مصطفى إنشاصي
تأخذ المفاهيم والمصطلحات حيزاً كبيراً في صراع الأمة مع الآخر اليهودي ـ الغربي، وقد بات ما يُعرف باسم “معركة المفاهيم والمصطلحات” يشكل جزءً مهماً من معركة الآخر معنا، الذي باتت أهدافه وغاياته ضد وطننا واضحة المعالم. ومن تلك المصطلحات الخطيرة مصطلح (العلمانية)، وتلك الترجمة الخاطئة لأصل الكلمة الإنجليزية (سيكولاريتي Secularity) أو سيكولاريت (Secularite) بالفرنسية، التي يتداولها الكتاب والعامة منذ عقود طويلة! وقد يتصور أو يتوقع البعض أنني سوف أتناول الموضوع بحكم العنوان: “الظروف التاريخية لنشأة العلمانية في الغرب”، بنفس الطريقة التقليدية التي تحدث بها الكتاب والمفكرين عن تاريخ وأسباب نشوء العلمانية في الغرب، ولكني سأعرض الموضوع من خلال رؤية وقراءة جديدة لتاريخ الغرب، وإن كانت تلك الرؤية تتفق في كثير أو قليل في مضمونها مع الآخرين، إلا أنها تختلف إلى حد ما في منهجية طرحها وسياقها العام.
وللأمانة العلمية وحق حفظ جهد الآخرين في البحث والدراسة، لضيق وقتي وبطئي في الطباعة، كانت الفكرة كما قدمت موجودة لدي، ولدي تصور عما سأطرحه في هذه المحاضرة ومادتها المتوفرة في بعض الكتب، وإن كانت ليست بنفس السياق والرؤية التي أريد إلا في النادر القليل، إلا أني قد وُفقت للحق برسالة دكتوراه للدكتور سفر الحوالي، ووجدت لدية معظم الأدلة التي كنت أريدها مطبوعة وجاهزة، وكذلك أضاف لي فكرة كثير مهمة في لرؤيتي، ومن حقه أن تحسب له، وهي: الربط بين الداروينية والميكافيللية كما سيتضح في المحاضرة، لذلك استعنت بجزء مما احتجته من أدلة من رسالته مطبوعاً. كما أني أوصي لكل مهتم بقراءة تلك الرسالة فهي قيمة جداً وفيها قراءة جديدة ونادرة ومتميزة لتاريخ الغرب يفتقدها الكثيرين.
تعريف العلمانية
العلمانية تبدو لأول وهلة للناظر فيها كلمة عربية مشتقة من العلم، ولو كانت كذلك فإنها مرحب بها من وجهة النظر الإسلامية لاهتمام الإسلام بالعلم والعلماء، ولكن حينما تكون وسيلة من وسائل الغرب لخداع المسلمين فإن الأمر يصبح خطير، إذ لا تبقى على ظاهرها لفظاً ومعنى، وإنما تكون ترجمة عربية خاطئة للفظ أجنبي له مدلوله الخاص، كما هي كثير من الألفاظ الأجنبية التي تم ترجمتها خطأ! فالعلمانية هي ترجمة خاطئة للكلمة الإنجليزية (سيكولاريتي Secularity)، أو سيكولاريت (Secularite) بالفرنسية. والترجمة الصحيحة للكلمة في اللغة الإنجليزية هي: لا ديني، أو غير عقيدي، أي (اللادينية) أو (الدنيوية)، لا ما يقابل (الأخروية) بل بمعنى ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد.
ما يعني أن العلمانية كلمة لا صلة لها بلفظ “العلم” ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة(Scientism) والنسبة إلى العلم هي(Scientific) في الإنجليزية أو (Scientifique) في الفرنسية.
ولمزيد من التوضيح سنعرض لبعض معاني كلمة (سيكولاريتي Secularity) في اللغة الإنجليزية، التي توردها المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية للكلمة:
* يُعرف معجم ويبستر الشهير: العلمانية: بأنها “رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساساً على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها”، ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على قانون يقول: “بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تُحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين”.
* وتقول دائرة المعارف البريطانية مادة (Secularim): “هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها”. فقد كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا لصالح الآخرة، ولمقاومة تلك الرغبة سعت اللادينية لتنمية النزعة الإنسانية، وقد بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة. وظل الاتجاه إلى الـ (Secularism) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة (للمسيحية).
* وفي قاموس “العالم الجديد” لو بستر، شرحاً للمادة نفسها ذكر لها عدة معانٍ:
1- الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك. وعلى الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات(Practices) يرفض أي شكل من أشكال العبادة.
2- الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة وخاصة التربية العامة.
* ويقول معجم أكسفورد شرحاً لكلمة ( Secular):
1- دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحياً: مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2- الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.
* ويقول “المعجم الدولي الثالث الجديد” مادة: (Secularism): “اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعاداً مقصوداً، فهي تعنى مثلاً “السياسة اللادينية البحتة في الحكومة”. “وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخُلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين.
إذن فالمفهوم الشائع عندنا بأن (العلمانية) مشتقة من العلم، وتعني (فصل الدين عن الدولة)، أو (فصل الدين عن العلم)، هو في الحقيقة فهم خاطئ لا يعطى المدلول الكامل لمعنى العلمانية، ولو قيل أنها (فصل الدين عن الحياة) لكان أصوب، والمدلول الصحيح للعلمانية “إقامة الحياة على غير الدين” سواء بالنسبة للأمة أو للفرد.
هذا الشكل من أشكال العلاقة بين الدين والحكم والحياة في الغرب، العلمانية أو اللادينية، هل هو شكل جديد لم يعرفه الغرب إلا بعد عصر النهضة فقط، أم أنه له سوابق في التاريخ الغربي؟! ذلك ما سنحاول التعرف عليه في العنوان التالي:
العلمانية واللادينية هي الأصل في تاريخ الغرب؟!
