أرشيف - غير مصنف

“فتوّة” فلسطينية !

رشا عبدالله سلامة
    لم يدر بخلدي وأنا أتقافز فرحا بين جنبات قريتي الوادعة أبو ديس قبل أشهر، بأنني سأرثي لحالها هذه الأيام بينما أستمع بألم وحرقة لحال “المشاكل” المحتدمة بها !
 
وأتخفّى بتعبير “مشاكل” هنا؛ كي لا أنزلق نحو ذكر أسماء بعينها تناهت لمسمعي فآلمتني أكثر، بيد أن السبب الأهم في هذا التخفي هو صعوبة أن يتفهم أهالينا المرابطين في فلسطين بأننا حين نكتب حتى عن أدق تفاصيل الوطن، بأن ذلك ليس لأننا نعاني فراغا أو نتلقف “خبطات” صحفية؛ فالمنفى يعج بحياة صاخبة كان حريا بها أن تنسينا منذ وُلِدنا فلسطين وآلامها، لكنّ عقيدة فطرية راسخة لا تنفكّ تُلهب قلوبنا وتسيل حبرنا كي نساهم ولو بقدر يسير في إيصال صوت فلسطين المبحوح المنهك إلى العالم.
 
يتبادر لذهني في هذا المقام، ما اتهمت به إحدى المتصهينات الأميركيات المفكر الفلسطيني العالمي الراحل إدوارد سعيد، حين ظل يكتب حتى وفاته قبل أعوام عن فلسطين من منفاه الأميركي، ما حداها لاتهامه بأنه يعيش فراغا وأزمة تعايش مع محيطه الأميركي وهو ما يدفعه، بحسب اعتقادها، للكتابة عن فلسطين.
 
ما يفتت القلب ألما هو أن الاتهام ذاته بات ينساب على ألسنة بعض أهلنا المرابطين في الأرض المحتلة، ما يخلف حسرة تتماهى وبيت الشعر “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند”.
 
ولأننا لحم ودم واحد، وإن فصل بيننا الجبروت الإسرائيلي في نكبة العام 1948 ونكسة العام 1967، لأننا ذلك وأكثر، نتجاوز الألم بسرعة ونبلع الغصة قبل أن يصطادها أي شامت بكتاباتنا.. ولكن ما لا تغفره قلوبنا لأهلنا المرابطين على تراب فلسطين هو أن يتعارك كل منهم مع الآخر إلى حد إراقة الدماء وإطلاق الأعيرة النارية وتعليق الدوام الجامعي وفرض ما يشبه حظر التجول !!
 
نهاجم الانقسام الفلسطيني السياسي وترتعش أفئدتنا حزنا وقلقا على الحال الذي وصلت إليه علاقة فصيلي فتح وحماس ببعضهما البعض، ولكننا قد نموت كمدا وغما هذه المرة إن صار شعبنا كله لا يمارس “الفتوّة” إلا على أجساد بعضه بعضا !!
 
يدق في مسمعي حوار تناقلته الأوساط الثقافية الفلسطينية قبل أعوام، حين سأل الرئيس الراحل ياسر عرفات أحد المثقفين الفلسطينيين عن سبب توقفه عن كتابة كلمات الأغاني الثورية التي لطالما تغنت بها فرقة العاشقين وغيرها من الفِرق الفلسطينية، ليجيبه بأنه ما عاد هنالك ما يكتب عنه، وبأنه من غير الوارد أن يكتب كلمات أغنية تتغنى باتفاقية أوسلو وإقصاء البندقية !
 
الحوار ذاته يكاد ينسحب علينا إن استمر حال انقسامنا، فماذا سنوصل كإعلاميين للعالم حينها؟؟ هل نقول له سنتحدث عن ثلاث محاور في أرضنا المحتلة هي: ممارسات جنود الاحتلال الإسرائيلي ضد شعبنا، واقتتالات فصيلينا فتح وحماس، واقتتال عموم شعبنا مع بعضه البعض !!
 
نتوسل إليكم من منافينا المترامية في بقاع المعمورة بأن لا تحطموا صورة الوطن التي ننام ونصحو عليها، وبأن لا تريقوا دماء بعضكم فتحتار عجائزنا في المنفى على من يدعين في صلواتهن إن لم يكن الإسرائيلي طرفا في النزاع..
 
نتوسل إليكم.. لا لأننا نعيش فراغا أو أزمة تعايش أو لأننا نريد التسلق على أكتاف معاناتكم اليومية كي نحصد سبوقات صحفية أو موضوعات للنقاش في الصالونات السياسية.. بل لأننا أنتم وأنتم نحن.. ولأن أنين أحدكم أو دمعته كفيلة بأن تقض مضاجعنا ليال طوال، وأن تعمي أعيننا وتصم آذاننا عن أي رغد عيش تخالوننا نغرق فيه في المنافي وننساكم..
 
على الأقل ارحموا توسلاتنا لكم بالالتحام مع بعضكم البعض ضد المحتل الإسرائيلي، كي نجد حين تقرع أجراس العودة صفا واحدا موحدا نقف فيه معكم لأخذ التهاني بزوال الاحتلال..
 

زر الذهاب إلى الأعلى