|
حزب العدالة والتنمية منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى الحكم 2002 أعلن عن عزمه على للمضي قُدماً في ترتيب وتصفير أزمات تركيا مع جوارها الجغرافي، وإحداث حالة “فروقية” في وضعها ودورها كدولة طموحة, ساعية للتبلور في الشرق الأوسط كمحور ومركز بعد أن كانت مجرد جسر عبور للآخرين, وإحداث تغيرات وإصلاحات موازية في الداخل، وإحداث قطيعة نهائية مع الماضي ونمط العقل الماضوي الإلغائي المزدهر على أنقاض قوميات وإثنيات تمثل لبنة أساسية في النسيج الاجتماعي, واضعاً بذلك نفسه أمام اختبار صعب, إذ رغم كل الانجازات الداخلية الكثيرة في السنوات السبع الأخيرة لكن ما يزال هناك الكثير كردياً وديمقراطياً واقتصادياً لتصبح الصورة الداخلية لتركيا شبيهة بوجهها الخارجية. مشروع الانفتاح الديمقراطي الكبير لحزب العدالة والتنمية تم الكشف عنه لأول مرة في 2001 أي قبل وصوله إلى الحكم بعام واحد, حيث تضمن الموازنة بين تعزيز الحريات في الداخل ومواجهة الأخطار الأمنية، وتصفير المشكلات الداخلية وفي مقدمتها المشكلة الكردية، وتصفير المشكلات مع دول الجوار الجغرافي وانتهاج سياسة خارجية متعددة الأبعاد ومرتبطة بموقع تركيا على تقاطع طرق القوى والمناطق الحيوية في العالم, وقد حققت حكومة العدالة والتنمية خلال السنوات الأخيرة تحولات جذرية فيما يتعلق بالجزئية الخارجية لكن ما يزال الداخل بملفاته الشائكة محاطاً بهالة من الممنوعات والمحرمات، خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الكردية المؤرقة جمهورية أتاتورك طيلة العقود التسعة الماضية. المعضلة الكردية الدستور المؤسس لتركيا الحديثة تم تلبيسه منذ الوهلة الأولى قميص العقلية الإلغائية لكل ما هو غير تركي، متجاهلاً القوميات الأخرى في هذا البلد كالأكراد والأرمن والأثوريين والجركس والعرب, تحت شعار “تركيا للأتراك فقط”، ومن حينها تم إلزام هذه الأقليات باللغة والثقافة التركية، كما أضحى التحدث بالكردية عملاً جنائياً في بلد لا يعترف بوجود أقليات بين سكانه ولا يقر لها بحق الوجود. منذ عام 1925 بدا هناك توجهاً رسمياً داخل تركيا لمسح الانتماء القومي الكردي على كافة الأصعدة قابله الأكراد بثورات وانتفاضات لم تجد لها صداً في العالم رغم ما صاحبها من تصفيات ومجازر واعتقالات تجاوزت الـ1.5 مليون كردي. على أن ظهور عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الكردي التركي وبدء مواجهته العسكرية ضد الجيش التركي 1984 وحتى لحظة اعتقال أوجلان 1999 وما صاحب ذلك من تحولات كردية وتركية وإقليمية, سلطت مجتمعةً الأضواء الدولية على القضية الكردية في تركيا, بصورة اضطرت معها أنقرة إلى الاعتراف بالقضية لأول مرة 1991 ورفع الحظر الكلي عن استعمال اللغة الكردية، واستبداله بحظر جزئي والسماح بانتخاب أول نائبة في البرلمان التركي ممثلة للأكراد هي ليلى زانا قبل أن تعود وتعتقلها في 1994 بتهمة إلقاء خطابات إنفصالية والحكم عليها بالسجن 15 عاماً. الصورة بمفرداتها أشرعت الأبواب أمام قطار التغيير والإصلاح وإحلال السلام داخل التركي بالتوازي مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم 2002 وتغير لهجة انقره تجاه الأكراد بدرجة 180، ومن ثم إفساح المجال أمام مناقشة القضية في أروقة ومؤسسات الدولة, في أبلغ مشهد سلمي عرفته تركيا والقضية الكردية في تاريخها, في دلالة واضحة على تجاوز الخط الأحمر لإرث اللاءات الكمالية الثقيلة, وبدء العد التنازلي للتوجه نحو مأسسة دولة المواطنة المتساوية والمجتمع المنفتح، في وقت باتت فيه أنقرة على قناعة تامة بأن الحل السلمي لقضية الأكراد هو الخيار الوحيد بعد فشل الحلول العسكرية وبوابة العبور الوحيدة لدخول الاتحاد الأوربي. الغام على الطريق لكنها بنظر الأكراد تظل إجراءات شكلية لعدم شموليتها المطالب الأساسية المتمثلة في الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية والكف عن وصف القضية الكردية بأنها مشكلة إرهابية، ومنح الأكراد حكماً ذاتياً موسعاً مع إضافة حزب المجتمع الديمقراطي الكردي المطالبة بإجراء إحصاء سكاني دقيق يجسد مشروع الانفتاح الديمقراطي لأردوغان ويعطي معلومات صحيحة عن عدد الأكراد. مشروع طموح قد يغير وجه تركيا ويكسبها ثوباً وقوة توازي انطلاقتها الخارجية، لاسيما وأنه يحظى بدعم واسع هذه المرة من دول الجوار والاتحاد الأوربي وأميركا، لكن بالعودة إلى التعاطي الميداني نجد أن هناك فرقاً كبيراً بين البحث في جذور الأزمة وتأصيلها، وإجراء إصلاحات شاملة وجذرية تتناسب مع طموحات وتطلعات الأطراف المعنية بالتغيير والحل وبين اتخاذ خطوات شكلية تستهدف قومية بعينها على حساب أخرى وحتى هذا القومية بدا التعامل مع مشاكلها متعرجاً وغير ملامس لجوهر المشكلة وسط تجاهل الأطراف الفاعلة في الأزمة وهو حزب العمال والتهديد المستمر بحل حزب المجتمع الديمقراطي. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالأكراد, لذا لم يكن غريباً ذلك الصخب المستمر على أشده في أروقة البرلمان التركي حول رؤية الانفتاح الداخلي وما صاحبها من اتهامات لحزب العدالة بالانقلاب على مبادئ أتاتورك وتهديد وزعزعة الوحدة الوطنية وتجزئة تركيا رافضة أي حل سلمي لقضية الأكراد, وأردوغان يعلم تماماً أن بيدها مفاتيح الحل والربط وبمقدورها الإطاحة بحكومته في غمضة عين, ولعلى بيان رئيس أركان الجيش إلكر باشبوغ حول الحل السلمي والديمقراطي في غاية الوضوح “احترام المؤسسة العسكرية الفروق الثقافية في تركيا لكنها ترفض تسييسها ولا تقبل بإدراجها في الدستور، عدم الإضرار لأي سبب بشكل الدولة – الأمة والدولة الموحدة الحالي،.., ينبغي عدم نظر أوساط ناشطة في الانفتاح الديمقراطي بإيجابية وانفتاح إلى تنظيم يصادر الحق في الحياة، قاصداً بذلك حزب المجتمع الديمقراطي الكردي”.
|