يقول أرنست كاسيرر: أن “الشواهد الإنثروبولوجية والإنثولوجية، تجد مناطق كثيرة من الحياة الحضارية البدائية تتمتع بالملامح المشهورة التي توجد في حياتنا الحضارية، وما دمنا نزعم تخالفاً مطلقاً بين منطقنا ومنطق العقل البدائي، وما دمنا نعتبر المنطقتين مختلفتين نوعاً متضادتين أصلاً، فليس من السهل علينا أن نعلل لذلك التشابه في الملامح الحضارية. حتى لتجد دائماً في الحياة البدائية نفسها منطقة دنيوية أو أرضية خارج المنطقة المقدسة، وهناك موروث دنيوي يتألف من قواعد العرف أو القانون يُعَين الطريقة التي تسير بها الحياة الاجتماعية”
ذلك يعني أن الأديان البدائية بصفة عامة لم تلغي الجانب الدنيوي في الحياة الإنسانية ـ بحسب الفكر الغربي ـ ولم يسيطر الفكر الديني على جميع مناحي الحياة في تلك المجتمعات، ولكن كان هناك مساحة للإنسان يمكنه من خلالها أن يلعب دوراً في تنظيم شئون حياته الدنيوية. أما الأديان في المجتمعات الغربية بصفة خاصة، فالجانب الدنيوي كان شبه منفصل تماماً عن الجانب الأخروي أو المقدس.
فالآلهة الإغريقية والرومانية لم يكن لها علاقة بتنظيم شئون حياة الناس. فالإغريق والرومان لم يعتنقوا ديناً يستمدون منه وحده تصوراتهم وعقائدهم ونظام حياتهم، يقول (محمد عبد الله دراز) عن دور الآلهة الإغريقية في حياة تلك المجتمعات: أن أقدم الآثار الأدبية التي حفظها لنا التاريخ عن العصر الإغريقي يعود إلى حوالي القرن العاشر قبل الميلاد. وأشهر تلك الآثار الديوانان المنسوبان إلى هوميروس: الإلياذة، والأوديسا … وتتميز هذه المرحلة بأن شؤون الأديان فيها إنما تساق عرضاً في ثنايا شؤون الحياة الأخرى.
ويقول (محمد أسد) عن آلهة الرومان: نعم كان لهم آلهة ولم تكن آلهة تقليدية “لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات الوثنية اليونانية لقد كانت أشباحاً سُكِتَ عن وجودها حفاظاً للعرف الأجنبي ولم يكن يُسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية”.
ذلك يعني أن المجتمع الغربي كان مجتمعاً مادياً لا دينياً يعانى عزلة حادة عن معتقداته – أياً كانت – ويفصل بينها وبين واقع حياته العملي. بمعنى معاصر؛ أن الغرب عرف فصل الدين عن الحياة، أو العلمانية (اللادينية)، منذ عصور وجوده الأولى. ويؤكد ذلك (سيسرو) الذي عبر عن الانفصال العميق بين الدين ونظام الحياة عند الرومان بقوله: “لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل ما معناه أن الآلهة لا دخل لهم في أمور الدنيا يصغى إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة”. وذلك ما أكده أيضاً الراهب (أوغسطين): “إن الروم الوثنين كانوا يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل”.
ليس هذا فحسب، بل إن أبيقور (4 ق.م) أعلن على الملأ دعوة علمانية صريحة، ومن أقواله: “إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بني البشر، لأنهم يظهرون من آن لأخر للأشخاص (!) بيد أن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح، أيمكن اعتقاد تدخلهم هذا ما نراه في هذا العالم؟! ويسخر من الإله الروماني جوبيتير: “إن جوبيتير يرسل الآن بالصواعق على معبده، فهل سحق أبيقور الذي يجدف به”؟! “إن الآلهة يعيشون بعيداً عن العوالم ولا يهتمون إلا بشئونهم فلا تعنيهم أمورنا. إنهم يعيشون حكماء سعداء ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله فلنعظمهم كمُثُل عليا يُقتدي بها، غير أنه لا يجب علينا أن نشغل أنفسنا بما يريدونه منا، فإنهم لا يريدون منا شيئاً، هم لا يعيروننا بالاً فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا”.
وبما أن آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئاً، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، ونتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود (القانون الروماني) الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة ـ إن وجدت ـ فقد كانت أبيقورية محضة. ذلك يعني أن الغرب لم يعرف العقائد والنظم الدينية بمعناها الذي عرفته الشعوب الأخرى، أي تدخل الآلهة في شئون حياة أتباعها، ولكنه كان لديه آلهة شكلية كزينة أو ديكور لإرضاء السذج من مواطنيه، أو من الشعوب غير الأوروبية التي كانت تخضع لحكمه.
نخلص من هذه المقدمة التي رأيت أنها ضرورة علمية وأكاديمية محضة لمحاولة تصحيح الفهم الخاطئ عندنا عن مفهوم العلمانية والدين في المجمعات الشرقية والغربية خاصة، إلى أنه إن كانت الآلهة في المجتمعات الشرقية وغيرها تترك منطقة دنيوية للإنسان حق التصرف فيها بما يراه مناسباً لصلاح حياته، فإنها في المجتمعات الغربية (الإغريقية والرومانية) لم تكن الآلهة تتدخل البتة في شئون حياة أتباعها، وكانت تعيش تلك المجتمعات ومازالت حياة علمانية لا دينية بكل ما تعني الكلمة من معنى، كما هي اليوم، والدين أمر شخصي تعتقد أو لا تعتقد ذلك أمر خاص بالفرد.
تحالف الوثنية البدائية والنصرانية المُوَثَنة
إذن الغرب من حيث المبدأ هو علماني لا ديني منذ فجر تاريخه ولم يكن في يوم من الأيام مجتمع ديني كالمجتمعات الدينية الوثنية الشرقية! لذلك فإن أهم الخصائص التي تُميز المجتمعات الغربية عن غيرها، أنها صناعة بشرية بامتياز في كل مراحل تطورها التاريخية، تخضع في تطورها لتطور العقل البشري والجهد الإنساني، وأنه يختار لنفسه ما يراه يُصلح حاله بحسب ظروف الواقع والحياة السائدة في المجتمع في مرحلة تاريخية ما، والشواهد على ذلك كثيرة:
فقد عرفت أوروبا الوثنية الدين النصراني منذ القرن الأول للميلاد بوصفه عقيدة شرقية سامية، ولم يأل أباطرة الرومان جهداً في القضاء عليها طيلة القرون الثلاثة الأولى، وعندما شعر الإمبراطور (قسطنطين) بقوة الاعتقاد النصراني عند أتباع إمبراطوريته من الشعوب المختلفة، وخشي على إمبراطوريته من التفكك وضياع سلطانه، أعلن اعتناقه للدين الجديد، ودعا لعقد أول مجمع مسكوني (نصراني) هو مجمع نيقية سنة 325 م، وأعلن فيه أن النصرانية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية.
