا النظام، محاربة التعددية وعدم الإعتراف بالرأي الآخر، وتكريس جميع السلطات في يد القائد الأوحد، وتعطيل دور مؤسسات المجتمعات، وخنق الحريات. وهكذا غاب عن ساحة العمل السياسي في البلدان العربية الموروث الإسلامي المتمثل في الشورى، ووجود مجاهدين مهمتهم الدفاع عن الوطن، والحفاظ على الجوانب الإيجابية والمحرضة التي عبرت عنها الحقبة الأولى من فجر الإسلام، ولم تحل محلها الصياغات الإنسانية في إدارة الدولة والمجتمع، والتي ارتبطت بعصر النهضة الأوروبي. فقد افتقرت البلدان العربية إلى التأصيل والتحديث، وأصبحت تعيش في غربة مدقعة عن التاريخ والجغرافيا، فلا هي تشبثت بثوابتها الدينية والوطنية وبموروثها الأصيل، ولا هي تماهت مع العصر الذي تعيش فيه، وأصبحت باختصار تعيش خارج العصر، وتعاني من غربة سحيقة في الزمان والمكان.
 
لا تهدف هذه المقدمة بأي شكل من الأشكال إلى تحديد نمط بعينه من أشكال الحكم. ذلك أننا نسلم جدلاً بأن الإستيراد المصطنع للمفاهيم الليبرالية، لن ينتج عنه تحقيق سلم اجتماعي ولا مشاركة فعلية، تصب في المصلحة الوطنية العليا. فأنماط الحكم هي تعبير عن حركة تاريخية، وعن مراحل تطور الفكر الإنساني، لها أدواتها وشروطها الموضوعية. وما لم تترسخ في أرض خصبة قادرة على التعامل معها إيجابياً، فإن ما ينتج عنها هو قيام أنظمة ديمقراطية في شكلها، ولكنها كاريكاتورية ومشوهة في جوهرها تجعل منا أمعات وأتباع، يقتصر دورها في أحسن الأحوال على دور الوسيط بين الشركات التجارية الغربية المتعدية والعابرة للقارات وبين المستهلك العربي. والنتيجة الطبيعية لذلك هي انتهاك الحرمات ونهب الثروات والإعتداء على البشر وتدمير الحجر وتكريس الهيمنة، ونجاح المشاريع الإمبريالية والصهيونية.
 
أن نعترف بشجاعة صلاح الدين أمر يستوجب أن لا نحارب الطائرات المقاتلة بسيفه، بل بانتهاج ذات الإرادة والتصميم والرؤية الواقعية والموضوعية التي مكنته من تحقيق النصر، وهزيمة الصليبيين الاستعماريين. وعليه لا بد أن تتجه الأمة إلى قواها الحية والفاعلة، وأن تعتمد على مصادر ثرواتها، منطلقة من التسليم بأن التنمية الحقيقية تعتمد على القوى الذاتية المحركة، والتي تتفاعل إنسانياً بمنطق المساواة والتكافؤ، وليس بمنطق التبعية أو العزلة. فالاعتراف بسمات العصر الذي نحياه، ومعالجة الخلل المعطل للمضي قدماً في مواكبة التغيير بالعالم، من أهم الخطوات الإجرائية، إذ لم يعد أبداً من المقبول نهج الإستبداد والتسلط والاحتكار.
 
إن الأزمة التي تعانيها الأمة العربية لن تحل إلا بإعادة الإعتبار للإنسان كقيمة مطلقة، من خلال الإعتراف بحقه كمواطن له حقوق وعليه واجبات يلزمه الضمير المهني بها. وهذا الإعتبار هو الذي يضع قافلتنا على الطريق الصحيح، مزودة بمفهوم الهوية وذاكرة لا تغيب الحقوق والثوابت.. ذاكرة تستند بعمق الوعي إلى صلة الثقافة واللغة والدين ووحدة التاريخ والجغرافيا، فهي ليست عملية ميكانيكية، بل هي مكونات تساهم مجتمعة في تثبيت الهوية العربية، والحفاظ على الذاكرة الإنسانية، التي تتقدم إلى الأمام في مسيرة صاعدة، لكنها تعرف من أين تنطلق وإلى أين تتجه، وما هو الهدف التي تتوق إليه. وبإدراك تام أن التطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة قد أوجدت واقعاً جديداً يتطلب إعادة النظر في كثير من الصياغات والإستراتيجيات، ونقطة البداية هي التمسك بالهوية والذاكرة، مسلحين بإيمان وإرادة أن بالإمكان صناعة أبدع مما كان، وأن الأنا والآخر يعاد صياغة تعريفاتهما ليس على ضوء العشيرة والقبيلة والحزب، ولكن على أسس المبادىء والانتماء والرغبة في النهوض مجدداً، كما نريد لا كما يُفصل لنا من الخارج، تضمن الحق في المشاركة بصناعة القرار على قاعدة التعددية الوطنية والتكافؤ والمساواة، بدءً من تمتين الجبهة الداخلية، وانتهاءً بتحقيق توازن القوى على جميع الأصعدة. فعالم اليوم لا يحترم الضعفاء، ولا يعترف إلا بلغة القوة.

زر الذهاب إلى الأعلى