فالذي جمع بين الكنيسة والإمبراطور هو رابط المصلحة الدنيوية لكلا الطرفين لا غير، يقول المؤرخ الأمريكي دابر: “إن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذي لم تكن عقائده الدينية تساوى شيئاً رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين النصراني والوثني؛ أن يوحدهما ويؤلف بينهما، حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طُعِمت ولُقِحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسَيخُلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها”.
كما أدرك هذه الحقيقة المؤرخ الإنجليزي (ويلز)، وقد شرح بدقة حال الإمبراطور معللاً اعتناق قسطنطين لنصرانية وإعلانها ديانة رسمية بأنه محاولة منه لإنقاذ إمبراطوريته المتضعضعة من التفكك والانحلال، وهو ما قال به جيبون من قبل.
ذلك بالنسبة للإمبراطور، أما الذين اعتنقوا النصرانية من المواطنين الرومان فلم يتغير تصورهم السابق عن الدين ومهمته في الحياة، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى (الأب والابن وروح القدس) محل (جوبتير ومارس وكورنيوس). ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله: “أن (المسيحية) لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة”.
وهكذا فإن الذي حدث في مجمع نيقية (325م) إن صح القول: تحالف بين الوثنية والنصرانية المُوَثَنة بعد أن أخرجها بطرس اليهودي عن جوهرها السماوي وحولها إلى الوثنية لتدميرها. وقد ذكره المسيح باسمه كما جاء في (إنجيل متى: 6/23): “فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ:”اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ”. وبعده أكمل (بولس) أحد حاخامات اليهود الذي تظاهروا باعتناق النصرانية ما بدأه بطرس، ونقل إليها الكثير من أفكار الإغريق والرومان والوثنية المنحلة وغيرها من أفكار وفلسفات هدامة كانت شائعة في ذلك العصر، ما أبعدها عن روح التعاليم السماوية التي دعا إليها المسيح عليه السلام، وجعلها خليط ومزيج من العقائد التي كانت سائدة في الإمبراطورية الرومانية آنذاك، تقوم على ست دعائم:
1-الإيمان بالتوراة اليهودية.
2-اعتقاد الفداء والخلاص والوساطة بين الله والناس.
3-التثليث.
4-الحلول (تجسد الإله في شكل بشري).
5- تقديس وعبادة الصور والتماثيل.
6-الهروب من الحياة إلى “الرهبانية”.
لذلك هناك شبه إجماع لدى كثير من مؤرخي الغرب أن (النصرانية) الرسمية، أو (نصرانية بولس) التي نشرتها الكنيسة ابتداء من سنة (325م)، ليست هي (النصرانية) التي نزلت على المسيح عليه السلام. يقول المؤرخ الأمريكي (برنتن): “إن المسيحية الظافرة في مجلس نيقية – العقيدة الرسمية – في أعظم إمبراطورية في العالم مخالفة كل المخالفة لـ(مسيحية المسيحيين) في الجليل، ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة (المسيحية) لخرج من ذلك قطعاً لا بأن (مسيحية) القرن الرابع تختلف عن (المسيحية) الأولى فحسب، بل بأن (مسيحية) القرن الرابع لم تكن (مسيحية) بتاتاً”.
أما المؤرخ الإنجليزي ويلز، فيقول: “من الضروري أن نستلفت نظر القارئ إلى الفروق العميقة بين (مسيحية) نيقيا التامة التطور وبين تعاليم يسوع الناصري”.
أما رأي رجال الكنيسة فحسبنا أن نقرأ ما كتبه الدكتور “وليام تامبل” أسقف كنيسة كنتربري وحبر أحبار إنجلترا، حيث يقول: “إن من الخطأ الفاحش أن نظن أن الله وحده هو الذي يقدم الديانة أو القسط الأكبر منها”.
إذن الذي حدث أن تغير ظروف الواقع الموضوعي في الإمبراطورية الرومانية آنذاك، فرضت على الإمبراطور قسطنطين توظيف الدين توظيفاً سياسياً يخدم مصلحته الشخصية، ومصلحة الحفاظ على وحدة إمبراطوريته، ونفس الأمر كان بالنسبة لرجال الكنيسة، فإن مصلحتهم في التخلص من الاضطهاد والملاحقة جعلتهم ليس فقط يتحالفون مع الإمبراطور والحزب الوثني، بل واستبدال تعاليم المسيح السماوية بديانة وثنية، بهدف كسب مزيد من الأتباع!
طغيان الكنيسة (صكوك الغفران)
وكما اقتضت ظروف تلك المرحلة تحالف الوثنية البدائية مع النصرانية المُوَثنة، والشراكة بينهما في حكم أتباع الإمبراطورية الرومانية، والسماح للكنيسة بالتحكم في مصائر الأباطرة، والسيطرة على جميع شئون الحياة في الغرب، وأن تصبح لها الكلمة الفصل والمطلقة في أوروبا على الجميع، حكاماً ومحكومين. فإنها اقتضت أيضاً بعد تحول المجتمعات في الغرب إلى مجتمعات إقطاعية، أن يتم التحالف بين الكنيسة والأمراء الإقطاعيين، وقد لعب رجال الكنيسة الذين دخلوا على خط الإقطاع وتملكوا الإقطاعيات الكبيرة، دوراً كبيراً وخطيراً في تخدير مشاعر الفلاحين المستعبدين والمظلومين والمقهورين عند الإقطاعيين، وامتصاص نقمتهم، وإجهاض رغبتهم في الثورة والتمرد على ذلك الظلم، بكذبة: أن لهم ـ الفقراء ـ الجنة وملكوت السماء. وليت جشع رجال الدين النصارى وقف عند ذلك الحد؛ ولكنه ازداد ليمتد إلى ما في جيوب الفقراء من الزهيد من المال إن توفر، ليسرقوه باسم (صكوك الغفران).
فقد توجت الكنيسة تصرفاتها الشاذة وبدعها الضالة بمهزلة لم يعرف تاريخ الأديان لها مثيل، حيث كانت بحاجة إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة ألد وأخطر أعدائها (المسلمين) أثناء الحروب الصليبية التي بدأت تلوح علامات هزيمتها فيها، بعد أن بلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوربيين مبلغاً كبيراً وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم به وعداً قاطعاً، ففكرت في وسيلة تجعل المقاتل يندفع للاشتراك في الحملة الصليبية، فكانت تلك الوسيلة (صكوك الغفران)!.
حيث أصدر المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع لاتيران سنة 1215م، قرار يمنح البابا حق امتلاك الغفران للمذنبين! يقول ول ديورانت: “أن صكوك الغفران كانت توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين”. وأنه لم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا أحد أثنين:
1. رجل ذو مال يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي.
2. رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.
وقد مثل ذلك ذروة الطغيان الكنسي ضد الفقراء والأمراء على حد سواء، وكانت لها نتائج سلبية على الكنيسة ووضع حد لطغيانها نهائياً بعد عدة قرون. فقد كانت هذه البدعة أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، وبالمقابل انخفضت سلطة الملوك والأمراء والنبلاء، وأصبحوا هم وشعوبهم أدوات أو صنائع لرجال الدين الذين يمنون عليهم بالعفو إن رضوا ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافساً قوياً لأصحاب الإقطاعيات وكبار الملاك، ما أثار في نفوسهم شعور العداوة لها والحقد عليها.
أضف إلى ذلك تلك الأسباب الأخرى التي تجدها في جميع الكتب عند الحديث عن ظروف نشأة العلمانية في الغرب، والثورة ضد الكنيسة، مثل:
1ـ الطغيان الديني (محاكم التفتيش): بدء من فرض عقيدة التثليث، مروراً باضطهاد الكنيسة لكل المخالفين انتهاء بلوثر. يقول برنتن: “لم يكن بوسع الكثيرين من أفراد المجتمع الغربي أن يعترفوا صراحة وجماعة بالإلحاد أو اللارادية أو بمذهب الاتصال بالله أو بأية عقيدة أخرى غير (المسيحية) إلا خلال القرون القلائل الأخيرة، وقد كان الكفار الذين يجاهرون بكفرهم قلة نادرة في الألف سنة التي استغرقتها القرون الوسطى”.
2ـ الطغيان السياسي: فقد تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين، وتملكتهم شهوة عارمة للتسلط ورغبة شرهة في الاستبداد. جاء في البيان الذي أعلنه البابا “نقولا الأول” قوله: “إن ابن الله أنشأ الكنيسة؛ بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وأن أساقفة روما ورثوا بطرس في تسلسل مستمر متصل … (ولذلك) فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاماً كانوا أو محكومين”.
3ـ الطغيان المالي: يستطيع المرء أن يقول دون أدنى مبالغة أن الأناجيل النصرانية لم تنهَ عن شئ نهيها عن اقتناء الثروة والمال، ولم تنفر من شئ تنفيرها من الحياة الدنيا وزخرفها، وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقع الكنيسة العملي، ونستطيع أن نلخص مظاهر الطغيان الكنسي في هذا المجال بما يلي:
* الأملاك الإقطاعية: يقول ول ديورانت: “أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير “فلدا” مثلا، يمتلك (15000) قصر صغير، وكان دير “سانت جول” يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان “الكوين فيتور” (أحد رجال الدين) سيدا” لعشرين ألف من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة … وكانوا يقسمون يمين الولاء كغيرهم من الملاك الإقطاعيين ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية … وهكذا أصبحت الكنيسة جزءاً من النظام الإقطاعي.
* الأوقاف: قال المصلح الكنسي “ويكلف” وهو من أوائل المصلحين: “إن الكنيسة تملك 3/1 أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتبع رجال الدين بأنهم “أتباع قياصرة لا أتباع الله”.
* العشور: يقول ويلز: “وكانت الكنيسة تجبي الضرائب ولم يكن لها ممتلكات فسيحة ولا دخل عظيم من الرسوم فحسب، بل فرضت ضريبة العشور على رعاياها، وهي لم تدع إلى هذا الأمر بل طالبت به كحق”.
* ضريبة السنة الأولى: لم تشبع الأوقاف والعشور نهم الكنيسة الجائع وجشعها البالغ بل فرض البابا حنا الثاني والعشرين “ضريبة السنة الأولي” وهى مجموعة الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية، تُدفع للكنيسة بصفة إجبارية، وبذلك ضمنت الكنيسة مورداً مالياً جديداً.
* الهبات والعطايا: كانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة، وقد ازدادت الهبات والعطايا بعد مهزلة صكوك الغفران إذ انهالت التبرعات على الكنيسة وتضخمت ثروات رجال الدين كما أسلفنا.
هذا ولا ننسى المواسم المقدسة والمهرجانات الكنسية التي كانت تدر الأموال الطائلة على رجال الكنيسة، فمثلاً “في سنة 1300م عقد مهرجان لليوبيل واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما بلغ من انهيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس”.
* العمل المجاني “السخرة”: سبق القول بأن الكنيسة تملك الإقطاعيات برقيقها وأن بعض رجال الدين كان يملك الآلاف من الأرقاء، غير أن ذلك لم يقنع الكنيسة بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملون بالمجان لمصلحتها مدة محددة هي في الغالب يوماً واحداً في الأسبوع ولا ينالون مقابل ذلك جزاء”ً ولا شكوراً.
4ـ الصراع بين الكنيسة والعلم: بما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، فإن الأصح أن نسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم، وليس بين الدين والعلم. والصراع بين الكنيسة سيأتي الحديث عنه.
إعادة تقويم لمرحلة حكم الكنيسة
أقول في نقاط مختصرة:
1ـ كان التحالف بين الوثنية البدائية والنصرانية المُوثَنة ضرورة أملتها الظروف التاريخية في المجتمعات الأوروبية.
2ـ أن النصرانية لم تكن دين إلهي سماوي نقي من العقائد الوثنية والأهواء البشرية، ولكنه كان دين خليط من جميع المعتقدات والأفكار والفلسفات التي كانت منتشرة في ذلك الزمن.
3ـ الديانة النصرانية لا يوجد فيها تشريعات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أخلاقية…إلخ، يمكن أن تكون نظام حياة ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وعلاقة المجتمع النصراني بغيره من المجتمعات الأخرى، ولكن الأناجيل النصرانية احتوت في معظمها على عرض متناقض لحياة وسيرة السيد المسيح عليه السلام منذ ولادته إلى أن توفاه الله تعالى ورفعه إليه. بالإضافة إلى بعض التعاليم والمواعظ عن السلام والمحبة والتسامح.
4ـ إذن الدين لم يكن يحكم في أوروبا في القرون الوسطى ولكن الذي كان يحكم هم البشر، رجال الكنيسة والأباطرة والأمراء والإقطاعيين، وقد كان نظام الحكم في أوروبا العصور الوسطى مقسم بين تلك الأطراف على النحو التالي:
* التنظيم الروحي: ويمثله رجال الدين ومجال عمله الكنائس والأديرة ووظيفته الوعظ والتوجيه للخلاص من “الخطيئة”.
* التنظيم الزمني: وتمثله الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية وميدانه شؤون الحياة الدنيوية.
ذلك يعني أنه من الوجهة العلمية كان الفصل بين الدين والسياسة موجوداً بالفعل، أي أن هناك نوعاً من (العلمانية الموضوعية) كان يسود الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى، وذلك أمر طبيعي ما دام الحكم بما أنزل الله غير نافذ في المجتمع.
النهضة العلمية والفكرية في أوروبا
تلك كانت حقيقة الأوضاع التي كانت عليها أوروبا في العصور الوسطى، وقد كانت الشعوب الأوروبية والملوك والأباطرة ورجال الدين الصغار يتحينون الفرصة لإعلان احتجاجهم والتمرد على سيطرة الكنيسة، لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفات الكنيسة ولا سيما (صكوك الغفران) تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض المصلحين الكنسيين وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة.
أما العوامل التي ساعدت في القضاء على استبداد الكنيسة وتسلطها على أتباعها فهي كثيرة، نذكر منها ما اعتدنا على قراءته في معظم الكتب التي تحدثت عن الصراع الذي دار في الغرب بين الكنيسة ورجال الفكر والعلم وبعض مَنْ يطلقون عليهم اسم (المصلحين الدينيين)، وعلى رأسهم مارتن لوثر:
1ـ تأثير العلوم والمعارف الإسلامية: عرفت أوروبا الطريق إلى النهضة بفضل مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية وجنوب إيطالية التي كانت تشع نور العلم والمعرفة، وأيقظت العقل الأوروبي من سباته وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث ومناهج التفكير التي تجعله يكد ويعمل في مجال اختصاصه دون وصاية ضاغطة. وقد ثارت ثائرة رجال الكنيسة على الذين يتلقون علوم الكفار (المسلمين)، ويعرضون عن التعاليم المقدسة فأعلنت حالة الطوارئ ضدهم وشكلت محاكم التفتيش في كل مكان تتصيدهم وتذيقهم صنوف النكال. وأصدرت منشورات بابوية جديدة تؤكد العقائد السابقة وتلعن وتحرم مخالفيها، وبذلك قامت المعركة على قدم وساق وأخذت تزداد سعاراً بمرور الأيام.
ويذكر بعض المؤرخين الغربيين: “أن الباباوات بعد أن وقفوا على شغف العالم الأوروبي بالثقافة العربية، سعوا إلى مقاومتها بشتى الطرق، لأنها تشكل خطرا على أوروبا ودينها .. فقد كان يترتب على الذين يريدون الوقوف على حضارة عصرهم أن يجيدوا اللغة العربية، وللعربية فلسفتها، وفلسفتها تناقض الإنجيل، وكان العرب قد سادوا العالم بالقرآن الكريم”. ويصف (غابريلي) في كتابه “تراث الإسلام” حال أوروبا النصرانية آنذاك، بقوله: “لقد استعربت “المسيحية” بسرعة لغويا وثقافيا”.
وقد اعترف كثير من مؤرخي الغرب ومستشرقيه بفضل الإسلام والمسلمين على العالم، وبفضل الحضارة الإسلامية على الإنسانية بما قدمته لها من نتاج فكري وحضاري ضخم. يقول (سيديو): “كان المسلمون في القرون الوسطى منفردون في العلم والفلسفة والفنون وقد نشروهما أينما حلت أقدامهم، وتسربت منهم إلى أوروبا، فكانوا هم سببا في نهضتها وارتقائها”. ويذهب إلى أن المسلمين هم في واقع الأمر أساتذة أوروبا في جميع فروع المعرفة. ويقول المؤرخ الفرنسي الدكتور جوستاف لوبون: “إن العرب أنشئوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت سابقاً”. أما (ول ديورانت) صاحب كتاب “قصة الحضارة” فيقول عن سيادة الإسلام وتزعمه للعالم آنذاك: “لقد ظل الإسلام خمسة قرون على الأقل من عام 700م ـ 1200م يتزعم العالم كله في القوة والنظام، وبسطه الملك، وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة والتشريع الإنساني هي الرحيم، والتسامح الديني، والبحث العلمي، والعلوم، والطب والفلسفة …ألخ”. والحضارة الغربية المعاصرة لم تُدَشن في مدن أوروبا كما يقول (محمد أسد): “ولكن الذي وضعه العرب كان أكثر من بحث لعلوم اليونان القديمة، لقد خلقوا لأنفسهم علما جديدا تام الجدة. لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث، وعملوا على تحسينها، ثم هذا كله وصل بوسائط مختلفة إلى الغرب، ولسنا نبالغ إذا قلنا: “إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا النصرانية، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة”. أما نيكسون فيقول: “… أما المكتشفات اليوم فلا تحسب شيئا مذكوراً إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلاً وضّاءاً في القرون الوسطى المظلمة ولا سيما أوروبا …”.
2ـ النهضة العلمية الأوروبية: ومن النظريات التي لعبت دوراً في زعزعة ثقة الغربيين بالكنيسة:
* نظرية كوبرنيق (1543) الفلكية، فقبل هذه النظرية كانت الكنيسة تعتنق نظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون وتقول أن الأجرام السماوية كافة تدور حولها. وقد قالت نظرية كوبرنيق بعكس ذلك. وقد أيدها “جردانو برونو” الذي أحرقته الكنيسة سنة 1600م. ثم “جاليلو” الذي تراجع عن موقفه خوفاً من الإعدام.
ولم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى تبلور النزاع واتخذ شكلاً جديداً: فقد أصبح النزاع بين النص الذي تعتمد عليه الكنيسة وحججها الواهية وبين العقل والنظر الذي استند إليه أصحاب النظريات الجديدة. ولم يجرؤ دعاة المذهب العقلي (ديكارت) أول الأمر على إنكار الوحي بالكلية، بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلاً عن الآخر.
* نظرية الجاذبية الأرضية لإسحاق نيوتن (1642)، التي جاءت مؤيدة بقانون رياضي مطرد أبهرت عقول الفئات المثقفة واتخذها أعداء الدين سلاحاً قوياً حتى لقد سميت “الثورة النيوتونية “. ولا شك أن نظرية نيوتن من أعظم النظريات العلمية أثراً في الحياة الأوروبية، فإليها يعزى الفضل الأكبر في نجاح كل من المذهب العقلي والمذهب الطبيعي. كما أن مذهب الإيمان بإله مع إنكار الوحي، والإلحاد ذاته مدينان لهذه النظرية من قريب أو بعيد، على أن هذه الآثار لم تظهر إلا فيما بعد.
* نظرية دارون التي نشرها عام 1859م (النشوء والارتقاء)، كان العلم النيوتنى قد ألقي في روع أعداء الكنيسة إمكان تفسير الظواهر الطبيعية (ميكانيكياً) أي دون الحاجة إلى مدبر، لذلك تركز الصراع على إيجاد فكرة عن الحياة تقوم على قانون ميكانيكي كقانون نيوتن في الفلك. وقد استطاع داروين العثور على ذلك القانون المزعوم من طريق بعيد عن مجال الحياة والأحياء، إذ استوحاه من علم آخر هو (علم دراسة السكان) ومن نظرية (مالتوس) بالذات، فقد استنتج من إفناء الطبيعة للضعفاء لمصلحة بقاء الأقوياء، كما توهم مالتوس، قانونه في التطور المسمى “الانتقاء (أو الانتخاب) الطبيعي وبقاء الأنسب”
وقد مهدت نظرية دارون إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد قال عنها أحد العلماء الغربيين “بأنها أبوها الكفر وأمها القذارة”. ويقول (وليم جيمس) عن الأثر الداروينى في الأخلاق: “إن فلسفة النشوء والارتقاء قد ألغت المعايير الأخلاقية التي سبقتها كلها لأنها رأتها معايير ذاتية شخصية وقدمت لنا بدلها معياراً أخر نتعرف به على الخير من الشر وبما أن المعايير السابقة معايير نسبية فهي مدعاة للقلق والاضطراب وأما هذا المعيار الذي ارتضوه وهو أن الحسن ما قدر له أن يبقى يظهر ويبقى فهو معيار موضوعي محدد”.
3ـ حركات الإصلاح الديني: معلوم أنه قامت عدة ثورات وحركات إصلاح دينية ضد الكنيسة ومفاهيمها الضالة الباطلة لم يكتب لها النجاح، وذلك نتيجة تحالف الإقطاعيين مع الكنيسة ضدها. وهناك حقيقة ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا وهي أن تلك الثورات لم تكن تمرداً على الكنيسة لأنها كنيسة بل لأنها “مالك إقطاعي”. يقول ويلز “كانت ثورة الشعب على الكنيسة دينية …فلم يكن اعتراضهم على قوة الكنيسة بل على مساوئها ونواحي الضعف فيها وكانت حركات تمردهم على الكنيسة حركات لا يقصد بها الفكاك من الرقابة بل طلب رقابة دينية أتم وأوفي … وقد اعترضوا على البابا لا لأنه الرأس الديني للعالم المسيحي بل لأنه لم يكن كذلك أي لأنه كان أميراً ثرياً دنيوياً بينما كان يجب أن يكون قائدهم الروحي”.
ولكن من الحركات التي كُتب لها النجاح (حركة مارتن لوثر وكالفن) وأمثالهم، وقد كان من أخطر نتائج تلك الحركات وخاصة حركة مارتن لوثر:
أـ أنها حطمت الوحدة الشكلية للعالم الغربي النصراني، وأضعفت السلطة الكنيسة المركزية بكثرة ما أحدثته من مذاهب وفرق لا حصر لها.
ب ـ وضع الأساس الأول والرئيس لنشوء الدول القومية في أوروبا على أساس اللغة والعرق.
ج ـ إحداث انشقاق ثاني في الكنيسة الغربية أدى إلى ظهور مذهباً دينيا نصرانياً جديداً كان سبباً في تدمير أمتنا وضياع فلسطيننا وهو المذهب البروتستانتي.
د ـ ساعدت على نشوء الطبقة البرجوازية في أوروبا، التي دعمت حركات الخروج على الكنيسة والثورة ضد الإقطاع.
هـ أدت في النهاية إلى عودة العلمانية اللادينية الإغريقية ـ الرومانية إلى الحياة الأوروبية بأبشع صورها.
4ـ نشوء الطبقة البرجوازية: لقد أحدثت حركة لوثر وكالفن تحولات ظاهرة في الحياة الأوروبية، وظهرت “الطبقة البرجوازية” مستندة إلى أقوال “لوثر وكالفن”، ومستفيدة من ثمار التقدم العلمي التجريبي وظل دور هذه الطبقة محدوداً حتى بدأ ما يسمى “الثورة الصناعية”، حيث بدأ المصنع يستأثر بما كان للأرض من قيمة ونفوذ واشتد التنافس بين رجال الصناعة في المدن والملاك الزراعيين في إقطاعيات الأرياف.
وهذا التحول بالإضافة أدى إلى تخلخل المجتمع الأوروبي وتغيير بعض ملامحه الثابتة، فابتدأت المدن الأوروبية في النمو وظهرت الطبقة الوسطى “البورجوازية”، فظهر منافس قوي للإقطاعيين يتمثل في طبقة تجار المدن البورجوازيين الذين كانوا بمثابة الطلائع للرأسماليين الكبار. وإلى جانب ذلك كان ظهور الورق والمطابع العامل الفعال في نشر اليقظة الشعبية ضد تحالف الكنيسة والإقطاع وتوسيع ميدانها.
ولكن بظهور الآلات ذات القوى المحركة أصبح واضحاً أن المنافسة الصناعية الحرة لم تؤد إلى النتيجة التي كان يتوقعها الاقتصاديون والفلاسفة السياسيون، فقد كانت الأرباح تعود على أصحاب الصناعة والآلات وحدهم، ونهضت الآلات بأكبر عبء من العمل فامتلأت البلاد بالعمال العاطلين، ووجد أصحاب المصانع الأحرار أن ذلك فرصة لتخفيف الأجور وإطالة ساعات العمل. وتسارعت التحولات في المجتمعات الغربية.
5ـ الثورة الفرنسية: كل تلك التحولات آذنت بهبوب رياح التغيير على القارة وأنذرت بافتتاح عصر جديد مغاير للماضي في قيمه وتصوراته وأوضاعه، وكانت أحوال فرنسا الثقافية والاجتماعية تؤلها لافتتاح ذلك العصر. فكانت الثورة الفرنسية عام 1789م. وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية، فقد ولدت أول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية لا دينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب “وليس باسم الله “، وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة.
وكان نجاح الثورة الفرنسية حافزاً قوياً لبقية الشعوب الأوروبية، فاندلعت الثورات المتتابعة وارتفعت صرخات المفكرين ممن يسمون “دعاة الحرية” منددين بالمساوئ التي يعج بها المجتمع، والقيود التي يرزح الفرد تحت نيرها. وكان هنالك – بطبيعة الحال – فئة واحدة فقط تدرك النهاية الحقيقية والمغزى العميق للعملية، هذه الفئة هي طبقة “الرأسمالية” الذين يمثلون الخلاصة المتطورة للطبقة البرجوازية. وغني عن البيان القول بأن الرؤوس البارزة في هذه الطبقة هم “المرابون اليهود”.
نشوء العلمانية السافرة
وتوالت الأحداث وتعددت الآراء والنظريات والفلسفات اللادينية وخاصة في القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أن نظرية دارون أجهزت على (النصرانية الرسمية)، وأفسحت الطريق لإبعاد الدين بصفة نهائية من التأثير في حياة الغربيين، ومهدت لرفضه رفضاً باتاً حتى في صورته الوجدانية المجردة، إلا أنها تعيد أوروبا إلى العلمانية اللادينية الإغريقية ـ الرومانية. ولكنها بالاشتراك مع نظرية ميكافيللي في السياسة التي عبر عنها في كتابه (الأمير)،أصبحت العلمانية اللادينية هي النظام المسيطر في الغرب كله. فقد (نيقولا مكيافيللي) الذي أطلق عليه لقب “أول المحدثين”، أول من تبنى دعوة علمانية ذاتية في العصور الوسطى، ودعا بصراحة إلى استبعاد الدين وعزله عن جانب مهم من جوانب الحياة، وهو السياسة.
وانطلاقاً من ذلك وجد علم السياسة الحديث بغيته المنشودة في كتابه “الأمير” الذي نشره قرابة عام 1513م، الذي شكل مصدر الإلهام في العصر الحديث بالنسبة للحكام والمفكرين السياسيين على حد سواء. والميكافيلية باعتبارها منهجاً عملياً للحكم تقوم كما رسمها واضعها في “الأمير” على ثلاثة أسس متلازمة مستمدة من تصور لاديني صرف هي:
1-الاعتقاد بأن الإنسان شرير بطبعه وأن رغبته في الخير مصطنعة يفتعلها لتحقيق غرض نفعي بحت ، وما دامت تلك هي طبيعته المتأصلة فلا حرج عليه ولا لوم إذا انساق وراءها.
2-الفصل التام بين السياسة وبين الدين والأخلاق، فقد رسم ميكافيللي للسياسة دائرة خاصة مستقلة بمعاييرها وأحكامها وسلوكها عن دائرة الدين والأخلاق، “وفرق ميكافيللي” تمام التفريق بين دراسة السياسة ودراسة الشؤون الأخلاقية وأكد عدم وجود أي رابط بينهما”.
3- إن الغاية تبرر الوسيلة: وهذه هي القاعدة العملية التي وضعها ميكافيللي بديلاً عن القواعد الدينية والأخلاقية. فالمعيار الذي تقاس به صلاحية الوسيلة أو عدمها ليس معياراً موضوعياً بل هو معيار ذاتي شخصي، وللسياسي وحده الحق في الحكم بصحة أي لون من ألوان السلوك أو خطئه وبطلانه.
وقد أصبحت المعادلة الجديدة في العرب تقوم على أساس أن:
الميكافيللية تقول: إن الحق هو القوة!.
والداروينية تقول: إن الوجود هو القوة.
والداروينية نظرية علمية إذن فلتكن الميكافيللية كذلك.
والذي شجع على الإيمان بصحة تلك المعادلة، هو: أن الحياة الأوروبية شهدت في تلك الفترة انهيار نظام اجتماعي وقيام نظام آخر محله. فقد انهار الإقطاع وولدت الرأسمالية. كما أن السياسة – في ذلك القرن – ارتبطت بالاقتصاد ارتباطاً قوياً فازدادت بعداً عن الدين والمؤثرات الدينية.
وهكذا عادت الأمور في الغرب إلى طبيعتها الوثنية الأولى، وإلى أُصول ديانتها الوثنية البدائية، ولم يعد الغرب ملحداً ولا كافراً بكل فكرة دينية كما يتصور الكثيرين، ولكن الغرب عاد إلى وثنيته التي كان عليها قبل تدخل الباباوات ورجال الدين باسم الحق الإلهي في حياة الإنسان الغربي، وتنغيص حياته عليه، وفرض جدار حديدي سميك من الجهل والتخلف والخرافات عليه باسم الدين.
العلمانية مفهومية دينية..؟!
بقي أن نطرح سؤال ونحاول الإجابة عليه:
هل يمكن أن تكون العلمانية والأفكار اللادينية، دين؟!
للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من:
تعريف الدين في المجتمعات الغربية
يقصد بالدين في مدارس العلوم الاجتماعية وتاريخ الأديان في الغرب، أنه: ظاهرة اجتماعية لها جانبان، هما: جانب نفسي “حالة التدين”، وجانب موضوعي خارجي، وهذا يتضمن العادات والشعائر والمباني والمعابد والروايات المأثورة والمعتقدات والمبادئ التي تدين بها أمة أو شعب أو مجتمع ما. والدين في اللغات الأوروبية (religion)، يرجع إلى أصله اللاتيني الذي يتكون من مقطعين (re) الذي يفيد الإعادة والتكرار، و (ligion) الذي أصله ( legere) ومعناها الجمع والربط. فالدين في أصله اللاتيني الذي ترجع إليه اللغات الأوروبية يفيد معنى الربط والجمع المتكرر مرة بعد مرة.
وكأن اللغة اللاتينية تشير إلى أن مهمة الدين تكون في تحقيق الربط والجمع بين أتباعه. وهذا المعنى نجده في تعريفات العلماء الغربيين، الذين يجنحون إلى التركيز على وظيفة الدين أكثر من التركيز على حقيقة الدين ذاته. لأننا إذا ما استثنينا العقلانيين ومفكرو ما بعد الحداثة، يمكننا إجمال المفهوم الغربي للدين: بأنه “وحدة الربط الميتافيزيقية بين الإنسان والعالم”. أما الدور الوظيفي للدين في المجتمعات الغربية؛ فإنه كما يقول كاسيرر: “يؤدي وظيفة نظرية وعملية لأنه يحتوي نظرة كونية وأُخرى إنثروبولوجية، فهو يجيب على السؤال عن أصل العالم وعن أصل المجتمع الإنساني”.
لذلك يرى مالك بن نبي أن الدين هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن التجارب المتكررة خلال القرون، ويُعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغيرات الإنسانية الكبرى، ولأننا لا نستطيع تناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب، فإن الفكرة الدينية لا تعتبر نسقاً من الأفكار الغيبية فقط، ولا تقتصر على الدين السماوي فقط، بل هي قانون يحكم فكر الإنسان، ويوجه بصره نحو أُفق أوسع، ويروض الطاقة الحيوية للإنسان، ويجعلها مخصصة للحضارة. وعلى ذلك فالإصلاح الديني ضرورة باعتباره نقطة في كل تغيير اجتماعي”.
كما يرى أن دور الدين الاجتماعي منحصر في أنه “يقوم بتركيب” يهدف إلى “تشكيل قيم”، تمر في الحالة الطبيعية إلى وضع نفسي زمني، ينطبق على مرحلة معينة للحضارة. وبذلك يصبح دور الدين الاجتماعي منحصراً في أنه يقوم بتشكيل قيم المجتمع وحركته عندما يُعبر عن فكرة جماعية”. أي بدون الدين لا يمكن أن يكون هناك ناتج حضاري. فالدين إذن هو “مُرَكَب” القيم الاجتماعية، وهو يقوم بهذا الدور في حالته الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية.
لذلك يجد دارسي تاريخ الأديان في الغرب صعوبة في الفصل بين مفهوم الدين ودوره الاجتماعي، فالدين يقوم بدور الربط بين أفراد المجتمع حول فكرة معينة، أو أفكار، أو اتجاهات، أو أي عقيدة أيديولوجية تجمع بين أفراد أمة من الأمم.
وقد اعتبر أرنولد توينبي أن انتصار العلم على الدين انتصاراً ساحقاً يشكل كارثة على العلم والدين معاً، وأن أخطر كارثة يواجهها العالم اليوم هي أن الجماهير ـ وخصوصاً الغربية ـ قد استعاضت عن الفراغ الديني بأيديولوجيات لا تفترق عن الأديان البدائية من حيث وثنيتها حيث عبادة الذات وإن تسترت تحت ستار القومية أو الاشتراكية ـ متمثلة في تأليه الدولة أو الحاكم.
لذلك اعتبر يوسف الحوراني: أن الأفكار العلمية المعاصرة هي نوع من معطيات شبه دينية لعقائد جديدة في فهم العالم. معتبراً أن العقائد القومية والاجتماعية والسياسية، التي لا تزال تعيش في عصرنا وتخضع لعلاقات وروابط مثالية أو ميتا فيزيقية لا تخرج عن كونها مظهراً جديداً من مظاهر الدين رافق تطور المجتمع من بدئه حتى الآن، والذي لا يخرج عن كونه حساً إنسانياً يتخذ أشكالاً مختلفة تختلف بين زمن وآخر، وبين أمة وأُخرى.
ذلك لم يفت مالك بن نبي وهو يُشرح الحضارة الغربية ويشخص أمراضها، ويبرز خصائصها المُمَيِزة لها، حيث أشار إلى الأفكار اللادينية التي سادت الغرب بعد ضعف واضمحلال سيطرة وهيمنة الكنيسة والفكر الديني النصراني، معتبراً إياها “مفهومية دينية” في حقيقتها، حيث يرى “أن الفكرة الدينية لا تقوم بدورها الاجتماعي إلا بقدر ما تكون متمسكة بقيمتها الغيبية … أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية”، وعندما تُفقد هذه القيمة الغيبية، فإنها تترك مكانها، أو تعمل بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، وعلى ذلك فأي مفهومية تطرح نفسها بديلاً عن المفهومية الدينية، هي دين، وهذا ما يحدث في الغرب فالمادية مفهومية دينية في حقيقتها حينما تطرح نفسها بديلاً للدين.
ولمعرفة الدور الفعال للفكرة الدينية في إنشاء الحضارات، علينا أن نتتبعه من خلال تتبع ذلك “الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبعث الحركة والنشاط” ذلك لأن الفكرة الدينية تشترط سلوك الفرد، فتخلق بذلك في قلوب المجتمع بحكم غائية معينة ـ تتجلى هذه (الغائية) في مفهوم (آخرة) وتتحقق تاريخاً في صورة حضارة، وذلك بمنحها إياها الوعي بهدف معين، تصبح معه الحياة ذات دلالة ومعنى، وهي حينما تمكن لهدف من جيل إلى جيل ومن طبقة إلى أُخرى، فإنها حينئذ تكون قد مكنت لبقاء المجتمع ودوامه، وذلك بتثبيتها وضمانها لاستمرار الحضارة.
ذلك هو معنى ومفهوم الدين والدور الذي لعبه في تشكيل المجتمعات الغربية وما زال يلعبه إلى اليوم، وتلك كانت الظروف التاريخية التي نشأت فيها العلمانية في الغرب، فيا ترى هل ما صلح للغرب ـ إن صلح أصلاً ـ يصلح لنا، أو أن لكل مجتمع ظروفه التاريخية وخصوصيته العقائدية، وما قد يصلح لمجتمع ما لا يصلح لغيره، والبشر ليسوا نسخة واحدة مستنسخة على الطريقة الغربية ولا على طريقة روشتة البنك الدولي وصندوق النقد؟!.